“مصر الثورة”: دراسة لسانية في عفوية التعبير

د. عبد الرؤوف سنّو (*)

في الكتابين الأخيرين لعالم اللسانيات نادر سراج “الشباب ولغة العصر”  و”مصر الثورة وشعارات شبابها – دراسة abed 1لسانية في عفوية التعبير” ■■ يستوقف القارئ القاسم المشترك اللساني والاجتماعي للكتابين، وهو الشباب – لغة العصر، والشباب – النتاج اللغوي – الثورة.

في الكتاب الأول، يلقي المؤلف الضوء على دور الشباب في تطوير لغة مستجدة عربية مهجّنة بكلمات أجنبية، واستخدامها في وسائل الاتصال الإلكترونية وفي مناحي الحياة الاجتماعية. وبالنسبة إلى الكتاب الثاني الذي نحن بصدده، يتناول المؤلف دور اللغة في إنتاج شعارات الثورة المصرية (ثورة يناير 2011)، وهي شعارات تتمتع بخواص لسانية اجتماعية سياسية خصبة ومتنوعة وتتميز بتعدد صيغها التعبيرية.

قسم الباحث سراج كتابه إلى ثلاثة عشر فصلاً تدور حول مدونة من 1700 شعار أو مفتاح دلالي ، شكلت قاعدة المعلومات لنتاجه الأكاديمي الثقافي الاجتماعي السياسي الشيّق. واستخدم مناهج عدة في دراستها وتحليلها، من علوم اللغة، واللسانيات، والاجتماع، والتاريخ، والأدب المقارن، والسياسة، وعلم النفس، والبحث الميداني، وتكنولوجيات الاتصال، لتفكيك الشعارات وتصنيفها وتبويبها ومقارنتها بمثيلاتها، والتحقق من منتجيها وظروف إنتاجها، والربط بينها وبين منتجيها ومتداوليها، وصولاً إلى استخلاص النتائج.

ويعتقد الباحث سراج أن الشعارات أدت، مجتمعة أو منفردة، دوراً فاعلاً في تشكيل وعي جديد وقنوات تواصل بين الجماهير في الساحات العامة والميادين المصرية، وفي وسائل الإعلام، وعلى الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي. وهذا التطور في التعبير الشعبي، يراه جديداً في العمل الاجتماعي – السياسي في العالم العربي.

في الفصل الثالث، يحدد سراج الشعارات السياسية في أشكالها وصيغها ووظائفها ورموزها، فهي تارة لافتات وعرائض وجدرايات ورسوم غرافيتية وملصقات رفعت أو علقت تعبّر عن السخط على مشكلات سياسية ومعيشية مزمنة، وتارة أخرى شعر وغناء وهتاف، ومسرح شعبي ورسوم كاريكاتورية وغرافيتية ساخرة، أو هي تغرف من الموروث الثقافي المصري، وتعيد إحياء تراث منسي من الحقبة الناصرية، أو من الأمثال الشعبية ومن الأفلام السينمائية والبرامج التلفزيونية، والهتافات الرياضية.abdel raouf seno

ولاحظ سراج أن الشارع المصري كان ينتج شعاراته ويطورها وفق مستجدات الأحداث اليومية، ومن أجل تحفيز الناس على النزول إلى الشارع والمشاركة في التظاهرات والاعتصامات (“جماعة الكنبة”، كما يسميها سراج التي بقيت في المنازل تتفرج على الثورة، ثم تخلت عن سلبيتها في ما بعد). ويشير إلى الحضور النسوي في الثورة الشبابية، الذي حاولت السلطة الحد منه بعمليات “التحرش الجنسي”. ويورد المؤلف هتافاً له دلالة لاستخدام المرأة في تحفيز الرجل على الانضمام إلى الثورة: “يا رجّالة اقعدوا في بيوتكو… بنات مصر حاتجيب حقوقكو”. (ص 78).

