كلود أبو شقرا
في كتابها الجديد الصادر حديثاً “الكتابة والأجناس” (دار التنوير بيروت ودار الأمان الرباط، 296 صفحة، لوحة الغلاف للشاعرة والكاتبة والرسامة إيتيل عدنان)، ترصد الباحثة المغربية الدكتورة حورية الخمليشي ملامح الكمال والجمال في الشعر الحديث والمعاصر المنفتح على أنماط الفنون المختلفة من شعر ومسرح وموسيقى وتعبير جسدي وسينما.
الكتاب الذي يعتبر أول دراسة نقدية فنية في العالم العربي لمسألة “الكتابة والأجناس”، ينقسم إلى أقسام ثلاثة: “القصيدة العربية بين الأغراض والأجناس”، “أجناس القصيدة العربية الحديثة”، “الشعر الحديث والتحديث الثقافي”، ويضم صوراً ورسوماً لنماذج من اللوحات التشكيلية المستوحاة من الأعمال الشعرية الكبرى، ولنماذج من الكتب الفنية التي تتضمنها الدراسة. توضح اللوحات مدى تفوّق الفن في نقل الجوّ الشاعري من القصيدة إلى اللوحة وإلى المسرح والموسيقى وغيرها.
حول علاقة الكتابة والأجناس بالتحديث الشعري، وعلاقة الشعر بالفنون، كان الحوار التالي مع د. حورية الخمليشي (حائزة دكتوراه في الأدب العربي في جامعة الرباط).
كيف يمكن تحديد الأغراض الشعرية بين الماضي واليوم؟
مفهوم الأغراض مرتبط بالقصيدة العربية القديمة وكان مقتصراً على الشعر من دون النثر، بينما نظرية الأجناس شاملة لكل الأجناس الشعرية والنثرية. فالشعر العربي القديم عرف “الأغراض” ولم يعرف “الأجناس”. وقد جاءت الأغراض الشعرية في الكتب النقدية القديمة بتسميات مختلفة تُحيل كلّها على مصطلح الأغراض، كالأنواع والأصناف والأركان والأقسام وغيرها. فالرؤية النقدية للشعر تغيّرت مع ابن سلام الجمحي في كتاب “طبقات فحول الشعراء”. وهذا الكتاب موسوعة في علم الشعر والشاعر وكذلك مع قدامة بن جعفر، وابن طباطبا، وابن رشيق القيرواني، وحازم القرطاجني، كلهم تأثروا بمنهج أرسطو.
في عصر النهضة قلّد شوقي القدماء في الأغراض الشعرية كالفخر والغزل والمديح والرّثاء وغيرها، إلا أن إلمامه بالثقافة الغربية لا سيما الفرنسية جعله يتأثّر بفنونها وبشعرائها، خصوصاً راسين وموليير ولافونتين. فكتب الشعر التّمثيلي والمسرحي. لكن القصيدة لم تتحرّر من المعنى القديم للأغراض الشعرية إلا بظهور الحركة الرومانسية.
لم تكن الأجناس الشعرية مطروحة عند القدماء، إذ لا نجد أثرا لمصطلح “الأجناس” في النقد العربي القديم. فالتّصنيف الأجناسي يعود إلى النّظرية الأوروبية. ولتاريخ فنّ الشعر لأرسطو تاريخ قديمٌ في رصد الشعرية الأوروبية، والمرجعية الكبرى من حيث النظرية الشعرية.
هل الكتابة والأجناس نتاج التحديث الشعري والثقافي؟
استدعت مسألة التحديث الشعري طرح الأجناس الشعرية التي دخلت إلى القصيدة العربية عن طريق الترجمة، والانتقال من القصيدة إلى الكتابة كمُمارسة مفتوحة لهدم الحدود بين الشعر والنثر. وقد ظهر مشروع الكتابة عند الشعراء المؤسّسين لهذا المفهوم من داخل ممارستهم الشعرية التي امتازت بخصّيصة الكتابة عند أدونيس ومحمد بنيس وقاسم حداد. وقد سعت مجلة “شعر” إلى تطوير وتجديد القصيدة العربية الحديثة. فأثارت سؤال الكتابة والأجناس لأنها كانت منبراً إبداعياً لحُرّية للإبداع والكتابة. وكتاب “فنّ الشعر” لأرسطو يُعدّ المرجعية الكبرى من حيث النّظرية الشعرية. ويرجع عدم تأثّر القدماء بهذا الكتاب إلى الترجمة غير الدّقيقة لمصطلحات ومفاهيم الشعر.
