البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي: ماتت صباح، لكنّ صوتها حيّ على مدى الأثير… غاب وجهها، لكن ابتسامتها العريضة على كلّ شاشة وورقة…

يندرج كلام الربّ يسوع، في إنجيل اليوم، في سياق كلامه عن الحياة وما تمتلك من خيرات مادّية وروحية وثقافية وفنّية، إraii -sabah 1نّها وكالة من الله موزّعة على الناس مواهبَ مواهبَ، كما يشاء، من أجل بنيان الجماعة؛ وأنّ كلّ واحد منّا سيؤدّي حساباً عمّا خصّه الله به من مواهب وعطايا وإمكانيات. هذا ما أراده تفسيره في مثل الوزنات.

2. نودّع اليوم المرحومة صباح بالأسى الشديد مع الفرح الذي أوصت به قبيل الرحيل. وهي التي سلّمها الله خمس وزنات من موهبة الفن والغناء فثمّرتها، وها هي اليوم تسلّم الله خمساً أخريات، والعدد يعني كمال العطاء. بفضل هذه الأمانة الكاملة والرائعة من جهتها، نستطيع أن نقول: ماتت صباح، لكنّ صوتها حيّ على مدى الأثير. غاب وجهها، لكن ابتسامتها العريضة على كلّ شاشة وورقة. إنّها جانيت الفغالي ابنة بدادون ووادي شحرور، عمّها شحرور الوادي. معروفة فنّيًّا بشحرورة لبنان وصباح، وشعبيًّا بالصبّوحة، ونتاجًا بالأسطورة.

3. في الصباح الباكر من يوم الأربعاء الماضي أسلمت الروح وأطلّت على عالم الله، في الموعد الذي كانت تطلّ فيه على مسرح الأرض تنشد، والجماهير تمجّد الله في عطاياه. رقدت ووصيتها واحدة: أن يكون وداعها يوم فرح، وبدون حزن وبكاء، يقينًا منها أنّها ترحل إلى رحاب رحمة الله اللّامتناهية، وكأنّها تردّد وصيّة بولس الرسول: “إفرحوا في الربّ على الدوام، وأقول لكم أيضًا افرحوا” (فيل4:4).raii-sabah

فتثبّت يوم وداعها في هذا يوم الأحد. أجل، أدّت صباح، رسالة زرع الفرح في قلوب الجماهير اللّامحدودة، من خلال حوالي أربعة آلاف أغنية بكلّ اللهجات اللبنانية والعربية والمناطقيّة، وتسعين فيلماً مصريًّا ولبنانيًّا ومن جنسيات أوروبية أخرى، وثلاثة وعشرين مسرحية استعراضية وغنائية، وعشرات المهرجانات العربية والدولية. وزرعت الفرح بابتسامتها الدائمة، وحبّها للحياة، بأناقتها وتواضعها، باحترامها للغير والكلمة الحلوة واللطيفة، بسرعة البديهة والنكتة الحاضرة. وزرعت الفرح بنوع خاصّ في قلوب الفقراء والمعوزين وذوي الحاجة، من قريب وبعيد، وساهمت في بناء كنائس وقاعات راعوية بتقديم حفلات مجّانية، باذلة من مالها الخاص وتعبها بدون حساب. فكانت ذروة فرحها أنّها ماتت فقيرة، من دون أن تملك شيئًا.

إنّه “فرح الإنجيل” الذي يدعو إليه البابا فرنسيس. فإذا ملأ القلب، حرّر من الحزن والفراغ الداخلي والعزلة، وحمل على أفعال المحبة والرحمة تجاه كلّ أخ وأخت في عوزٍ وحاجة (الإرشاد الرسولي، فرح الإنجيل، 1 و179).

