الوزير السابق د. طارق متري
يحار البعض في أمر ليبيا وتصعب عليه معرفة ما آلت إليه الأوضاع فيها وتفسير الوقائع وأسبابها. أما البعض الآخر فيستعجل في رده النزاع الحالي، والذي ينذر بانهيار ليبيا، إلى واحد من محركاته المتعددة، كالقول إن المواجهات تدور بين الإسلاميين والليبراليين وهي جزء من حرب تتعدى ليبيا إلى العالم العربي كله، أو التأكيد أن ما تشهده هو في حقيقة الأمر صراع قبائل أو مناطق، أو أن الانقسام الذي تزداد حدته ويظهر بصورة الخلاف المستميت على الشرعية ليس إلا الوجه الآخر من العجز عن تقاسم السلطة. صحيح أن لكل من التوصيفات الثلاثة ما يؤيده، لكن النظر إلى كل منها بمعزل عن الآخر يقع في المبالغة وفي نواقص التفسير.
فعلى سبيل المثال يغيب عن القائلين بقيام الحرب بين الإسلاميين والليبراليين أن الفريقين ليسا كتلتين منسجمتين ولا تصدق التسمية في الاعتراف بالتنوع داخل كل منهما. فالفريق الأول يضم كتائب ثوار مصراته وليسوا كلهم من الإسلاميين، وحلفاؤهم ليسوا كلهم إسلاميين، فضلا عن تشكيلات عسكرية إسلامية.
أما الفريق الثاني فينضوي في صفوفه ليبراليون ومحافظون وتقليديون وفيدراليون وقبليون وفئة من أنصار النظام السابق. ويرى اصحاب النظرة الثنائية أن الصراع في ليبيا هو جزء من مواجهة أكبر في المنطقة كلها، بين الإسلاميين وأعدائهم أو بين من سميا المحورين: المصري – السعودي – الإماراتي من جهة والتركي – القطري من جهة أخرى. إلا أن انخراط هذه الدول في مجريات النزاع الليبي، وإن كان فعليا، يبقى محدود الحجم والأثر. ولا يبدو لنا أن التدخل الخارجي الحاسم ليس مرجحا بفعل صعوبته وخطورته وكلفته العالية والمتأتية من تعقيدات الوضع الداخلي ومن التردد الذي تطبعه موازين اقليمية ودولية متغيرة وأعراف، هذا إن لم نقل شيئا عن الشرعية الدولية. باختصار، لم تصبح ليبيا في المقام الأول ساحة صراع أقليمي أو أرض منازلة، كما جرى في لبنان في بعض مراحل من حروبه المتعاقبة.
وفي ما يتعلق بالمناطق والقبائل، فلا بد من الإقرار بأن مجلس النواب المتخذ في طبرق مقرا له يتمتع بنفوذ أكبر في الشرق مما في انحاء ليبيا الأخرى. غير أن ذلك لا يعني أن الفريق الآخر الذي يسيطر على طرابلس ومصراته وعدد كبير من المناطق والمدن الليبية لا نفوذ له في الشرق. فالثوار الأسلاميون يمتلكون قدرة لا يستهان بها في بنغازي، ويسيطر المتطرفون على مدينة درنة التي أعلنوا منها قيام إمارة إسلامية.
من جهتها لم تعد القبائل تشكيلات اجتماعية متماسكة كما كانت في السابق، والكثيرون من أبنائها خرجوا من معاقلها وانتشروا في المدن الليبية كافة وفقد شيوخها وحكماؤها الكثير من نفوذهم السياسي وانحسرت قدرتهم على التعبئة ورص الصفوف ضد القبائل المعادية أو المنافسة. لكن هذا الانحسار النسبي لا ينسحب على كل القبائل بالدرجة نفسها. فالرابطة القبلية ما زالت قوة أفعل بين قبائل الشرق. لذا لا يمكن إغفال التضامن القبلي وذاكرة العادات القبلية والتي تلاعب بها القذافي من دون الانزلاق إلى التعميم الذي يرى ليبيا كلها بصورة القبائل المتناحرة.
