الشاعر هنري زغيب
وصلَني أَمس بالإِنترنِت من السويد وثائقيٌّ قصيرٌ صوَّرَه محترفون هواةُ الطبيعة لـمجموعةٍ رائعةٍ من عصافيرَ جميلةٍ جداً ملوَّنةٍ ذاتِ شكلٍ بديع وصوت وديع. وحرص المعلّق في الفيلم على إِبراز روعة الطبيعة البكْر، وأَهميّةِ الحفاظ عليها تُراباً وشجَراً وغاباتٍ ظليلةً وعصافيرَ نادرةً تتعايش معاً، وتُغَنّي لا مهتمةً أَن يسمعَها أَحدٌ بل مزهوّةً بجمالها يزيد من جمال الطبيعة العذْب البَهيّ.
أَولُ ما لَفَتَني، غيرُ العصافيرِ النادرةِ الشكْل والتغريد، نقاءُ الطبيعة الحافيةِ الجمال، والمحافَظ عليها في حرصٍ يَمنعُ التلوُّث والتلَف وحتى الإِزعاج، حتى تَشُعَّ جمالاتٍ ومشاهدَ وأَشكالاً تسحَر البصَر وتُريح النظَر وتُشنِّف البَشَر.
ومرّت في ذاكرتي ملامحُ سياحيةٌ للبنان الطبيعة المنوَّعة والمناظر الرائعة والمشاهد الجميلة يتنافس الفوتوغرافيون – هواةً ومـحترفين- في إِبراز جمالها صُوَراً ملوَّنةً أَو أَفلاماً قصيرة، تعكس بيئةَ لبنانَ الباقيةَ نقيَّةً من دنَس البشاعة التي تقضم البيئة في لبنان.
أَقول البيئة وأَكاد أَنقَضُّ على كلماتٍ تعينُني في الغضب: ماذا فعلْنا ونفعَل بطبيعة لبنان الكانت في أَصل عبارة “لبنان سويسرا الشرق”؟ ومع رفْضي كلَّ تشبيهٍ يُلصَقُ به اسمُ لبنان، أَفهم أَنّ بعضَ تلك العبارة يَقصُد طبيعةَ لبنانَ الفريدةَ وجمالَ بيئَتِه وبَكارى الجمال في مناطِقِهِ ساحِلاً وأَريافاً، صيفاً وثلجاً، خُضْرةً وزُرقةَ مياه. فماذا فعلْنا اليومَ ونفعل لإِنقاذ بيئَتِنا من وحش التلَف والخراب؟
يَنشغلُ المواطنون بأُمور السياسة حتى باتت السياسة خُبزَهم اليوميّ وحديثَهم اليوميّ وهَـمَّهم اليوميّ، بسبب عَراضَات سياسيّـيهم اليومية، ويَغفَلون عن أَن الحفاظَ على ثروةِ لبنانَ الطبيعية والجمالية أَهمُّ من بقاء سياسيّـيهم في مقاعدهم القيادية يُديرون بالريموت كونترول أُلوفاً من الشعب قسَّموهُم أَتباعاً وأَزلاماً ومحاسيبَ وأَنصاراً يقتَــتلون “تحت”، من أَجل قادتهم على المقاعد “فوق”.
يَـنشغل المسؤُولون بالسياسة، وفي “الناعمة” مَطمَرٌ وَكْــرُ جراثيم لا تَجِد الدولة حَلاًّ كي ترفع سَرَطانه عن رئات الناس.
يَـنشغل المسؤُولون بالسياسة، وفي زوق مكايل دواخينُ موتٍ تَرُشُّ سمومَها يومياً على أَهل المنطقة والعابرين فيها من الشمال أَو إِلى الشمال، ولم تجد الدولة لها حلاًّ بعد.
يَـنشغل المسؤُولون بالسياسة، والكَسّارات تقضم جبالنا عشوائياً وتتركُها نهشاً للبشاعة والأَخطار، ولا حلَّ يشغَل بالَ الدولة.
يَـنشغل المسؤُولون بالسياسة، والتلوُّث يقتلُ الناس في مدُنٍ تختنق بدخان سيارات لا رقابةَ على عوادِمِها التي تُعدِم الناس موتاً بطيئاً، وفي بلدان العالم قياسٌ دقيقٌ للعوادم تَنبري له شركاتُ السيارات كي تُوجِدَ أَفضل القطَع في السيارة لتخفيف تلويثها.
يَـنشغل المسؤُولون بالسياسة، ويَشغَلون وراءَهم قطعانَهم فتندثـرُ الطبيعةُ وتنهارُ البيئةُ، والناس مشغولون بالتصفيق الأَعمى لأَسيادهم وزعمائهم، غيرَ مدركين أَن أَهمية لبنان ليست فقط مقعداً رئاسياً أَو وزارياً أَو نيابياً أَو سياسياً، بل هي ثروةٌ طبيعيةٌ إِذا يَــبِــسَت وجفَّت واندثَرت لن يعودَ يَنفعُ مقعدٌ سياسيٌ تَصَحْرَنَتْ حولَه الأَرض فلا يبقى له إِلاّ حراسةُ الجَراد على أَرضٍ قاحلةٍ يُغَطّيها الجراد.
******
(*) إِذاعة “صوت لبنان” – برنامج “نقطة على الحرف”