4. وعت صباح موهبتها بعمر سبع سنوات، عندما كانت تغنّي مع فتيان وفتيات الضيعة، مشغوفة بجوقة عمّها “شحرور الوادي” الذي احتضنها وأحبّها وشجّعها على إنماء مواهبها. وأدركت أنّ غنى موهبتها هبة من الله. فدخلت ذات يوم، وهي طفلة، كنيسة في جل الديب، وأهلها في زيارة لعائلة صديقة في المحلّة، جثت على ركبتَيها أمام المذبح تذرف الدموع وتصلّي ببراءة الأطفال: “يا ربّ، أريد أن أصيرَ مطربة مشهورة. حقِّق لي أمنيتي يا رب”. استجاب الله طلبها ولم تنسَ ذلك، فظلّت مواظبة على الصلاة في كلّ مساء، معتبرة “أن المواظبة على الصلاة كالمواظبة على النوم”، وأنّ الصلاة سلاح نحارب بواسطته الاكتئاب والشدّة في الأزمات والمرض. وتميّزت بعبادة خاصّة للقديسة تريز الطفل يسوع، قديسة المحبة والفرح.raii sabah 2

5. أجل، الفنّ على تنوّعه هبة من الله بمقياس وزنات الإنجيل الذي سمعنا. إذا ثُمّر بكامله، كالوزنات الخمس، جعل الفنان أو الفنانة صورة الله المبدع. هذا ما كتبه القديس البابا يوحنا بولس الثاني في “رسالته إلى أهل الفن” (1999) قال: الله هو مبدع الجمال والخير من العدم، أمّا الإنسان – الفنان فصانعهما بالشكل والمعنى. نقرأ في سفر التكوين، من الكتب المقدّسة، أنّ “الله رأى جميع ما أبدعه، فإذا هو حسن وجميل” (تك1: 31)؛ وأنّه خلق الرجل والمرأة على صورته ومثاله، وأوكل إليهما إكمال عمل الخلق بصنع الجمال والخير. ويضيف البابا يوحنا بولس الثاني أنّ الفنان يعيش علاقة مميّزة مع الجمال والخير. فمَن يشعر في قرارة نفسه بهذا النوع من الشرارة الإلهية التي هي الدعوة الفنية بكلّ أنواعها، يتملّكه في الوقت عينه شعور بواجب عدم التفريط بهذه القريحة بل بتطويرها لوضعها في خدمة الإنسانية والمجتمع والوطن (رسالة إلى أهل الفن، 1 و3).

6. هذا ما فعلته صباح في كلّ مراحل حياتها، فأضحت فنّانة كبيرة بلغت ذروة المجد في لبنان والعالم العربي وبلدان الانتشار. غنّت وأطربت ومثّلت على مختلف المسارح، وأسرت القلوب. ساهمت بالكثير الكثير في نهضة المدرسة المصرية في القرن العشرين، وفي نهضة المدرسة اللبنانية الموسيقية الغنائية المشرقية، وفي نشر الأغنية اللبنانية حول العالم، إلى جانب فنّانين كبار، مصريّين ولبنانيّين. فكانت مسيرتها متنامية ومتألّقة على مدارج الفن والمجد من مصر إلى بيروت وبعلبك وجبيل وكازينو لبنان، ومن باريس إلى فرساي وبروكسيل، فإلى لندن ونيويورك وكندا، ومن لاس فيغاس إلى سيدني. كانت أوّل من غنّى الأغنية اللبنانية الصرف من دون تأثّر بغناء عربي آخر، وأوّل من غنّى فرنسيّاً – عربيّاً في العالم العربي، وأوّل مطربة لبنانية غنّت على مسرح الأولمبيا في باريس، وثاني مطربة عربية تغنّي هناك بعد أم كلثوم بسنة. لقد تربّعت على عرش الفن ثمانين عامّاً، فكانت النجمة المشعّة، والعلامة الفارقة التي ربّما لا تُعوَّض في تاريخ الفن اللبناني والعربي.raii-sabah 5

