الكاتب فؤاد شمالي
لم تكن الأديبة اميلي نصرالله تتصور أن تتلقّى في يوم تكريمها بجائزة واكيم السنوية- بدلاً من الدرع التقليدي
المعروف- درعاً من نوع آخر… فلقد تسلمت من يد وزير الثقافة روني عريجي منحوتة خشبية مصقولة بشكل طائر كبير يفرد على المدى جناحيه، وهي تشي بعمل فنان حساس متمرس.
حمل هذا الدرع الفريد توقيع الفنانة رنا البساط التي استوحت تصميمه من الرواية الأولى لاميلي نصرالله “طيور أيلول” في استلهام حركة الطيور، وانطلاق أجنحتها الموحي بالآفاق الواسعة، والانعتاق، والحرية.
التقينا للمناسبة بالفنانة الشابة رنا البساط في محترفها وكان لنا معها الحوار الآتي:
هجرة الطيور
كيف خطرت لك فكرة هذه المنحوتة وكيف تم تنفيذها؟
لقد قرأت وأنا في المدرسة كتاب “طيور أيلول”، وانطبعت في ذهني رفرفة أجنحة كثيرة وطيور ممشوقة تملأ السماء في صفوف مذهلة. كنت أيضاً أنتظر سنوياً كل خريف هجرة الطيور من على شرفة منزلنا في جبيل وأراقب حركتها بإعجاب وفرح.
عندما علمت بتكريم الأديبة اميلي نصرالله، قفزت إلى ذهني صورة طير يفرد جناحيه على لوحة التكريم، كأنه سيطير للتّو إما للهجرة وإما للعودة . قصدت أن أنحته في الخشب، والخشب مادة تراثية تشابه في تقشفها ونبلها شخصية اميلي، ومن خشب فاتح اللون يتفاعل مع عمر المنحوتة ويتحول لونه مع الزمن، كي يمنح كل سنة وجوداً مختلفاً لمنحوتة صامتة. كما قصدت صقل الأجنحة كي تشابه بسطحها الأملس الحصى التي تصقلها تحولات الطبيعة، فتقارب الخلود… وكان نحت إنحناءة جناح العصفور أهم عندي من تحديد واقعية شكله، مما منح المنحوتة إيحاء وروحا”.
كيف تعرفين عن نفسك؟
أنا فنانة تشكيلية تخرجت من “الجامعة اللبنانية الأميركية” في “الغرافيك ديزاين”، ولكن التأثير الكبير كان للجو الذي تربيت فيه، حيث كانت جدران المنزل في بيروت لا تتسّع للوحات الفنية التي اعتادت عيني من خلالها على التأمل والتذوق.
أما في جبيل، فقد كانت الطبيعة، كما كانت الأحجار القديمة، والآثار منبع خيالي وتذوقي، وكان جدي رفيق يدعوني إلى محترفه للموبيليا الفنية، مثيراً فيّ حس الاتقان والإبداع.
لن أفشي سراً إذا قلت أن أمي د. إلهام هي مؤرخة فنون وأستاذة جامعية في هذا المجال، وفي كل أنحاء البيت تتراكم الكتب الفنية كوليمة لا تنتهي. إنما أعتقد صراحة أنني لا أزال طفلة تلعب على شاطئ بحر جبيل وتبني بالحصى ورقة، والرمل والألوان والموج منحوتاتها الخيالية.
ما هي المواد التي تعملين عليها؟
-حتى اليوم لا تزال كل المواد تجتذبني، وكل التجارب تحفزني. فلقد بدأت أولاً بالرسم الكلاسيكي واستخدام الأكريليك على قماش مشدود، وانتقلت إلى الرسم السريع بالحبر الصيني والنحت في الخشب والحجر، ثم أخيرا” استخدام الخيط المعدني القوي لصنع بورتريهات تجمع بين الواقعي والتجريبي.
التجريد الواقعي
كيف تصفين مسيرتك الفنية وأين أنت الآن؟
-مسيرتي تنحو إلى التجريد الواقعي، فلقد رسمت بالأكريليك على لوحات كبيرة إيحاءات الطبيعة مثل حركة أشجار الحور أمام شرفتي في جبيل على خلفية الألوان التي تكون المشهد، ثم انتقلت إلى رسوم سريعة مثل الإسكتش، تلتقط الميزة الأساسية للشخصية والحركة السريعة لأشخاص غرباء ألتقيهم في الشارع أو أراهم في المقاهي. وهذه الرسوم أحوّل بعضها إلى منحوتات بالخيط المعدني مع وصلاته وفراغاته الموحية والفضائية.
