الروائي ياسيني الأعرج
ما الذي غير وجهة الأقدار نحوي. كنت أعرفها وتعرفني كما النور والظلمة والحياة والموت. أسألك الان حبيبي، من الذي سرق الأمطار من فرحي؟ من الذي سجن أسفاري في علب الخوف.
من الذي حول الشروق ألى بحر أعمى؟ هل هذا الوجه الغارق في الألوان لي؟ هل هذه اللمسة التي أنشأتني لي أيضا؟ هل هذا الشطط الشهي المرتسم على ملامحك، لي؟ هل هذا الشوق الذي انتفى في الحبر الأزرق حتى تلاشى فيه، لي؟ أمد يدي نحو النجمة التي انعكست في النهر لأبحث عن مدك وجزرك، فتعود باردة كليل صحراوي.
تعودت عليك ناصعا في فراش السكينة، بلا ملامح التيه. رأيتك عرسا يقام في كل ثانية في عينيك. ثم رأيتني في غيابك امرأة تلبس خوفها لأن القبيلة التي رسمتها تريدها إيقونة لبؤسها. دعني أدخل لعبة الوهم قليلا. كل شيء فيك ملكي، ولو لوهم قليل، ولو لزمن مثل الريح ينتشي بعواصفه وغيم السكينة. لا سلطان لي فيك ولكني اسجن صورتك، في كل ليلة الونها بأسراري الخفية.
وحدك من يعرفها ويعرفني. مرة بلون المستحيل وأخرى بأجنحة الفراشات المسروقة من ربيع الليلة الماضية، وثالثة بلونٍ أنا من تخيلته قبل أن تنشئه، ورابعة، اضعك في عمق السؤال وأنتشي بحيرتك وتيه المستحيل. أشتهي ان افعل قدر ما يقول قلبي وهبلي وغيرتي وسلطاني عليك. هل نسيتٓ بهذه السرعة؟ ألم أقل لك إذا أردت أن ترسمني أو تكتبني، أعد تشكيلي حبيبي وفق جنون الغيم وشهوة المطر وهبل الريح لأكون أبدا لك. ألم أقل إن القبيلة التي عمقت جرحي سرقت مني أيضا طفولة العصيان وعفوية العاشقة. منحتني كل شيء وسحبتْ مني حريتي.
لك أن ترسمني وفق ما يمليه عليك جرحي، افعل ما تشاء بي، لكن ضمني إليك وافعل بي ما يفعل السيد حين يكسر قيد عبده بلا هوادة. أعد لي بكارتي المسروقة لأمنحها لك. أعد لي تيهي لأراك وفق ما أشتهي. أنا الآن أشبهك، لكني حينما أتركك وألتفت صوبهم، لا شيء أراه سوى سكاكينهم وسيوفهم ورقصة الموت والدم التي مسحت كل فرح من ملامحهم، قبل أن يؤدوا رقصة الموت أمام طوطمهم. أنظر حبيبي من حولنا. لقد ذهب الذين كنا نعرفهم في خواء هذا الليل. خرجوا من الشوارع وارتموا في خوفهم مرة واحدة، فتقسيط الخوف يوقظ المواجع. ناموا على أسرارهم وحكاياهم القديمة، وبقيت وحدي، في تيه العاشقة التي لم تشبع من رجل الصدفة والاقدار.أمد يدي نحو النجمة التي انعكست في النهر، صفراء ثم بيضاء ثم زرقاء ثم حمراء، فتهرب مني ويمتليء كفّي بالماء وبفراغ لا نور فيه إلاك.
هل تعرف ما معنى أن ننتظر من نحب بلا ثقة في الرعشة؟ هل جربتَ أن تنصت وحيدا في صحراء الخوف، لهسهسة الشجرة الوحيدة ولرنين الحشرات وتبعثر الرمل؟ انتبه لي فقط، ستسمع الريشة حين تسقط مرتطمة بالماء، وسترى انتفاضات غيمة القلب وبراكينه الحارقة. تنكسر الرقبة من كثرة الالتفات نحو الأصوات. كل الروائح تعرفها. كل الحركات لا سرّ فيها. يغيب عطرك في رائحة الماء والعرق ورعشة السفينة التي تنتظر زوارها الليليين. تعرف ما معنى ان ننتظر شمسا لا تأتي؟
تصبح لرياح الدنيا كلها وجهة واحدة. تتخفى السماوات والأرض في جيبك، وكلما انتفضت همستَ لها أن انتظري، لي حبيب يصل قلبي بعد ساعة، أو يوم، أو سنة، أو بعد رجفة، وربما بعد عبور. ألم أقل لك يا نبي حواسي كلها إن كل من يعرفك لابد أن يحبك. ومن يراك يصبح فيك ومنك. ومن يصادفك يشتري الصدفة طول العمر لكي يسجنها ولا يتركك تمضي. يوم مددتَ يدك نحوي خفت عليك من شهوتي المفترسة. أنا سيدة الانانيات الكبرى. أنا امرأة اللون والحنين والدوار.
دعني أرسمك لكي أبقيك. أنت سيد اللغة لا قوة تشعلك الا امرأة تشكلك كما تشتهي. في المرة اللاحقة انا من ستتعلق بذراعك وأسحبك نحو شارع بسعة الفرح. قلت لي وأنت تبحث عن ألواني في بؤبؤ العين: يااااه كم تمنح الحرية العاشق اتساعا في القلب؟ كم تنبت لمجنون القلب اجنحة من غيم؟ وكم تمنح الجسد سلطان التمرد والدوار؟ تيه على تيه وأنت ما برحت ساحة الشجن ولا تغريدة الطير المهاجر. انتظارك قسوة وبعدك موت. امنحني فقط فسحة الوهم لأكبر أكثر.
كفي في كفك ولنمض بلا وجهة نحو الأعماق لندرك كم أننا نخسر الدنيا حينما ننسى أنها فينا. تحسس أصابعي الصغيرة التي تعشق سرها والجنون الذي يتخفى فيها. أصابع المرأة هبل قدسي، أو نار، أو ربما قطع من ثلج الموت. لم تعد يدي يتيمة كما كانت. امنحني بعض يقين المطر لأنتظرك أكثر، ثم أكثر وامشي طويلا قبل أن تسرقني القطارات الليلية نحو سرير الغرباء. أنتظرك الآن بلا ملل وأتسلى بوجوه البشر وهي تعبر أمامي كدمى الشمع اليتيمة.
*****
(*) امرأة سريعة العطب باريس. جانفي 2015