7. ولأنّها حملت راية لبنان عالياً، وجالت باسمه في العالم عبر الفن الغنائي اللبناني والعربي، وأعلته إلى المستوى العالمي، كرّمتها الجمهورية اللبنانية بالعديد من الأوسمة وأصدرت على اسمها طابعاً بريدياً. ومُنحت الجنسية المصرية والأردنية والأميركية، مع أوسمة أردنية ملكية، ومغربية وسنغالية ومصرية وأرجنتينية. وكرّمها رؤساء جمهوريات ودول: من مصر إلى فرنسا وأميركا وليبيا والعراق وتونس والجزائر وسوريا. وعلى اسمها سُمِّي شارع في مدينة ديترويت من ولاية ميشيغن الأميركية، وساحة في تونس. ومُنحت من الرئيس الأميركي السابق لقب “سفيرة السلام في العالم”. اليوم بغيابها وغياب شاعر لبنان الكبير سعيد عقل وهما ينتقلان معًا من عالمنا إلى عالم الله، ينكسر غصنان كبيران من الأرزة اللبنانية. هذا الفقيد الكبير لقّبها “بحلوة الحلوات”، والراحل الكبير الآخر الفنّان وديع الصافي، الذي سبقها في العام الماضي إلى دار الخلود، سمّاها “ملكة الأوف”. وفي باريس لُقّبت “بملكة أناقة العالم العربي”. وأحد الفنّانين الكبار أطلق عليها لقب “شمس الشموس”.

8. صباح المتألّقة بالمجد رفيعة أيضاً في تواضعها. في مجتمع يتآكله، ويا للأسف، الازدواجية والكذب والحقد، ظهرت صباح شفّافة واضحة أمام الله والناس. لا لغز في حياتها ولا ازدواجية، لا وجهان ولا حياتان، بل وجه واحد وحياة واحدة، لا خبث يشوّه حياتها ولا تستّر. قاعدتها كلمة المسيح في الإنجيل: “ليكن كلامكم نعم نعم أو لا لا. وما زاد على ذلك فهو من الشرير” (متى5: 37). ندّد السيد المسيح بالازدواجيّين ذوي الوجهَين واللسانَين، فشبّههم “بالقبور المكلّسة التي يبدو ظاهرها جميلاً فيما باطنها ممتلئ نجاسة”. ويقول لهم بصرامة: “إنّكم في ظاهركم تبدون للناس أبراراً، فيما باطنكم مملوء خبثاً وشرّاً” (متى 23: 27-28).raii-sabah 6

9. أحبّت صباح جميع الناس، وسالمت الجميع، وسامحت كلّ إساءة، مردّدة مع مبادرة السماح “والله كبير”. واستعدّت للمثول أمام عرش الله، بروح التوبة والصلاة، مردّدة صلاة المزمور: “إرحمني يا الله بحسب رحمتك، وبكثرة رأفتك امحُ مآثمي… فإليك وحدك خطئت، والشر أمام عينيك صنعت” (مز51: 2 و6). وأغمضت عينيها عن أنوار هذه الدنيا، محاطة بدفء عاطفة الأهل والأصدقاء والمحبّين وصلاتهم، راجية أن تنعم بالمشاهدة السعيدة في مجد السماء.

وإنّا معكم ومع كلّ محبّيها وعارفيها نصلّي إلى الله لكي يتغمّدها بوافر رحمته، ويسكب بلسم العزاء على قلب ابنها وابنتها وشقيقها وعائلات المرحومين شقيقها وشقيقاتها وعمّها، وعلى قلوب أبناء عائلة الفغالي الكرام ونقابة الفنانين المحترفين في لبنان. ولنسعَ جميعاً إلى تثمير ما وهب الله كلّ واحد وواحدة منّا من مواهب ووزنات، له المجد إلى الأبد، آمين.

*******

 عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي – في جنازة المرحومة الفنانة صباح – مار جرجس- بيروت الأحد 30 تشرين الثاني 2014.

******

بالاشتراك مع aleph-lam

www.georgetraboulsi.wordpress.com

 

اترك رد