أما مسألة السلطة فلها وجهان. لقد بدأ الصراع على السلطة في ليبيا قبل إعادة تكوين الدولة، والصراع هو في حقيقة الأمر على الغنيمة، وهي عائدات النفط التي توزع على الليبيين بصيغة مرتبات، لعل المستفيدين منها بلغوا الثمانين بالمئة ودعم للسلع الاستهلاكية وإنفاق على المشاريع وعلى المسلحين (ولنا عودة الى ذلك) وتقديم الإعانات لمجموعات ضغط مرتبطة بهم.
يبقى الوجه الآخر وهو سياسي ورمزي يتعلق بالخلاف على الشرعية. باستطاعتنا النظر اليه من خلال السرديتين اللتين يقدمهما الفريقان المتحاربان. تقول السردية الأولى أن ما يجري في ليبيا هو حرب الإرهابيين على الدولة. وترى الحكومة المنبثقة من مجلس النواب المنتخب في حزيران الماضي، أنها تتصدى للارهابيين وهي تعتمد على اللواء المتقاعد خليفة حفتر والقوى التي احتشدت تحت راية “عملية الكرامة”. ولا يتردد مجلس النواب في وصم القوى المعارضة له ولحفتر كافة بالارهابية. وبطبيعة الحال تستند هذه السردية إلى تأكيده أنه صاحب الشرعية من حيث هو مجلس نواب منتخب.
من جهتها، مالت السردية الثالثة، في المرحلة الأولى من الصراع الحالي، إلى التشديد على الشرعية الثورية مضمرة أن هذه الشرعية تسمو على الشرعية الإنتخابية. إلا أنها تضمنت أيضا طعنا بشرعية مجلس النواب لانعقاده في طبرق فيما مقره بحسب الإعلان الدستوري المعدل هو في مدينة بنغازي، ولأنه لم يجر تسليما وتسلما مع سلفه المؤتمر الوطني العام وفق الأصول. واليوم بات الطعن بشرعية مجلس النواب أقوى حجة عند أصحابه نتيجة قرار المحكمة العليا القائل بعدم دستورية التعديلات التي أقرها المؤتمر الوطني العام في أذار الماضي على الإعلان الدستوري والتي جرت الإنتخابات على أساسها.
ويطالب الأولون، بأشكال متفاوتة، “المجتمع الدولي” بالتدخل في ليبيا لحماية الشرعية ومحاربة الإرهاب ويأخذون عليه تقاعسه في نجدة أصدقائه المفترضين. ويذهب بعضهم الى القول أن التدخل العسكري الدولي عام 2011 لم يكمل المهمة ولا بد له من إنجازها.أما الآخرون فيحذرون المجتمع الدولي من التدخل ويضعون أنفسهم في موضع المدافع عن السيادة الوطنية الليبية. ويتعامى الطرفان، كل على طريقته، عن معطى جلي وهو أن التدخل العسكري الدولي في ليبيا ليس في حساب أحد.
ليس الاهتمام الليبي بالمجتمع الدولي، بما يفعله أو لا يفعله، مستغربا، وإن كان يبدو مصطنعا في بعض الأحيان. فلليبيا تاريخ مع الامم المتحدة يعود إلى عام 1951 حيث جرى التصويت على استقلال ليبيا في الجمعية العامة ولعبت المنظمة دور الولادة لليبيا الحديثة وساهمت في وضع دستورها وتشكيل نظامها السياسي الفدرالي (الذي تحول الى نظام الدولة الموحدة عام 1963).
إلا أن فترة حكم القذافي بين عامي 1969 و2011 تميزت بالعلاقة العدائية مع الأمم المتحدة ومع الدول الغربية الدائمة العضوية في مجلس الأمن ورسخت مشاعر الارتياب في نوايا العالم تجاه ليبيا ومؤامرات الغرب عليها. ورغم أن هذه العلاقة تغيرت في الأعوام الأخيرة من حكم القذافي، بعد رفع العقوبات والحصار عن ليبيا، لم يتبدد الارتياب ولم تتراجع مشاعر العداء.
