الكاتب صفاء ذياب (*)
يقسّم الكاتب ناصر الحزيمي حرق الكتب لدى العرب إلى نوعين: حرق السلطة للكتب وحرق المؤلفين
أنفسهم لها، لكنه لم يدوّن في كتابه (حرق الكتب في التراث العربي) أيَّ حالة تشير إلى إحراق مثقفين بلد ما كتبَ مثقف وكاتب معروف.
من أشهر هذه المحارق ما قامت به السلطة الحاكمة في الأندلس بإشعال النار في كتب ابن رشد، ففي يوم 16 فبراير 1198 ميلادي تمّ جمع كل الكتب الموجودة في مكتبة بن رشد والتي تضم إلى جانب كتب هذا القاضي والفيلسوف كتباً أخرى لابن سينا والفارابي وابن الهيثم وغيرهم بعد أن جُمّعت في الساحة الكبرى بإشبيلية وسط حضور حاشد، وإرغام ابن رشد على مشاهدة مئات الكتب لعشرات الفلاسفة والمفكّرين العرب وهي تُحرق وسط تكبير وصراخ بعض الناس بتحريض من بعض شيوخ الدين…
لكن الحال في العراق مختلف جداً، وربما تكون هذه الحالة نادرة جداً، أو لم ولن تحدث إلا في العراق، حينما أعلنت صحيفة إلكترونية (إيلاف) عن أن هناك مجموعة من المثقفين العراقيين سيحرقون مؤلفات الشاعر العراقي سعدي يوسف يوم الجمعة في شارع المتنبي، وهو شارع الكتب والثقافة الشهير في بغداد.
ففي موضوع كتبه عبد الجبار العتابي في إيلاف، يؤكد من خلال عنوانه (أدباء عراقيون يعتزمون حرق كتب سعدي يوسف!) وهو ما أثار استغراب أغلب القراء الذين لم يسمعوا بهذا الأمر من قبل، وقد كان تبرير الكاتب أن المثقفين العراقيين سيقدمون على هذه الخطوة بعد نشر سعدي يوسف قصيدة بعنوان (مصر العروبة.. عراق العجم). غير أن ما نشر في الاستطلاع لم يشر لذلك من قبل أي كاتب، إلا من شخص غير معروف بالنسبة للوسط الثقافي يدعى (قاسم وادي الربيعي) طالب بإحراق كتب يوسف، فيما رفض المثقفون الآخرون الذين استفتاهم العتابي في موضوعه هذا الإجراء، وهم: كريم جخيور، فارس حرَّام، رسمية محيبس، مهدي القريشي وأحمد جبار غرب، مدافعين عن وجود يوسف وتاريخه الطويل.
رسالة إلى وزير الثقافة
هذا الاستطلاع أثار حفيظة أغلب الأدباء والمثقفين العراقيين في مواقع التواصل الاجتماعي، فضلاً عن الرسائل التي تبادلوها فيما بينهم. بعض المثقفين أعلنوا في موقع الحوار المتمدن عن حملة للدفاع عن حق سعدي يوسف في القول وحريته، مبينين في الحملة: «إن الجدل الذي طرحه بعض الكتاب والكاتبات بالدعوة لحرق كتب ومؤلفات اللأستاذ سعدي يوسف، والذي يحاولون من خلاله قمع حرية الرأي الآخر بحجة الدفاع عن العراق ونظامه السياسي, يصب بصورة أو أخرى عن قصد أو غير قصد في تفكير استبدادي متخلف وعنيف, إن مؤلفات سعدي يوسف بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه هي جزء من التراث الثقافي العراقي والإنساني».
من جانبه، بعث المسرحي الدكتور فاضل السوداني رسالة وزير الثقافة العراقي فرياد راوندوزي، قائلاً فيها: «دعا بعض الأشخاص المحسوبين على ثقافة الصدفة إلى حرق كتب ودواوين الشاعر العراقي سعدي يوسف لأنه يطرح أفكاره بكل حرية وهو مسؤول عنها أمام ذاته أوﻻً وأمام الشعب العراقي وأمام تاريخه الثقافي والإبداعي، وﻻ يحق ﻻي كائن بالتدخل في قمع حرية شاعر.
وعار علينا أن نسمح لهؤلاء أن يقوموا بفعلتهم في شارع المتنبي وتحت تمثال الشاعر العراقي المتنبي بالذات».
ويضيف السوداني في رسالته: ﻻ يخفى عليكم مكانة وإبداع الشاعر سعدي يوسف، فهو شاعر عراقي يحمل الهم العراقي منذ أكثر من نصف قرن، وهو أيضاً يمتلك مكانته الكبيرة في الشعر العالمي. وهو شاعر متمرد في طبيعته منذ بداياته الأولى, وحالم كبير، لهذا فإنه شاعر كبير، له مزاجه الخاص ومكانته بين ملائكة الشعر وشياطينه. متسائلاً في رسالته: من يستطيع أن يوقف أحلام الشعراء، ومن يستطيع أيضاً ألاَّ ينحني إجلالاً لهم؟ سوى الجهلة وحساد الشعر، أليس الكثير من انتكاساتنا سببها الإهمال الثقافي ومحاربة الشعراء.
