الشاعر هنري زغيب
“هذا المكان الجامِعُنا اليوم يُجسّد أَجملَ وأَقوى وأَوسعَ جواب لـمُواجهة التوتاليتاريا: جوابُ الفن”.
بهذه العبارة افتـتحت رئيسة بلدية ﭘــاريس آني هيدالغو أُمسية أُوركسترا ﭘــاريس الفيلارمونية غداةَ حادثة “شارلي إِيبدو” قبل أَيام.
وقدمَت الأُوركسترا أُمسيتها أَمام جمهورٍ ملأَ صالة الأُوﭘـــرا، تعبيراً عن الإِصرار على مواصلة الحياة نبضَها العادي، وعن تحدّي ظَلاميةٍ لن تُعَتِّمَ النورَ في عيون مَن يعيشون في النور.
هذا الأَمر تَعرفه بيروت. مراراً كانت تلتـئم على عمل فني كبير غَداة حدَث أَمنيّ كبير، لا تصغيراً حجمَ الحدث بل تَحدّياً الموتَ الذي يحاصر المدينة ويكرّر هجماته، والمدينةُ ترفض أَن تسقُط على قدمَيه فتنشبُ على قدَمَيها وتواصل مسيرتها صوب فجر الحياة الطالع يومياً من إِرادة الحياة في شرايين أَبناء المدينة وأَبناء لبنان.
عن أَندريه مالرو (كاتب فرنسا الكبير وذاتَ فترة مُزهرةٍ وزير الثقافة في حكومة ديغول) أَنّ “الفنَّ تَحَدّي الموت”. وفي سبيل ذلك أَنشَأَ في الوزارة مشاريعَ ثقافيةً ركيزيةً تَحفظ التواصُل والديمومة، ليس أَقلَّها إِنشاؤُه المتحفَ الافتراضي الذي خلّد للزمان الآتي أَعمالَ التشكيليين الفرنسيين حتى لو أَصاب أَصلياتِـها تلَفٌ أَو حريق.
الأَوطانُ الكبرى (الوطنُ هنا غيرُ الدولة التي تَحكُمه) تَـخْلُدُ بنتاجها الإِبداعي يُـبقي تاريخَها نابضاً بأَعلامه وأَعماله. قليلون مَن يعرفون اليوم تاريخَ قصف غيرنيكا وتفاصيلَ عن حلفٍ أَلـماني نازي وإِيطالي فاشي دمّر المدينة الإِســﭙــانية، لكنّ الملايين في العالم يعرفون عمَلاً واحداً كان الجواب عن رفض البربرية الفرنكُوية الفاشية: لوحة ﭘــيكاسو “غيرنيكا”.
وما سوى الـمُعَـمِّقين في التاريخ يعرفون تفاصيلَ علميةً تؤَرّخ حرب طروادة، لكنّ الملايين في معظم لغات العالم يعرفون هذه الحرب عبر 24 فصلاً و15337بيتاً من الشعر خلَّدت تلك الحرب في “إِلياذة” هوميروس.
هذان مثالان عاديان من آلافٍ تُـثْـبِت أَنّ الفن في الوطن: واجهةُ الوطن في حاضره وذاكرتُه لمستقبل تاريخه. والأَمثلة في التاريخ لا تُحصى، ولنا في لبنان الكثير الذي به نعتز، ونفاخر بـمُبدعيه المكرَّسين.
في هذا السياق نَشُدُّ على أَيدي مَن يقدِّمون عروضهم الثقافية الراقية ومهرجاناتهم السياحية اللائقة وسْط حدَث أَو بَعد حدَث، دلالةً على نهر الحياة الذي لا يُوقفُه في لبنانَ الحياة حادثٌ ولا خطَر.
هي الثقافةُ عنوانُنا، والفكرُ طريقُنا، والإِبداعُ الفني المتنوِّعُ بَصمَتُــنا بين الأَوطان.
وفيما ارتعبَت فرنسا من حادثة “شارلي إِيـبـدو” وهرعَت تتّخذ احتياطاتٍ تُطَمْئِنُ هلَعَ مواطنيها، اعتادَ اللبنانيون تَحدّي الهلَع وانتشالَ حياتهم من قـلب الخطر الذي بات رديفاً عادياً لحياتهم اليومية.
*****
(*) أَزرا ر 877