الشيخ سامي أبي المنى
يُسعدُني ويُشرِّفُني أن أُشاركَكم وقائعَ هذا المؤتمر، شاكراً مركزَ الملك عبدالله بن عبد العزيز الدولي لحوار الأديان والثقافات على المبادرة والدعوة، وناقلاً تحيات وتبريكات صاحبِ السماحة شيخِ عقل طائفة الموحدين الدروز في لبنان الشيخ نعيم حسن، وتحيات أخواني في المجلس المذهبي للطائفة.
أثمن عقدَ هذا المؤتمر في هذا الوقت العصيب الذي تشهد فيه منطقة الشرق الأوسط وبلاد الشام وما بين النهرَين، احتدامَ الصراعِ المذهبي وغليانَ الشعور الطائفي وطغيانَ العنف والعنف المضادّ في أكثر من ساحةٍ وبلد، ومحاولاتِ الشعوب لتحقيق قسطٍ أكبرَ من الحقوق المشروعة في أوطانها، وقد تحوّلت بعضُ ساحاتها إلى ساحات عنفٍ وإرهاب واستنزافٍ، نتيجةَ السياسات الخارجية المُحرِّكة، والتناقضات الداخليةِ العميقة، وتسلُّط الأنظمة، والكبت الاجتماعي والسياسي الطويل، ما يُحتّم التبصُّرَ بأحوال الشعوب المتألمة، وكيفية التصّدي للمشكلات القائمة والمستجدّة.
إنّ التحديات الجمّة التي نواجهُها، ومنها تلك المتمثلة بسلاح الاتصالات والتواصل الاجتماعي والإعلام والتربية، تتصدّرُ الأهميةَ والاهتمام، لما يمكن أن يحملَه ذلك السلاح من حدَّين متناقضَين، واحدُهما حدُّ الحريةِ والانفتاح والتواصلِ الفكري وتقريبِ المسافات، وثانيهما حدُّ التحريضِ وإثارةِ المشاعر وتأجيجِ النزاعات. فمثلما تنمو الحرية وتُحصَّنُ بالإيمان والوعي والثقافة والحوار، كذلك تنمو الكراهية وتتضاعف أسبابُ العنف بالانغلاق والخطاب التكفيريّ والتعبوي وقمعِ الحريات، عبر وسائلِ الإعلام المحرِّضة ورسائلِ التواصل الاجتماعي المفخَّخة وبرامج التربية المتزمتة وأفكار التعصُّب الفتّاكة، وهذا ما يؤكّدُ دورَ المؤسسات الدينية والمدنية والتربوية، في مواكبة التغيير الإيجابي نحو الأفضل، بحكمةٍ ووعيٍ للمخاطر، وبترفُّعٍ عن المصالح الشخصية والفئوية والسياسية والحزبية في سبيل المصلحة الوطنية والإنسانية العامة.
وفي هذا الإطار، اسمحوا لي أيها الكرام أن أنقل إليكم نموذجاً متقدِّماً من لبنان، ومن الجبل خصوصاً، حيث يعيش المسيحيّون حياةً مشتركة مع أخوانهم ومواطنيهم المسلمين، وعلى الأخصّ الموحّدين الدروز، وقد جاء أجدادنا إلى تلك البلاد منذ ثلاثة عشر قرناً، مدافعين عن الثغور العربية الإسلامية، ومقدِّمين التضحيات الجسام، حفاظاً على الأرض والوجود والهوية، وحيث اختبرنا معاً قساوةَ الحروب الأهلية الطويلة، وقد شكّلت الآلامُ والخسائرُ الباهضة دروساً وعبراً لنا جميعاً، حتى بات جليّاً لدينا أنّ العنفَ والصدام ومحاولات الإلغاء والتهميش والتحجيم لا تُجدي، وأنّ التعاطي الإيجابي الواقعي والتوافق أجدى وأنفع، وأن التنوَّع الذي مَنَحنا إياه الخالقُ تعالى هو عاملُ غنىً للمجتمع، أراده اللهُ تعالى، بقوله: “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ….”، وهذا ما ينطبق على الغنى الذي يوفّرُه تنوّعُ المذاهب في الدين الواحد، وليس فقط تنوُّعُ الأديان.