غير أن التدخل العسكري لقوات حلف شمال الأطلسي بعد صدور قرار مجلس الأمن رقم 1973، الذي يسوغ حماية المدنيين بكل الوسائل أدى إلى نوع من تسارع الزمن ومعه تغير المواقف. لم يأت التدخل المذكور، والذي تختلط دوافعه وتختلف من بلد الى آخر، إلا بناء على طلب المجلس الوطني الانتقالي الذي اعترف به ممثلا للشعب الليبي، اجماع القوى الثائرة على القذافي في الخوف من مجزرة وشيكة توعد بها في طريق زحف كتائبه نحو بنغازي. ويستتبع شبه الاجماع في طلب التدخل الدولي، والإفادة مما حققه لجهة إسقاط القذافي، الاعتراف بأنه أنقذ الثورة من هزيمة مؤكدة. لكن الإنقسام ظهر مذاك بين مطالب بدور غربي أكبر في مساعدة ليبيا على بناء دولة ما بعد القذافي، وبين متحفظ حيال هذا الدور أو مشكك فيه.
من جهتها، بدت الدول الغربية التي تدخلت عسكريا مستعجلة في الخروج من ليبيا وعمد مجلس الامن الدولي إلى إنشاء بعثة للأمم المتحدة للدعم في ليبيا انحصرت مهمتها في مرافقة العملية السياسية وتقديم المشورة والمساعدة في بناء مؤسسات الدولة الليبية الجديدة. صحيح أن قرارات مجلس الأمن بما فيها هذا القرار صدرت تحت الفصل السابع من شرعة الأمم المتحدة، إلا أن بعثة الدعم كانت سياسية ومدنية لم تتوفر لها أدوات الاشراف الفعلي على عملية البناء تلك. وباتت مهمتها، بعد ان رحب بها الجميع في مرحلة اولى، محط انتقاد فئة ممن توقع منا تدخلا أفعل يتعدى التفويض المعطى لها الى العمل على محاربة الارهاب ونزع سلاح المسلحين وحماية المدنيين، فيما توجست فئة أخرى من احتمالات قيامها بأي دور كهذا ما يضع ليبيا تحت الوصاية الدولية المرفوضة.
ومما زاد الطين بلة أن رغبة مجلس الأمن في الاسراع في دفع ما سماه عملية التحول الديموقراطي وتوهم الأمم المتحدة بأن المسألة في متناول اليد تلاقياً مع إصرار المؤتمر الوطني الانتقالي على إجراء انتخابات عامة في أقرب وقت. واشترك الجميع في الإعتقاد أن الانتقال إلى الديموقراطية طريق مرسوم يبدأ بانتخابات هيئة تأسيسية تنبثق منها حكومة موقتة تليها عملية صياغة الدستور وتأتي بعدها انتخابات عامة على أساسه.
وجرت الانتخابات في تموز 2012 وبدا للجميع أنها جاءت ناجحة بكل المعايير وأن نتائجها أظهرت اتجاهات أكثرية الليبيين السياسية. لكن فئة واسعة من كتائب الثوار لم تر نفسها قادرة على المشاركة في العملية الإنتخابية، ترشيحا لا اقتراعا، وساورها الشك حيال الأحزاب التي تشكلت بسرعة، لا سيما تحالف القوى الوطنية الذي حاز على أكثرية الأصوات. وانقسم الليبيون بين قائل أن الثورة لم تستكمل ولا بد من اقتلاع النظام القديم من جذوره، وبين من أراد طي الصفحة والدعوة إلى الاحتكام الى صندوق الاقتراع وإجراء مصالحة عامة…
لا شك أن الاحتكام إلى صندوق الاقتراع هو أول مداميك الديموقراطية لكنه ليس بذاته ضمانة لها. فالديموقراطية تتطلب حدا أدنى من حكم القانون ووجود مؤسسات وثقافة سياسية وتمييزا بين الوصول إلى السلطة والاستحواذ على الدولة. والانتخابات المستعجلة التي جرت لم يتوفر لها الحد الادنى من حكم القانون في بلد منقسم وغير مستقر. ورأى البعض انها عمقت الشرخ بين أكثرية عددية، اتسعت صفوفها لمتعاملين مع النظام السابق، وأقلية انتخابية ليست صغيرة وهي أفضل تنظيما وأشد فاعلية وبأساً.