أعتقد بأنني لا أزال أفتش عن شيء لم تقله بعد لوحاتي أو منحوتاتي، وهذا التفتيش يحمل معه لذة المفاجأة والخلق… لذا أتمنى في قرارة نفسي أن أبقى دوماً في هذه الحالة…
ما هي مفاهيمك الفنية؟
تكوّنت مفاهيمي من خلال عملي وثقافتي الفنية وأكاد أقول من خلال أطباعي ومزاجي النفسي. أنا أميل إلى اللوحة التي لا تفصح بمقدار ما توحي، وإلى اللوحة التي توحي بالأمل والاقبال على الحياة، ولذا أميل إلى الألوان القوية ذات الشخصية الفرحة. وأميل إلى التجريد والاستغناء عن كل الزوائد التي تفيض عن المعنى. فالفن أرقى وسيلة للوصول إلى تذوق الجمال والسلام. قد أميل أكثر إلى التيار الفني “المينيماليست” الذي يحتفظ فقط بالخط واللون الأساسي.
أما بالنسبة إلى رسومي بالحبر الأسود على الصفحة البيضاء دون أي زخرفة، فهي تهدف لإيصال الشعور الخاطف الذي شعرت به في لحظة الرسم، سواء كان احساساً بالفرح أو القلق أو الغضب أو الطرافة.. وأنا أفضل هذه الأخيرة.
ما رأيك بالفن المعاصر؟
هل تصدق أنني كفنانة عارفة أكاد أضيع وأحياناً أغضب في متاهات الفن الحديث وإنجازاته، فكيف بالشخص أو المتذوق العادي؟
لقد حدث انقلاب عميق وكبير في مفاهيم الجمال والقبح والتذوق الفني. فاليوم كسرت اللوحة حدودها، وتحولت أحياناً إلى تجهيز وتركيبات فنية تحتاج إلى من يفسّرها أو إلى استعراضات غريبة مذهلة رائعة أو منفرة أو عادية. وقد ساهم التبادل الاستهلاكي في إنتاج سوق للوحات الفنية تغذيه الثروات الطائلة وقد لا يعطي الفنان الحقيقي حقه… إنما سيغربل الزمن الفن الصحيح من الاستعراض العابر.
“أكاديمية الخالدين”
ما هو الإنجاز الذي تفخرين به أو تتوقفين عندك في مسيرتك الفنية؟
لقد ساعدتني الظروف على أن أكون مصمّمة لسيف عضو منتخب في الأكاديمية الفرنسية هو البروفسور كريستيان روبان، صديق العائلة منذ أمد بعيد. وعندما انتخب لاختصاصه في حضارة اليمن كعضو في الأكاديمية الفرنسية التي تسمى “أكاديمية الخالدين”، حاولت أن أستوحي من الحضارة الحميرية أكثر رسم متكرر، وهو الجدي المقوّس، وجعلته مقبض السيف، وحفرت على السيف بهذه اللغة أسماء ملوك اليمن واسم البروفسور روبان، ساعدني في التنفيذ، بالخشب و الفولاذ، الفنان الحرفي رفيق الكلاّب، الذي أتعاون معه دوماً في محترفه في عمشيت . وقد دعيت إلى صالة الاحتفالات في السوربون عند الاحتفال الرسمي لتسلمه السيف، وهو قد أشاد به كما أشاد بلبنان وقوة شعبه وإبداعه.
من هو الفنان المفضّل لديك؟
كم أنا سعيدة لأنني استطعت أن أزور مطولاً اللوفر والمتحف البريطاني ومتاحف نيويورك وإيطاليا، وأن تتذوق عيني كل هذا الجمال.
لذا كان يصعب عليّ تفضيل فنان على غيره. ولكن عندما أغمض عيني وأخلو إلى نفسي يميل قلبي إلى لوحات الفنان دافيد هوكني، لألوانه القوية وجرأته ورسمه للحياة اليومية وكأنها خالدة، والتقاطه للمعة الأساسية في أي منظر عادي. من الأكيد أن إبداع واتقان ليوناردو دافنشي يدهشني دوماً، لكن مصدر وحيي السري هو الفنان موندريان الذي أعتبر أن التربيعات والمستطيلات التي يرسمها سكنت يده عشرات السنين من مناظر وأحداث ورؤى قبل أن تبدو مجردة بسيطة.. أحبّ أن أتخيل لوحاتي أحياناً مطبوعة مثل لوحاته على ثياب وفساتين وكما خلد لوحاته إيف سان لوران… ربما… سأحلم!
كلام الصور
1- 2- “طيور أيلول”
3- من أعمالها
4- أمام إحدى لوحاتها، تعرض منحوتة بالسلك المعدني لـ “غاندي” خلال مشاركتها في معرض جبيل 2014
5- رنا البساط مع العضو المنتخب في الأكاديمية الفرنسية البروفسور كريستيان روبان والسيف الذي حمل توقيعها
6- رنا البساط
7- د. الهام كلاّب البساط خلال تسليمها الروائية املي نصرالله الدرع الذي يحمل توقيع كريمتها رنا
8- 9- 10- من أعمالها
******
بالاشتراك مع aleph-lam
www.georgetraboulsi.wordpress.com