لقد بات جلياً للجميع، أيضاً، أنّ صيغةَ العيش المشترك تظلُّ السمةَ الأساسيةَ الأرقى في المجتمع التعدُّدي، وهي صيغةٌ ضامنة يجب الحفاظُ عليها وتحصينُها وتطويرها، لتنمية الوحدة في التنوّع ومواجهة الطائفية والمذهبية والانقسام، ولإثبات روحانية الأديان وسموّها، وقد أدرك اللبنانيون لاحقاً، أن ذلك لا يكون إلّا بالحوار وتبادل الخبرات، وتنمية روح الصداقة والمحبة بين الشباب، في مختلف ميادين الحياة، والتركيز على تغذية القيم المشتركة، وهذا ما شكّل موضوعَ اهتمامنا، منذ عقود، على مستوى المرجعيات الروحية والمؤسسات الحوارية والتربوية والثقافية والاجتماعية والأفراد، لمواجهة المخاطر التي تهدِّد تلك القيم، وهو ما يأتي في صلب توجُّه طائفة المسلمين الموحدين الدروز، التي تجد نفسها في الموقع الوسطيّ اللاحم للكيان الوطني والضامن للعيش المشترَك، وهذا ما تؤكده حقيقةُ معتقدهم النابع من جوهر الإسلام، وما تجسّده مؤسساتُهم الدينيةُ والتربوية.
إنّ الدين، بنظرنا، ليس غايةً، بل هو وسيلةٌ لخدمة الإنسان ومساعدته لتحقيق إنسانيتِه، والتوحيدُ هو الطريقُ الأفضلُ لفَهم الذات وفَهم الآخر والمصالحة مع الله ومع الناس، وبالتالي لبناء السلام، فلا يجوز أن يُساء استخدامه في الحقل السياسي، وأن تتحوّلَ وظيفتُه الى مهمة توليد الصراع وصناعة الحروب، ولا يجوز لنا، نحن أتباعَ الديانات السماوية وأتباعَ العقائد الفكرية المتعدِّدةِ المبنيةِ على تعاليم الأديان وقيمها، أن نشتركَ في صناعة تلك الحروب، بل لا يجوز لنا، على الأقلّ، إلّا السعيُ لإبعاد كلِّ أسباب قيام الحروب والصراعات الدموية، وبالتالي إلى تحقيق أسباب قيام السلام.
إنّ ما يحصل في كلٍّ من سوريا والعراق وغيرِهما من البلدان المجاورة يساهم في أن تصبح المتاريسُ المذهبية والدينية أقوى وأمتن، وصخورُ المعتقدات أصلبَ وأقوى، فيما المطلوبُ تغذيةُ المؤمنينَ بالروحانية والعقلانية وغرسُ بذور الرحمة والمحبة في المجتمع، مهما اختلفت الاجتهاداتُ وتعدّدت الفروقات، وإفساحُ المجال لحرية التعبير والمعتقد والتنوع الديني، ضمن الاحترامِ المتبادَل والتعاملِ الإيجابي بين جميع المكوِّنات والمجموعات. وهذا ما يمكن فعلُه، وجوباً، من خلال برامجَ إعلامية وتربوية واجتماعية، تركّزُ على الخطاب الديني المعتدِل، وعلى رفع مستوى الثقافة الحاضنة للتنوّع الديني والمذهبي، وتوسيع مساحة الحوار المطلوب، عبر الأنشطة المتعدّدة والمتنوّعة التي تطالُ المدارسَ والجامعات والجمعياتِ الأهليةَ والمجتمعَ المدني وأهلَ الفكر والثقافة والمسؤولية القيادية.
إنها مهمّةُ المؤسسات الدينية والنُّخَبِ الفكرية المثقَّفة الواعية، الرسميّةِ منها والأهليّة، في الحفاظ على الضوابط والمبادئ وأخلاقيات المواطَنة والعيش المشترَك، وفي نقل التجارب المتقدّمة والخبرات الناجحة في العلاقة مع الآخر، ودرسِها والإضاءة عليها وإبراز مستواها الراقي وغاياتها النبيلة، والتأكيدِ بأنّ تلك العلاقةَ الإنسانيّة تُعزّز موقعَ الدين في القلوب، ولا تُناقضُ إيمانَ أحدٍ، مهما يكن دينُه ومذهبه، إذ ليست تلك العلاقة مع الآخر نقيضاً للإيمان الديني ولا سبيلاً لهدم أُسس الدين ولأصوله، وبالتالي ليس الحوارُ سبيلاً لبناء دينٍ جديد، بل هو وسيلةٌ للارتقاء بقيَمِ الأديان ومبادئها إلى حقيقتها الواحدة الجامعة، والسعيِ من خلالها إلى عيشٍ كريمٍ في حياةٍ آمنة مستقرّة خيِّرة، نحارب فيها الشرَّ معاً، ونجني ثمارها الطيّبة معاً، ونبني فيها معاً، مستقبلَ أجيالِنا وعالَمِنا الواحد القائم على الشراكة الإنسانية.
