أَرمينيا: قبابٌ تحرسها السّماء!

د. ربيعة أبي فاضل

RabihaPortraitصديقي عبده لبكي

قرأتُ كتابك عن أَرمينيا، أَرض الشِّعر والإلهام، فلَفَتَني جمالُ التّعبير، يرافقه جلال المقام، في جغرافية عريقة، وتاريخ مقدَّس، وتراث نبيل، له تقاليدُ المشرقة، وقيمُه التي باركَتْها السّماءُ، ووسمتها بصفاءِ لونها، وبنقاءِ جَنَّتها، وبعذوبة ملامحِ ملائكتها.


كتبتَ، يا رجل، بمحبَّة خَلَّاقة، عن وجوه طلعَتْ منها شموس، وعن أَيدٍ زهّرَ في حركتها أَلفُ ربيع، وعن جبال، وأَودية، ومعابدَ رسَمتها الرّوحُ الكونيَّةُ بلطفٍ إلهيّ بهيّ.

وهناك، تركتَ في فضاء كاراباخ، وفي ظلال أرارات، وتحت نجوم لا تنام، حرصًا على تواصل الأَناشيد والصَّلوات، قصائدَ نَسَجْتَ صورها من ريف لبنان وجباله، ولوّنتَ إيقاعاتها، وأَلحانها، من سمفونيّات ينابيعه، وطيوره، وغاباته، فكنتَ الوفيّ ليس لليڤون أنانيان، ولورتان هاكوپيان، وسركيس غيراسوسيان… ولشعراء أرمينيا، وفنّانيها، ورجالاتها، بل برهنت أنّك لبنانيّ، من الشجرة اللبكيَّة، التي تفوّقت في الموسيقى والغناء، والشّعر والرّجاء، كما قلتَ للقارئ إنّ بينَ لبنان وأرمينيا علاقةً كيانيّة، روحيَّة، حيَّة، ووحدةً قياميَّة، تنتصرُ باستمرار، على الأَلم والموت.

وخيرُ دليل على المشترك الأَصيل والحديث، بين الأرضين والشعبّين، قولك إنّ شعب أَرمينيا ذو ثقافة عميقة، جامعة بين تقاليد الشّرق وحداثةِ الغرب، وكنتَ تُلمّحُ إلى المارونيّة، في روما، وانفتاح فخر الدّين على أوروبا، ونحن نحاول أن نبني عالمًا يتحلّى بروح شرقيّة وبعقل غربيّ، فلا يرفض الآخر، ولا يكفّره، بل يُسعف الفجرَ الطّالع من قِمم الجبال المشرقيّة، كي ينبسط نورُه على الحضارة، والثقافة، والإنسانيّة جمعاء. وما كان أَجمل رأي هاكوب موڤسيس (ص 48)، في السِّياق عَينه: «المُهمّ في الشّعر، جماليّته الروحانيّة، ورؤياه الإنسانيّة. الشّعر تاريخ الرّوح، وحقيقتُه، إلى جانب الحقيقة الماديّة. لذلك، يغوص الشّاعر في أَعماق الرّوح، ويرى ما لا يُرى، ليُمجِّدَ الجمالَ الأبديّ».

ورحلتُكَ مختلفة، تُنقِّلُ القارئ من حديقة الشّعر إلى كاتدرائيّة اللاهوت، إلى سحر الطّبيعة، إلى إضاءَة الشّموع بعسل الإيمان، كما قلتَ، فإخالك لا تريد أن تنتشي وحدك بروعة ما رأيت، وما سمعتَ، وما خفقَ له قلبك، فحملتني إلى عالمك، وإلى الواحة الأرمنيَّة بكلِّ رموزها، وتجلّياتها، وحرارة حضورها، ومعانياتها، عبر التّاريخ، وأَسرارها، ومعجزاتها، وثقافتها، ورهبانها، وملائكتها الحرّاس، فوق القباب السّكرى بالإيمان، كما تخيَّلتَها أنت، يا صديقَ الكلمات، والأَزاميل، والمعاني الراقية، والوجد الصّوفيّ، ومارسيل پروست، من دون أن ننسى ألفونس دودي، ولامارتين…

ولا تستغرب إذا عرفتَ أنّ صفحة 63، في الكتاب، جعلتني أَدمع، لأنّي قارنتُ تصرُّفَ الوزير الأَرمني بسلوكيات بعض وزرائنا، وأدركت، كما قال المسيح، أَنّ الكبير حَقًّا يكون لإخوانه خادمًا. صحيح، أيّها الصديق، أنّ أرمينيا هي أَرضُ الشُّهداء، كما أنطاكية، وغيرها، لكنَّها باقية أَبدًا أرضَ الفنّ والحياة، أَرض الشّعر والإلهامات. وبعد، «كيف يمكن ألّا تقف معجبًا أمام شعب ناضل بكلّ ما يملك من قدرة، ومقدّرات، من أجل إيمان راسخ لا يتزعزع؟» (ص 66).

هذه زهرةُ قرنفل أَضَعها، معك، فوق القمّة المشرفة على مدينة «يريڤان»، ومعك أَنحني أمامَ الشّعلة التي لا تنطفئ، وسنظلّ معًا، نجاهدُ في سبيل الشعر وحده!.

*****

(*) 4 نوفمبر 2014

اترك رد