الروائي الجزائري الخير شوار
قال الطاهر وطار: “ظلمت إدوار الخراط ثم اكتشفت أنه من القمم”.
“كثيرا ما تتاح فرص الحديث للكتّاب المكرسين في الجزائر، في الصحف والقنوات الإذاعية والتلفزيونية المحلية، ويتابع الأدباء الجدد تلك الحوارات ليس حبا في الكبار وإنما طمعا في أن «يتكرم» هؤلاء بقولهم إنهم قرأوا لهذا الشاب أو تلك الشابة وأعجبوا بموهبته أو موهبتها. وكثيرا ما يخيب ظن الصغار في الكبار الذين لا يتكلمون إلا عن أنفسهم، وإذا تحدثوا عن الآخرين فوفق أجندة مضبوطة بدقة. هذا ما يجعل الحديث عن ثقافة الاعتراف بالآخر… الجديد، المختلف، غائبا في الأدب الجزائري. وهي معضلة قد نجدها في كل مجتمع، إلا أن المسالة في الجزائر بلغت حداً يستوجب التوقف عنده.
يقال في الجزائر إن بعض الكتّاب المعروفين قلّما يشترون كتابا، وأن معظم الكتب الموجودة في مكتباتهم الخاصة حصلوا عليها على شكل هدايا. فمن العادة أن يأخذ أي كاتب جديد مؤلفه إلى كاتب معروف، منتظرا منه تشجيعاً، وكثيرا ما يصاب بخيبة أمل كبيرة عندما يعود إلى ذلك الكاتب بعد مدة قد تطول، ليفاجئه بأنه لم يقرأ الكتاب أو أنه نسي أمره تماما، ولا يذكر متى تسلمه أو يسفّه ما كتب فيه، وفي أحسن الحالات يكلمه بعبارات دبلوماسية هي أقرب إلى النفاق والتهرب من الموضوع أصلا.
قد يهون الأمر عندما يتعلق بالشبان المبتدئين، لكن أن يتواصل ذلك الشرخ مع كتّاب لهم تجربة محترمة، فهذا ما يدعو إلى التساؤل.. هذا التساؤل حملته «الشرق الأوسط» إلى الأديب عيسى شريط، أحد الفائزين بجائزة مالك حداد للرواية في إحدى دوراتها السابقة عن روايته «لاروكاد (الطريق)». قال شريط بكل تلقائية: «أنا فعلا من ضحايا هذه الظاهرة… ظاهرة عدم الاعتراف بالنصوص الجيدة الجديدة لأسباب أجهلها لحد الآن»، ويؤكد قائلا إن النقاد يساهمون في هذه الظاهرة الخطيرة، وكأنهم متواطئون مع الكتّاب المكرسين أو «كأن الساحة أصيبت بعقم بعد أولئك المكرسين إعلاميا ونقديا».
ويرى شريط أنه انطلاقا من هذا تضرر الكثير من أصحاب المواهب الحقيقية، وماتوا في صمت بعيدا عن الأضواء التي بقيت حكرا على مجموعة محدودة من الكتّاب. ويؤكد أن «الحصار» محكم على أصحاب المواهب من «جيل التسعينيات الأدبي» خاصة أصحاب الوعي النقدي. وعن طريقته في مقاومة ذلك الحصار يؤكد عيسى شريط أنه يكتب «انطلاقا من قناعتي بأن أبدع، وسيأتي حتما زمن يعترف فيه بما أكتبه». وعن الحالات التي اعترف فيها بعض المكرسين بنصوص إبداعية جديدة يقول عيسى شريط إن الأمر استثنائي ودافعه المحاباة بعيدا عن أدبية الأديب الجديد.
ويؤكد رابح ظريف، وهو شاعر صدرت له مجموعة شعرية بعنوان «فاكهة الجمر» عن منشورات اتحاد الكتّاب الجزائريين، ومجموعة أخرى بعنوان «العودة إلى الجنة»، أنه عانى كثيرا من «الحصار» الذي فرضه الشعراء المكرسون حول موهبته الشعرية، ويقول إنه استطاع الإفلات نسبيا من خلال ربط علاقات «مصلحية» مع هؤلاء بعيدا عن الأدب من أجل دخول «الدائرة المعترف بها». ولم يكن الأمر سهلا، بل كان الطريق طويلا والمهمة شبه مستحيلة.
وعن سبب هذا «الحصار» يقول ظريف: «في أي جيل من الأدباء تنشأ حميمية معينة وصراعات قد تطول وارتباطات لا تنتهي، ليكرس ذلك الجيل نفسه ويبقى مصّرا على الوجود من خلال تلك الارتباطات. ومن الصعب محاولة اختراق تلك العلاقات المعقدة بظهور عنصر جديد في اللعبة يمثله كاتب مبتدئ يحاول فرض وجوده وتغيير بنية تلك العلاقة، ولكن في الجزائر تفاقمت هذه الحال بشكل لافت».
لماذا ثقافة «اللا اعتراف» مكرسة بهذا الشكل في الجزائر ربما أكثر من أماكن أخرى؟ نطرح السؤال على ظريف ويجيب بأن السبب هو حداثة التجربة «فنحن من الجيل الأدبي الثالث، وقد اندمج الجيلان الأول والثاني حتى أصبحا جيلا واحدا. ومن المنتظر أن تحدث الكثير من «التمخضات»، وعلى الكتّاب أن يناضلوا كثيرا من أجل غرس قيم جديدة نحن في حاجة ماسة إليها، وعلى رأسها ثقافة الاعتراف بالآخر».