إننا، في هذا الشرق الجامعِ للأديان التوحيدية، بتنوّع مذاهبها وغنى اجتهاداتها، والمتصدِّرِ اهتماماتِ الدولِ عبر التاريخ، والحاضرِ دائماً كهدفٍ أساسيٍّ في لعبةِ الأُمم، نجد أنفسَنا كالقابضِ على جمر التناقضات المتراكمة، فإمّا أن نُحوّلَ التنوّعَ نوراً يُضيُ العالَم بأسره، وإمّا أن نُشعلَه ناراً تَحرقُ الجميع، ولا بدّ لنا إزاء هذا التحدي الكبير من إقامة التسويات الجميلة والتوازن العقلاني بين ما هو مطلوب وما هو واقعي، وبين قيم الدين والأداء السياسي، وبين ما هو مُمكن وما هو مستحيل، وبين ما هو ثابتٌ وما هو قابلٌ للتغيير، كما بين الهوية الوطنية والانتماء الديني والروحي.
لذلك، نرى ما يراه المؤمنون المتنوّرون، بأنّ المجتمعاتِ المتنوِّعة، كمجتمعاتنا، والتي تضمّ المجموعات الدينية أو الإثنية القليلة العدد نسبياً، ونحن منها، لا يمكن أن ترتاحَ أو تطمئنَّ إلّا باندماجها في ثقافةٍ وطنيةٍ موحِّدة وحضارةٍ جامعة، وفي ظلّ جوٍّ من الحرية الدينية تعيش فيه خصوصياتِها وتقاليدَها، ويشعرُ فيه أبناؤها أنهم مواطنون متساوون، في دولة الخير والإصلاح، دولة المواطَنة الجامعة التي تحترم الدين وتتناغم معه بدل أن تعزله، فتستمدّ روحيتها من روحه، دولةٍ ترعى الجميعَ في ظلّ ثقافة القانون وحكم العدالة.
من هذا المنطلَق، فإنّ دوراً فاعلاً في هذا المجال، ينتظرُنا لرصد ومواجهة خطابِ الكراهية والتحريض والعنف باسم الدين، على الأقل، وللتأكيد على خطاب الاعتدال والإنسانية الجامعة، المستمِدِّ روحَه من روحانية الدين وقيمِه الأساسية، كما لا بدَّ من تصويب التوجهات من أجل تغليب لغةِ العقل والكلمةِ الطيِّبة على ما عداها، لغةِ الجمع، لا التفريق، لغةِ الإنسانيةِ الرائعةِ في مظهرها وجوهرها، أي لغةِ الرحمة والمحبة المطهَّرَةِ والمطهِّرة من الكره والتعالي والاستئثار، والمفعَمة بمعاني التسامح والإيثار، وتلك هي لغةُ السلام الذي بشّرت به المسيحية، والذي حضّ عليه الإسلام، والتي نؤكِّدُ عليها في مسلك العرفان والتوحيد، ليس من باب الخوف على المصير، بل من باب الإيمان الراسخ لدينا بأنها لغةُ الحياة والإنسانية. والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاتُه.
*****
(*) مداخلة الشيخ سامي أبي المنى رئيس اللجنة الثقافية في المجلس المذهبي لطائفة الموحدين الدروز في لبنان، ممثلاً للطائفة، في جلسة النقاش الثانية ( دور المؤسسات الدينية والمجتمع المدني في بناء السلام ) في مؤتمر “متّحدون في مواجهة العنف باسم الدين… دعماً للتنوّع الديني واالثقافي في العراق وسوريا”، بدعوة من مركز الملك عبدالله بن عبد العزيز الدولي لحوار الأديان والثقافات، المنعقد في فيينا في 18و19 نوفمبر، 2014.