وتعتبر شعرية أرسطو أوّل شعرية جعلت أُسس وقواعد للجنس الشعري مستفيداً في ذالك من نظرية المحاكاة لأفلاطون. فالأجناس الشعرية إذن ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بمسألة التّحديث الشعري والثقافي والانفتاح على الشعر الأوروبي والأمريكي. وقد انعكس هذا في الأعمال الشعرية لشعراء شكّلوا بداية الحياة الشعرية العربية. فقد تأثّر شعراء الرومانسية العربية ورواد الشعر الحرّ بالآداب الغربية وخاصّة الأدب الإنجليزي. وتأثّرت نازك الملائكة بالشاعر الكبير جون كيتس، كما أبدى السياب تأثّره بشاعرين كبيرين هما: الشاعر ت. س. إيليوت والشاعرة إيديت ستويل وتأثّر أمين الريحاني بقصائد وولت وايتمان، وجبران خليل جبران بوليام بليك، بالإضافة إلى التأثير الكبير لشعراء الرومانسية بأسلوب الكتاب المقدّس.
ما أثر الترجمة في الشعر الحديث؟
أقول دائماً إنه لا يعلو قدرُ أية ثقافة في العالم إلا بعُلوّ الترجمة فيها. فالترجمة أصل كل تجديد، ولترجمة الشعر الأثر الكبير في الانفتاح على شعريات العالم. إلا أن ترجمة الشعر عند العرب مسألة حديثة، فالعرب قديماً كانوا يعتبرون فضيلة الشعر مقصورة على العرب وعلى من تكلّم بلسان العرب. والشعر إذا ما تُرجِم نثراً بَطُل وزنه وذهب حُسنه بتعبير الجاحظ، فترجمة الشعر نثراً يُفقِدها الكثير من عناصرها الفنّية والجمالية. لكن رغم رأي الجاحظ فقد ترجم الفتح بن علي البنداري ملحمة الشاهنامة للفردوسي. هذه الترجمة التي شكّلت مرحلة عربية جديدة للانفتاح الشعري على الثقافة الفارسية. وقد أطلق عليها ابن الأثير صفة “قرآن القوم”، ما يعني أن الأعمال الإنسانية الكبرى تمتلك صفة الإعجاز الفنّي الإبداعي. وقد جاءت هذه الترجمة بعد أربعة قرون من رأي الجاحظ. وبهذه الترجمة تعرّف العرب على جنس شعري غير موجود كالجنس الملحمي. وفي عصر النهضة أقبل العرب على ترجمة أكبر عمل شعري يوناني وهو “إلياذة هوميروس” لسليمان البستاني. فكان لها الدور البارز في انفتاح العرب على الثقافة الأوروبية. ومع أعمال الرومانسيين ازدهرت حركة الترجمة الشعرية وتغيرت الرؤية إلى الشعر والشاعر مع أعمال جماعة المهجر الأميركي وجماعة أبوللو والديوان حيث ستواجه الفعاليات التحديثية مؤسسات التقليد. وقد اهتمت مجلة “شعر” بالترجمات الشعرية الأوروبية والأميركية لكلٍّ من بودلير ورامبو وإدغار ألان بو وت.س. إليوت ولوركا وأراغون وسان جون بيرس وغيرهم. وكان يوسف الخال أول من اهتمّ بترجمة الشعر الأميركي إلى العربية، فكانت المجلة مؤسِّسة فعلاً لثقافة شعرية جديدة منفتحة على الشعر العالمي المتأثّر بالحركة التحديثية الأوروبية والأميركية. وفي زمننا لا نكاد نجد شاعراً من هؤلاء الشعراء الكبار الأساسيين لم يقم بالترجمة.