لماذا لا يعترف الكتّاب الكبار بالطاقات الأدبية الجديدة إلا نادرا؟ سؤال وجهته «الشرق الأوسط» إلى أكبر الكتّاب المكرسين في الجزائر حاليا وهو الطاهر وطار، الذي كثيرا ما اتهمه أبناء الجيل الجديد باستحواذه على الأضواء، ومحاولة إقصاء الجدد بطرق غير أدبية.
كان وطار متفهما للسؤال، وقد طرح عليه أكثر من مرة بطرق مختلفة، لذلك لم يفاجأ، وأخذ يجيب بكل تلقائية: «فعلا هناك إشكالية كبرى تتمثل في حق الكتّاب الجدد في نيل مكانتهم ضمن منظومة الكتّاب، وبالمقابل هناك لا أقول تكبر أو تعال وإنما هناك ما يمكن أن أسميه سوء تقدير الجيل السابق لما يأتي بعده من عبقريات. وفي الحقيقة فإن المسألة في النهاية هي مسألة قيم، فلكل جيل قيمه ومفاهيمه الفنية وأعرافه أيضا».
وطار يرى أن ما يعاب على الجيل الأدبي الجديد في الجزائر هو «نوع من العجلة في الظهور ولو أن هذا من حقه. لكن هذا الظهور لا ينبغي أن يكون على مستوى الكتّاب والنقاد وإنما على مستوى المقروئية، فالكاتب ينتزع مكانته من القراء عندما ينال مكانته اللائقة بينهم، ساعتها يحظى بمكانته ويفرض شرعيته»، وعلى عكس ما يطالب به الكتّاب الجدد فإنه يرى أن على الكاتب الجديد أن يعترف بالكبار المكرسين كي ينال حظه بينهم.
وحين نسأل وطار عن جيله، وخاصة انه من المؤسسين للأدب الجزائري الحديث وبالتالي لم يمروا بالظروف التي يمر بها الكتّاب الجدد الذين وجدوا اللعبة مغلقة، يرى العكس تماما ويقول:«أنا كنت في تونس قبل أن آتي إلى الجزائر، وهناك زاحمت الكتّاب التونسيين الكبار وكنت مع الكاتب الراحل عبد الحميد بن هدوقة.. لقد فرضنا قصصنا في الصحافة التونسية قبل أن ننتقل إلى الجزائر».
ويضرب مثالا بأحلام مستغانمي التي «فرضها القراء لا رشيد بوجدرة مثلا». وعن اتهامه بالإقصاء وعدم الاعتراف بالجديد المتميز يقول وطار: «أنا أظلم الناس عندما أقرأهم.. ظلمت مثلا إدوارد الخرّاط، ثم اكتشفت أن روايته «رامة والتنين» من القمم الأدبية، لأني وأنا أقرأ، أبحث عن وطار.. أبحث عما تعودت عليه.. لا وعيي يبحث عن أسلوب الطاهر وطار في كتابات الآخرين. يصعب أن تستخلص رأياً موضوعياً من مبدع في مبدع. ويصعب الحكم على كاتب من خلال عمل واحد، فمها تجنبنا الاحتراف في الكتابة علينا أن نتخصص بمواصلة الكتابة في اللون الذي اخترناه، وكثير من الشبان يغيّرون خياراتهم وهذا خطأ منهم».
ولئن كان هذا هو رأي الطاهر وطار في الموضوع المطروح بحدة في الجزائر، فإن روائيا آخر من جيل جديد هو سفيان زدادقة صاحب «يوبا» التي صدرت عن «منشورات الفارابي» في الجزائر، ثم «كواليس القداسة» التي أصدرها له الطاهر وطار في منشورات التبيين بالجاحظية و«سادة المصير» التي صدرت منها طبعتان عن منشورات «الاختلاف» و«الدار العربية للعلوم» في بيروت.. سفيان يرى أن لا وجود لكتّاب مكرسين أصلا في الجزائر «فليست لنا قمم أدبية وإنما أشخاص لهم حضور إعلامي وسياسي ومصلحي، وهذه النوعية لا يسرها أن ترى مواهب حقيقية صاعدة هي أكثر ثقافة وتطلعا ومسلحة بالنظريات الفنية الحديثة، وهي مؤهلة أكثر من غيرها لأن تتبوأ مكانتها في الساحة الأدبية على عكس السابقين الذين فرضتهم الآيديولوجيا». وفي النهاية يرى الروائي سفيان زدادقة أن الأدب الجيد سيفرض نفسه لا محالة مهما كانت الحواجز.
يبقى الاعتراف من القضايا الشائكة التي تطرح جهارا مرة وهمسا في الكثير من المرات، ولئن كان الكتّاب الجدد يصدمون عندما يقابلون بالجفاء من المكرسين، فإن الكبار، على ما يبدو، لا يزالون بحاجة إلى مديح الجدد، قبل ان يقبلوهم في ما بينهم”.
****
كلام الصور
1- الطاهر وطار
2- رابح ظريف،
3- أحلام ستغانمي
******
(*) جريدة الشرق الأوسط