يحدد سراج ثلاثة مرتكزات للشعارات والهتافات: 1- ترسيخ الوحدة الوطنية وبخاصة اللحمة بين المسلمين والمسيحيين (تعانق الهلال والصليب، وإعادة إحياء مرحلة النضال ضد الإنكليز خلال ثورة سعد زغلول، ولدى التصدي للعدوان الثلاثي)، شعاراً وممارسة على الأرض لشد “العصب الوطني” من أجل إسقاط النظام. وكانت الشعارات تتغير وتزداد مغالاة بالوحدة الوطنية أثناء الفتن المدبرة من النظام للتفريق بين المسلمين والمسيحيين. 2- أفكار الإسلام السياسي وبخاصة الإخوان المسلمين الذين انضموا متأخرين إلى الحركة الثورية الشبابية، واتسمت مواقفهم بالتباين وعدم الوضوح في المرحلة الأولى. وفي وقت لاحق، تحوّلت الشعارات ضد وصول الإخوان إلى السلطة والاستحواذ على رئاسة الجمهورية والإمساك بمفاصل الحياة السياسية في البلاد، أو وصول العسكر إلى الحكم. وشعار “هما اتنين مالهومش أمان… العسكر والإخوان”، يجسد هذه المرحلة (93-4).

وبعد نزول الجيش إلى الميدان وعدم اصطدامه بشباب الثورة، تغيرت الشعارات، وأصبحت تشدد على وحدة الشعب والجيش. ويعرض سراج للشعارات المضادة المتبادلة بين شباب الثورة والإخوان المسلمين، والتي أصبحت عنيفة وصدامية بعد وصول مرسي إلى رئاسة الجمهورية. وأخيراً، التيار السلفي الذي وجد في الثورة فرصة لطرح تطبيق الشريعة الإسلامية، فدعا إلى “جمعة تطبيق الشريعة” حيث رفض مسودة الدستور الأولى، مطالباً بدستور إسلامي (“الشريعة الإسلامية عزّ للمسلمين وتاج رؤوسهم”، و”الشريعة رخاء واستقرار”، و”الشعب يريد تطبيق شرع الله”، و”القرآن هو الدستور” 88-9).Print

ومن الشعارات السياسية التي رفعت: “رفض التوريث”، و”لا لتوريث القضاء” و”ارحل”… ومن الشعارات الاجتماعية التي كانت تتطور مع الوقت: “طول ما أنا عاطل إنت باطل”، أي أن شرعية الحكم لرئيس الجمهورية مبارك تُستمد من حل مشكلات البطالة عند المصريين (ص 93). وللتعبير عن الوضع المعيشي المتردي وصعوبة تأمين مقومات العيش، يتوقف سراج عند الشعار التالي: “مش هنسكت… مش حنخاف… داحنا مش لاقين الحاف”، أي العيش أو الخبز (ص 108). وفي حي بولاق الشعبي، رفعت سيدة رغيف خبز في وجه الثوار وطالبتهم: “قولوا عيش، قولوا حرية، يا أولاد مصر العربية”. ثم تطور الشعار إلى “عيش، حرية، عدالة اجتماعية”، محملين مبارك وحاشيته وحزبه الوطني المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع المعيشية والاجتماعية. من هنا، ظهر شعار سياسي كبير، وهو مطالبة مبارك بالتنحي بقول: “ارحل… ارحل”، الذي خصص له الفصل الثامن. ولاحظ أن شعار “الخبز تطور على أيدي الإخوان المسلمين “، فبات: “عيش، حرية، دولة إسلامية” (281-82).

كلمة أخيرة. كتاب الزميل سراج، الذي يستحق التقدير والثناء، هو عبارة عن مشهد بانورامي للربيع المصري الذي أنتج شعاراته الشعبية الثقافية والسياسية والاجتماعية والمعيشية وتعابيره اللغوية ورموزه.

******

(*) كاتب وأستاذ جامعي
■ بيروت 2012
■■ الدوحة/بيروت 2014

******

1-  من اليمن: د. نادر سراج، د. عبدالرؤوف سنو، د. عماد عبد اللطيف،  مدير المعهد الألماني للأبحاث الشرقية البروفسور شتيفان ليدر، خلال ندوة حول الكتاب في 28 أكتوبر  في المعهد الألماني للأبحاث الشرقية- بيروت.

اترك رد