لقد جرت الانتخابات وكانت ليبيا مثل غابة من السلاح والمسلحين الذين استمر عددهم بالازدياد تحت مسميات كتائب الثوار حتى بلغ، وفق اللوائح الرسمية، ما يفوق المئتين وخمسين ألفا.لم يكن في ليبيا لا جيش ولا شرطة بالمعنى الحقيقي للكلمة. فكتائب القذافي التي قادها أولاده وأقرباؤه ومرتزقته والتي كانت أفضل تسليحا وتنظيما من الجيش انهارت وقتل منها من قتل أو اعتقل أو فر. لم يكن الجيش النظامي والشرطة قادرين على القيام بدورهما.
كان هرم ضباطهما مقلوباً: أعداد كبيرة من العقداء (وهي الرتبة العسكرية للقائد التي لم يسمح بتجاوزها) وأعداد أقل من الضباط في الرتب الأدنى. وكان الضباط الكبار تخطوا سن التقاعد ولم يتح لهم أن يتقاعدوا وكان السواد الأعظم منهم محروما من العمل الميداني ومن التدريب المستمر وكانوا يداومون في مكاتبهم ويحذرون من الشكاوى ضدهم خوفا من اتهامهم بالتآمر على النظام. ولما كانت المجموعات المدربة والمتماسكة قليلة العدد وصغيرة، ارتأت الحكومة الموقتة الأولى تكليف فئة من كتائب الثوار مهمات الجيش وسميت درع ليبيا وبات المنضوون فيها يتلقون رواتبهم من الدولة، وفئة أخرى عهد إليها بمهمة الشرطة ودعيت اللجنة الأمنية العليا وصار أفرادها بمثابة موظفين في الدولة.
بطبيعة الحال ظلت الولاءات السياسية للكتائب والعلاقات بين أفرادها وقياداتها على ما كانت عليه إبان الثورة وبعدها، ما جعلها معرضة لتغليب حساباتها الصغيرة المحلية على أدوارها الوطنية الكبيرة.
ونتيجة لاكتساب كتائب الثوار الصفة الشرعية وحصولها على الامكانات المادية التي تؤمن استمرارها، فقد الكثيرون من أفرادها حافز العودة إلى الحياة المدنية وضعفت رغبتهم في الانضمام الى الجيش والشرطة. وتعثر بناء الجيش والشرطة بفعل غياب ارادة سياسية تدفع نحو إعادة تأسيسهما. لم تكن المشكلة تقنية أو متعلقة بعدم توافر الخبرات اللازمة، فبعثة الأمم المتحدة عملت في رسم الخطط والمباشرة في وضع الهيكليات التنظيمية والمساعدة في إطلاق عمليات التدريب، وأعدت أوراقا بيضاء لهذه الغاية ليست مستنسخة من تجارب اخرى، بل مستندة إلى تقييم دقيق للواقع الليبي. ولكنها لم تستخدم وفي بعض الحالات لم تقرأ.
كانت تصور الحكومات المتعاقبة لمسألة دمج المسلحين في الجيش والشرطة محاطا بالغشاوة. وترددت في إقامة حوار مع الثوار واكتفت بمسايرتهم حينا والشكوى من ابتزازهم حينا اخر. أما كتائب الثوار فمارس بعضها ضغطاً على المؤتمر الوطني العام وعلى الحكومة، ولم تقدم تصورا واضحا حول مستقبلها بل توقفت عند عدم الاستعداد للانضمام إلى جيش وشرطة ما زال فيهما أعداد كبيرة من ضباط النظام السابق ممن ليسوا جديرين بثقتها. ولم تنفع معها المحاولات الهادفة إلى تطهير المؤسسات العسكرية والإمنية من الضباط المعادين للثورة أو الذين انتهكوا حقوق الناس أو نهبوا المال العام.
وانسحب موقف عدد من كتائب الثوار ومعها حلفاء من أعضاء المؤتمر الوطني العام من الإسلاميين وأصدقائهم على أجهزة الدولة الأخرى. أكثر من ذك، أدت الضغوط على المؤتمر الوطني العام إلى إقرار قانون العزل السياسي في أيار 2013 فجاء واسع النطاق ليشمل كل من أحتل منصبا على شيء من الأهمية في الدولة منذ عام 1969 أو عمل في اللجان والهيئات أنشأها القذافي وحرم فئة واسعة من الحق في تولي المناصب العامة.