كيف تفسرين ظاهرة اللوحات الشعرية المستوحاة من الأعمال الشعرية الكبرى؟ وهل هي حكر على الزمن الحديث؟
التفكير مستحيلٌ من دون الصور حسب نظرية أرسطو. والشعر والفن يستقيان من منبع واحد وهو الجمال. فالشعر فنّ، والفنّ شاعريّ الطابع، وكلٌّ منهما إثراءٌ وإغناءٌ للآخر. لكن لا يمكن لكلّ منهما أن يكون بديلاً للآخر. لقد وجد الفنّانون في جمالية لغة الشعر وفنّية صوره إثارة لمشاعرهم، فاستوحوا منه أجمل لوحاتهم. وتاريخ الفنون لم يتمكّن من رسم المعالم الأولى للعلاقة بين الشعر والفنّ التشكيلي. فهي علاقة قديمة ازدهرت في أوروبا على أيدي الدّادائيين والسّرياليين. فقد كتب بودلير وأبولينير عن الفن والثورة التصويرية الأوروبية، وكان لديدرو وسارتر وسيمون دو بوفوار وويليام بليك صلة وثيقة مع الفنون. أما فنّ التشكيل العربي فقد نشأ في بدايته بتأثير الحضارات السابقة في قرابة فنّية مع مكوِّنات متعدّدة عربية وفارسية وهندية وتركية مستفيداً من عالمية التصوير الغربي منذ قرون.
صحيحٌ أن الشعر الحديث أكثر انفتاحا على الفنون في زمننا الراهن، فلا حدود للفنّ كما لا حدود للقصيدة. وهذا التزاوج بين الشعر والفن نجده في الشعر العربي والأوروبي والأميركي وفي الشعريات الصينية والفارسية والهندية واليابانية وغيرها. فقد استوحى الرّسّامون العرب وغير العرب أجمل لوحاتهم من الأعمال الشعرية الكبرى كملحمة جلجامش وشاهنامة الفردوسي وإلياذة هوميروس والكوميديا الإلاهية، كما استوحوا لوحاتهم من الشعر العربي القديم والحديث. فقد رسم ضياء العزاوي لوحة شعر المعلقات، واستوحى ميشيل سورن لوحاته من شعر ملارمي. واستوحى رودريك ماركيز دو سوزا وضياء العزاوي لوحاتهما من شعر محمد بنيس، واستوحت إيتيل عدنان لوحاتها من شعر بدر شاكر السياب وأدونيس، واستوحت منى السعودي لوحاتها من شعر محمود درويش. وهناك أيضاً شعراء رسّامون كلويس أراغون وفيكتور هوغو وشارل بودلير وجبران خليل جبران وأدونيس وقاسم حداد والشاعر الهندي طاغور والشاعر الياباني ماتسو باشو والشاعر الألماني غوته وغيرهم. واللوحات الشعرية دليل على العناية الفائقة بالشعر عند الأمم والحضارات. وأن الشعر لم يفقد حضوره البهي في حياة الناس.
هل على قارئ القصيدة الحديثة الإلمام بالحقول المعرفية كافة؟ وهل الانفتاح هو سمة الشعر الحديث؟
مشكلة الشعر الحديث هي مشكلة التلقي. فقراءة النص الشعري مرتبطة بدرجة ثقافة المتلقّي. وقراءة الشعر الحديث والمعاصر من المفروض أن ترتكز على العمق المعرفي والثقافي والجمالي لِما عرفه الشعر الحديث من تبدّلات وتغيّرات فنية وجمالية. لأن الشعر معرفة وفلسفة وفكر وفنّ. فشعرية القصيدة لا تبدو في وظيفتها ولكن في بنيتها وجماليتها وفنّيتها. والشعر اليوم يعيش أزهى مراحل الانفتاح على الفنون وعلى شعريات العالم. فلا يمكن على سبيل المثال قراءة شعر أدونيس وشعر محمد بنيس من دون الإلمام ببعض الحقول الفكرية والمعرفية المتعلِّقة بتصوّرات الحداثة، والتّحديث الشعري ليس بالمفهوم الأكاديمي الصّرف بل بالمفهوم المعرفي الجمالي العاشق لكينونة الشعر لِما في اتّجاههما من تجاوز وتحوّل وحرّية ومحبّة وإنسانية. فشعرهما يمتاز بشعرية جديدة مُتجاوَزة لكل القصائد التي كُتِبت قبلهما. فأحدثا ثورة في مجال الكتابة الشعرية لِما حقّقاه من إنجازات كبرى في الثقافة العربية مُعترَفٌ بها في مختلف الدّول والقارّات. لذلك على الجهاز القرائي للمتلقي استيعاب هذا الوعي الجديد بالشعر، وإعادة النظر في معرفته الشعرية التي هي شرطٌ أساسي للقراءة والكتابة معاً.
****
بالاشتراك مع aleph-lam
www.georgetraboulsi.wordpress.com