الأديب مازن ح. عبّود
حمل “برهوم” محفظته وتوجه عبر ذلك الطريق المتعرج إلى المدرسة التي استقرت في رأس “كفرنسيان”، وعلى بعد عشرات الأمتار من “الشير” الذي هو حائط يقي “كفرنسيان” شرور الأيام. كانت الطريق تحمله إلى كروم التوت والكرمة والزيتون. وقد كان يتوقف في محطات عدة كي يستريح ويراقب الطبيعة الراقدة في ثبات الشتاء العميق، وبخاصة في الطريق إلى المدرسة وليس العودة منها.
ثمّ إنه كان يعرّج في دربه على المنازل الضاربة على الطريق. فتطل “أفدوكيا” على الشرفة لكشف حركة المرور. وكان يستمع إلى “أبي سعدى” يتشاجر مع أمه، وإلى “جميلة” تنهر زوجها. وكانت الطريق تجاور بيت الخوري الذي غالباً ما كان يتمشى متمتماً وممسكاً مسبحته، ويصبحه، فيردّ التحية ميكانيكياً من دون أن يتطلع إليه. ولكم هرول قرب منزل “جليلة” مخافة أن يناله سطل مياه آسنة.
كان يستمع إبان مشواره إلى نشرات أخبار الراديو التي كانت تصدح من حول المنازل. كان يحاول أن يجد خبراً لمذكرة تقضي بإقفال المدرسة بسبب اغتيال زعيم ما، أو حصول مجزرة مثلا، أو استتباب وضع أمني غير مستقر، فيعود من حيث أتى.
إلا أنّ ألوان الخريف كانت تخطفه وأمواج السحاب تنتزعه إلى دنياها. فتعلّم أن يتقن فنون رصد الأحوال الجوية من أشكال الغيمات وتحركاتها في أديم السماء. عشق تأمل الطبيعة في كل فصولها. وقد انعكست عليه الفصول. فصار يستكين في الثبات. ويتجدد مع الربيع. وينتفض في الصيف. ويتأمل في الخريف.
أخبار العواصف الثلجية شغلت باله. فأدمن النشرات الجوية أيضاً. فالثلج يعطل المدرسة. ويدخله ممالك الخيال. ولكم أعجب بالكلاب التي كانت تشاطر الأولاد رغبة العدو في حقول الثلج!! فتروح تسطر بأقدامها لوحات على السجاد الأبيض تؤرخ لأنشطتها . وتخرج “أولاد آوى” في ليالي ما بعد الثلجة المقمرة والمقززة، كي تؤدي أغنياتها على الحلبة البيضاء المضاءة بإطلالة القمر والنجوم.
مثّل الثلج بالنسبة إليه رسائل سلامية من العلى إلى الدنى. ومن حق الطبيعة أن ترقد لبعض الوقت. من حقها أن تلبس البياض فتغازل الكواكب. تصير عروساً للناظر إليها من فوق فتبادله أنواره، أنواراً.
إلا أن تلك العاصفة أتت مختلفة. فقد حصدت الخوري الشيخ المتوحد يوئيل الكبير، الذي كان يلاطفه دوماً إذا ما التقاه في الهيكل، ويسأله عن اسمه دون أن يتكبد عناء حفظه عن ظهر قلب. وقد قيل فيه في “كفرنسيان” إنه قديس، وإنه تحرر من المادة، فصار ينطق بلغة الملائكة. فكان أن مضى مع سائر حملة شموع الهيكل لوداعه. فوجدوه مسجًى في صحن الكنيسة في بدلته الكهنوتية، وقد أُضيء قنديله، وغُطي وجهه بستر القرابين، يحمل إنجيله.
قيل لهم إنه أبحر. وقد حمل معه عدته. قيل إنه توجه إلى ربّ الأجناد. لم يحضر جنازته إلا ابناء رعيته إذ إنّ “كفرنسيان” قد عزلت عن عالمها. لم يتصور “برهوم” يوماً أن يسمح العلي بموت كاهنه. فكان أن حزن كثيرا. وصار يعير كلام ركن الحزب الشيوعي “يعقوب” اهتماماً، وقد كان يقول إن الله اغتيل في أوروبا في عصر الأنوار.
إلا أنه مساء أبصر في الحلم موكباً مهيبا من الأضواء والملائكة تحمل الكاهن الشيخ وسط غيمة من التسابيح والبخور، وحتى الكلاب وأولاد آوى كانت على الثلج تهلل. رأى ريحاً تعصف بالثلج وتجعل منه زوبعة تتلألأ على ومضات البرق. وحملت الزوبعة الصندوق الخشبي إلى فوق. ثمّ خرج من الصندوق الشيخ وتوجه إليه قائلا: من نشأ في الحياة لا يغلبه الموت يا بني. لا تصدقهم يا بنيّ. إنهم فقط يظنون أنهم اغتالوا الإله ودفنوه في الكنائس. وها هم بالأمس، اغتالوا الإنسان، وهم يغتالونه في كل يوم بعنفهم وحروبهم وعولمتهم. مساكين هم يا “برهوم”، لا تصدقهم”. سرّ الصبي إذ أدرك أنّ الخوري الشيخ حفظ اسمه أخيراً، فاضحى يخاطبه من دون أن تتلعثم شفتاه في إلقاء الحروف. فأدرك أنّ شيئاً ما قد حصل له. علّه ولد، علّه تجدد.
******
اللوحة بريشة الرسام التشكيلي اللبناني ميشال روحانا