ورغم النصائح المتكررة والتحذير من اثار قانون من هذا النوع يشابه من حيث مفاعيله المحتملة قانون اجتثاث حزب البعث في العراق، تغلب منطق اقصاء من اعتبروا أعداء للثورة على فكرة المصالحة الوطنية التي لا تستبعد إلا من تلوثت أيديهم بالدماء وبسرقة أموال الليبيين. وأعاق ذلك بطبيعة الحال التوافقات الضرورية لإعادة بناء الدولة الليبية وإشراك كل فئات المجتمع فيها. كما أنذر بحرمان الوزارات والمؤسسات العامة من كفاءات خدمت الدولة الليبية من دون أن تكون بالضرورة شريكة في ارتكابات القذافي في حق شعبه. وهذا ما زاد من صعوبة بناء مؤسسات الدولة، ليس فقط العسكرية والأمنية بل أيضا المدنية.
وعمق إصدار القانون المذكور الانقسام السياسي وتغيرت موازين القوى داخل المؤتمر الوطني العام، فخسر تحالف القوى الوطنية عددا من أعضائه ممن طالهم القانون، وانفك عنه عدد اخر، لا سيما وأن رئيسه الدكتور محمود جبريل، الشخصية البارزة التي تولت رئاسة المكتب التنفيذي المنبثق من المجلس الوطني الانتقالي، وقع ضحية العزل المذكور. ولم يكن الشخصية الوحيدة التي أدى صدور القانون إلى إبعادها. فالدكتور محمد المقريف، رئيس المؤتمر الوطني العام وزعيم المعارضة ضد القذافي طيلة العقود الثلاثة الماضية، اضطر للاستقالة استباقا لاحتمال إقالته بموجب القانون، لأنه عمل سفيرا لليبيا في الهند من 1978 وحتى 1980 حين استقال احتجاجا على سياسات القذافي.
بعد ذلك انتهجت القوى السياسية غير الاسلامية طريق الدفاع عن النفس وبدت تشكك في شرعية المؤتمر الوطني العام واستاءت من تنامي نفوذ عدد من كتائب الثوار الاتية من مدينة مصراته، والتي سبق لهذه أن لعبت دورا كبيرا في الثورة يعترف به الكل من غير اجماع حول حق المدينة حصة كبيرة من السلطة بحجة مكافأتها على هذا الدور.
ولجأت القوى الوطنية غير الاسلامية وغير المصراتية إلى سياسة مزدوجة: فسعت إلى تعبئة أوسع الفئات الليبية ضد كتائب الثوار التي وصمت بالاسلامية بل بالإرهابية، وهي بطبيعة الحال لم تكن كذلك ما خلا مجموعات محددة، واعتمدت بشكل متزايد على عدد من الكتائب والجماعات المسلحة التي تناصب مصراته او الإسلاميين العداء مثل كتائب القعقاع والصواعق من بلدة الزنتان وجماعات من قبيلة ورشفانة.
بعبارة أخرى حثت المدنيين على رفض هيمنة المسلحين عليهم وسعت بالوقت نفسه نحو تحقبق “توازن القوة” الذي يعيق التقدم على طريق بناء الدولة. واستمر الطعن بشرعية المؤتمر الوطني العام وصولا إلى اطلاق حملة شعبية وإعلامية واسعة النطاق ضد ما سموه التمديد له. فقيل بانتهاء مدته في7 شباط 2013 استنادا إلى عملية حسابية بسيطة جمعت المهل الواردة في الاعلان الدستوري بوصفها مهل إسقاط، فيما هي مهل تنظيمية او مهل حث.
وأدت الحملة إلى اضطرار المؤتمر الوطني إلى الدعوة إلى انتخابات مبكرة في حزيران 2014. وعندما جرت الانتخابات تبين أن عددا كبيرا من الليبيين عزف عن ممارسة حقه في الاقتراع معبرا بذلك عن خيبة من العملية السياسية برمتها ومسجلا اعتراضه على سلوك النخب السياسية. فشارك في الانتخابات العامة الاخيرة أقل من 600 الف ليبي وهي نسبة تقارب ثلث من شاركوا في انتخابات تموز 2012.