ويشير السوداني إلى أنه بما أن حرية الرأى هي المقياس الحضاري والإنساني، لذا وحتى ﻻ تتكرر تجربة نازية وهتلرية وحتى ﻻ تصبح مثل دعوة كهذه عادة عراقية، يكون من الضروي العمل على وقف مثل هذه اﻻفكار الجهالية التي تسيئ إلى الثقافة العراقية بالصميم، وبالتأكيد وإزاء أفكار شوفينية وطائفية ﻻ تحمل مسؤوليتها الثقافية والتاريخية كهذه، يكون من واجبنا وموقفنا التاريخي وكذلك موقف الوزارة والمثقفين الفاعلين ومنتجي الثقافة الحقيقيين منع مثل هذه الأفكار الخطرة في فعاليات ثقافتنا العراقية.
آراء متباينة
يرى الشاعر رياض الغريب أنه قد يختلف مع سعدي يوسف في الكثير من طروحاته، إن كانت نصوصاً أو مقالات يكتبها هنا وهناك، وهو حر بما يكتب وليس من حق أحد أن يحاكمه على ما يكتبه، فكل حرف يتركه يمثل تاريخه الشخصي لا تاريخ أحد منا. مبيناً أننا لا ننتزع الفكرة من رأسه عنوة، ولا نريد أن يكتب وفق مقاساتنا وما نرغب أن يكتبه سعدي يوسف.. علينا أن نتعلم احترام المختلف حتى وإن شتمنا.. علينا أن نشيع هذه الثقافة وهي ليست بالدخيلة علينا.
«أقول لمن يفكر بحرق كتب سعدي يوسف.. اذهب وتعلم ثقافة قبول الآخر المختلف.. سعدي يوسف شاعر عراقي يعبر عن رأيه ولا يمكن أن نحاكم هذا الرأي بحرق الكتب. يمكن أن نكتب نقداً أو مقالة ننتقده ونعبر فيها عن رأينا بطريقة حضارية لا شتائم فيها ولا حرق لكتاب.. سعدي يوسف شاعر تعلمنا منه الكثير».
في حين يسمي الشاعر والتشكيلي هادي ياسين من طالب بإحراق كتب سعدي يوسف بالنازيين الجدد، مضيفاً: «لي موقفٌ من سعدي يوسف.. هو يعرفـُه، ولكنني حين ألتقيه ألتقيه باحترام، لأنه رمزٌ وأيقونة عراقية.حرقُ كتبه فعلةُ أعاجم.. فعلاً، وليس عراقياً مَن يُقدمُ على ذلك». ويتساءل ياسين في تعليقه على الموضوع: ما الفرقُ بين هذه الفعلة وبين تمزيق العُملة العراقية أو العلَمَ العراقي؟ متى تتعلمون- أيها الأعاجم- من الشعوب المتحضرة معنى الرموز؟ أصحاب الغيرة على العراق يتوجب عليهم منعُ هذه الفعلة وإلقاءُ القبض على من يُقدِمُ عليها. ويؤكد ياسين أنه بالأمس دعوا إلى حرق كتبه بعد تعليق كتبه بالفيسبوك تطاول فيه على الإمام الحسين، لكنه يبين أنه ليس مهتماً لذلك «لأنني لستُ بمقام «سعدي يوسف»، ولكن أصحاب كلا الدعوتين واحد. النوايا واحدة والهدف واحد، فهي فعلةُ أعاجم». قائلاً في ختام حديثه: إذا مرّت هذه الفعلة.. فالقادمُ أعظم.
أما الكاتب والفنان التشكيلي خالد خضير الصالحي فلم يجد هناك أية مجموعة من الأدباء العراقيين قد دعت لحرق كتب سعدي يوسف، فكلهم أجمعوا على اختلافهم معه، وأنهم يرفضون حرق كتبه لأنها جزء من محاكم التفتيش سيئة الصيت، بل وجد أن واحداً لم يسمع به سابقاً هو الذي كان يدعو لذلك، وأن العنوان كان خيانة لحيادية الصحافة ولم يكن بريئاً.
الأمر الثاني الذي يشير إليه الصالحي أن محاكم التفتيش ليست من آليات الثقافة، إنما هي آليات تكفيرية تستخدمها القوى الآيديولوجية؛ سياسية كانت أو دينية، كما أنه يرى أن سعدي يوسف لم يهاجم أهل الجنوب، وأن الادعاء بذلك هو حجة ماكرة لحسابه على الطائفة السنية وتجميع معارضيه وإعطائهم طابعاً شيعياً، وهي خدعة لا يجب الالتفات لها فقط، بل رفضها. مضيفاً أننا بحاجة تامة إلى الفصل بين (الشعري) و(القيمي) كالأخلاقي والديني والنفعي، لذلك فلا يمكن أن تحاكم نصوص سعدي يوسف بمواقفه (القيمية) كيفما كانت. مؤكداً على أن قيام الكاتب بإعطاء صفة الشعرية لنص لا يكفي على اعتباره شعراً، لذلك لا يمكن اعتماد النص موضع الخلاف شعرا، إنما هو عمود صحافي سواء قطَّعه الكاتب كما يقطع الشعر أو جعله موزوناً على أنظمة الخليل أو قفَّاه الخ.. فتلك ليست دلالات على شعرية النص. وينهي الصالحي حديثه بقوله: من حق كل فرد أن يقول أي شيء، ومن حقنا أن نرد عليه بأشد ما نتمكن من الآليات المقبولة أخلاقياً، وأن الأخطاء التي نعتقدها قد نشأت بسبب حرية التعبير لا تعالج إلا بمزيد من حرية التعبير.
******
(*) القدس العربي- بغداد