وفي الأشهر الفاصلة بين الحملة على المؤتمر الوطني العام وانتخابات مجلس النواب الجديد عاد الجنرال المتقاعد خليفة حفتر إلى الواجهة وأطلق عملية تهدف إلى استئصال الجماعات الارهابية، لا سيما منظمة أنصار الشريعة بدءا من بنغازي. واستطاع حشد المؤيدين في أوساط الجيش الوطني وشن حربا شاملة لم تميز بين التنظيم الارهابي المذكور وغيره من كتائب الثوار في بنغازي والشرق. واستقوت بحركة حفتر القوى غير الاسلامية، أي ذاك المزيج من مقاتلي الزنتان وورشفانة والليبراليين والمحافظين والقبليين والفدراليين وبعض أنصار النظام السابق، وظنت أن نجاح العملية العسكرية مشفوعا بالفوز المرجح في الانتخابات كفيل بضمان توليها السلطة والقضاء على نفوذ الإسلاميين إلى غير رجعة. ولم تستجب للدعوة الى الحوار قبل الانتخابات والتي قصد منها التخفيف من حدة المشاعر عند الطرفين المتصارعين والسعي للاتفاق بينهما على بعض قواعد العملية السياسية والتوافق حول أولية بناء الدولة. وافترض غير الإسلاميين أن الحوار سيكون لمصلحة خصومهم الإسلاميين وأنه يدعو الى تقاسم السلطة عوض مجرد القبول بنتائج الانتخابات.
بطبيعة الحال كان الطرف الاخر من المصراتيين والإسلاميين يتوجس من احتمال إقصائهم وشيطنتهم ونعتهم بالإرهاب وتحريض العالم ضدهم. وبلغ توجسه حده الأعلى بعد الانتخابات باسبوعين، فقام بعملية عسكرية أدت إلى بسط كامل سيطرته على طرابلس وعلى جزء كبير من الأراضي الليبية لا سيما المدن. ولم يبق لمجلس النواب المنتخب، والذي قاطعته الأقلية المصراتية والإسلامية إلى اللجوء إلى طبرق وبات مداه الحيوي محصورا في أنحاء من الشرق، دون سواه من مناطق ليبيا.بعد ذلك قامت في ليبيا حكومتان وصدر قرار من المحكمة العليا يقبل الطعن بدستورية تعديل الإعلان الدستوري وبالتالي إجراء الانتخابات على اساسه.
اليوم، لا نرى في الأفق حلا سوى تسوية سياسية مشرفة وهو ما تبدو صعبة التحقيق. أما الدولة التي كان بناؤها متعثرا منذ البداية فهي الان عرضة لمزيد من التفكك بل الانحلال. ولعل النظر في الأسباب التي أوصلت ليبيا إلى حالها الحاضرة والبحث عن سبل وقف الانهيار مسألة بالغة الحساسية والتعقيد.
أكتفي بالقول أن المسؤوليات متقاسمة بين المجتمع الدولي والنخب السياسية الليبية وعدد من الدول المؤثرة في المنطقة والتي نفخت في نار الاقتتال الداخلي. يبقى ان المشكلات الحاضرة تتصل أيضا بما تركه نظام القذافي من إرث ثقيل الحمل. وقد تمر سنوات طويلة قبل التحرر من نيره. وهي تتصل، إضافة إلى ذلك، بإدارة متخبطة للعملية السياسية التي سبق فيها الصراع على السلطة إعادة تكوين الدولة. فعوض التوافق على أولوية بناء المؤسسات وإجراء المصالحة الوطنية ذهب الجميع بسرعة إلى المنافسة الانتخابية، وشكلت هذه المنافسة المستعجلة سببا إضافيا لتعميق العداوات القديمة وصناعة عداوات جديدة وتهديد وحدة ليبيا، وإن من دون تقسيمها. وتعوق العداوات هذه حكم البلاد وتجعل منها، إلى أجل غير قصير، مدنا وجماعات متجاورة أومتناحرة، ومن دون دولة جديرة بهذا الاسم.
*****
(*) نص المحاضرة التي ألقاها د. طارق متري (مدير معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية) في الجامعة الأميركية في بيروت، في حضور ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان ديريك بلامبلي، سفير الجزائر ابراهيم حاسي، نشطاء وسياسيون ومعارضون ليبيون وشخصيات من المجتمع المدني
****
بالاشتراك مع aleph-lam
www.georgetraboulsi.wordpress.com