كلود أبو شقرا
الثقافة ليست رفاهية، بل نضال مستمر لخدمة الإنسان إلى أي بقعة من الأرض انتمى، هكذا يمكن
اختصار مسيرة الأديبة اللبنانية إيفيلن عقاد التي حملت فكرها وقلمها وإيمانها بحياة كريمة تسودها العدالة والمساواة، وجابت العالم تدرس أوضاع النساء وتغوص في عمق القضايا وتحلل أسبابها… وتدوّن كل ذلك في روايات ودراسات هي جزء من حياتها بل كل حياتها… يجتمع على صفحاتها التراجيديا والغنائية، النثر والشعر، وتشكل في مجملها لحظات مضيئة في عالم يغوص في الظلام.
إيفلين عقاد، كاتبة وأديبة وباحثة ومؤلفة موسيقية وشاعرة، أستاذة الأدب المقارن، الفرنكفوني والعربي، والدراسات الأفريقية والنسائية في جامعة إيلينوي والجامعة اللبنانية- الأميركية في بيروت، لها مؤلفات بالفرنسية والإنكليزية، طبعت إلى لغات عدة وحازت جوائز عالمية.
حول مجمل مسيرتها مع الأدب والموسيقى وتجربتها مع المرض ومع قضية المرأة في المشرق العربي ومغربه كان الحوار التالي معها.
اخترت الإقامة في باريس والكتابة بالفرنسية، ما الذي قاد خطواتك هذه؟
تركت لبنان في التاسعة عشرة من عمري رفضاً لزواج إجباري فرضه أهلي علي، وسافرت إلى أميركا، آنذاك كانت لدي منحة صغيرة، وعملت في شركة طيران الشرق الأوسط، وهناك أكملت تعليمي، إلا ان قلبي بقي في لبنان ولم يفارقه، فأنا اعشق هذا البلد بكل تناقضاته وأزماته وواقعه الجميل حيناً والمرير أحياناً… قبيل بداية الحرب عدت إلى لبنان، لكن كان من الصعب علي البقاء فيه، بسبب الأحداث فتزوجت من رجل أميركي وعدنا إلى أميركا، وعملت أستاذة محاضرة في جامعة إيلينوي، من ثم التحقت بي شقيقتي وعائلتها…
رغم كل الأحداث التي عصفت بهذا البلد، كان الحنين إليه يدفعني إلى زيارته بين فترة وأخرى، فتوليت منصب أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية- الأميركية، ووزعت وقتي بين لبنان وأميركا.
واجهت زواجي ظروف كثيرة دفعتني إلى الانفصال عن زوجي، ولم تكد تمضي فترة حتى ارتبطت بأستاذ جامعي فرنسي كان زميلي في جامعة إيلينوي ولديه صحيفة فرنسية بعنوان Peuples Mediterannéens فعشت معه 33 سنة، وتوفي منذ سنوات ثلاث بمرض السرطان، وصرت أوزع وقتي بين لبنان وفرنسا وأميركا…
أنتِ كاتبة وموسيقية وتمزجين في محاضراتك بين الكلمة والنغم، فهل يعكس ذلك بعضاً من شخصيتك التائقة إلى التعبير بأرقى وسيلتين يشكلان في الواقع توأمين لا ينفصلان؟
صحيح، أعشق الموسيقى كما أعشق الكتابة، وشخصيتي موزعة بينهما، فعندما هاجرت من لبنان، لم يكن لدي المال الذي يساعدني على العيش في بلاد العم سام، فحملت آلة الغيتار وصرت أحيي حفلات في المؤسسات والمؤتمرات لجني بعض المال، وأؤدي أغنيات بالفرنسية والعربية والإيطالية، لجورج موستاكي وإديت بياف…
عندما نشبت الحرب في لبنان سنة 1975، تألمت وتأثرت من الجرح النازف في خاصرة الوطن، وترجمت ذلك في قصائد كتبتها ولحنتها وغنيتها، فلمست شغاف القلوب لتصويرها المعاناة والآلام التي يواجهها اللبنانيون، وتناولها المرأة ودورها الواجب أن تضطلع به في الحرب لا سيما في عائلتها، فأحب الأميركيون هذه الأغاني وشعرت بأنني أخدم قضية بلدي من خلالها.
كيف تفاعل الناس مع تجربتك هذه في المحاضرات؟
تفاعلوا بشكل لم اتوقعه، عادة قد يمل المستمع في قاعة المحاضرات ويخرج من القاعة أو ينام، لكن عندما أغني وسط المحاضرة أغنيات تتناول قضايا المرأة الحساسة مثل مسألة الختان، تتركز أفكار الحضور حول أغنياتي… وقد شكرتني نساء أفريقيات حضرن إحدى المحاضرات واستمعن إلى الأغنية، لأنها تعبر عنهن، ولأنها تتضمن شعراً يلامس القلوب، كذلك يتفاعل الناس كثيراً عندما اغني “أعطني الناي وغنِ” لفيروز من ألحان نجيب حنكش.
توزعت مؤلفاتك بين الفرنسية والإنكليزية، ما الذي يحفزك على الكتابة في هذه اللغة أو تلك؟
كتبت الروايات بالفرنسية والأبحاث بالإنكليزية، من الطبيعي وأنا أحاضر في جامعة إلينوي أن أكتب أبحاثاً بالإنكليزية، فيما الروايات كتبتها بالفرنسية لأن الفرنسية لغة فيها الكثير من الأدب والرومنسية، وقد شجعني على ذلك زوجي بول Vieille.
إلى أي مدى تحمل رواياتك بعضاً من تجاربك؟
بل هي خارجة من رحم تجاربي ومعاناتي ومعاناة المرأة في الشرق عموماً، ففي روايتي الأولى L’Excisée (1982) تناولت المرأة المعنفة ومسألة الختان التي تواجهها المرأة في بعض المجتمعات العربية، الختان النفسي والجسدي أي التعصب الذي يجرح العقل والنفس، مع أنني كتبت الكتاب من دون أن اشتغل عليه كثيراً إلا أنه نجح في أميركا ويشكل مادة تُعلَّم في جامعات أميركا وفي الجامعة اللبنانية.
في كتابك Voyages en Cancer تطلقين صرخة غضب ونقمة إزاء المفاهيم الخاطئة حول هذا المرض، فهل تعتقدين أن صرختك قد تجد آذاناً صاغية في مجتمعاتنا العربية؟
لا بد من أن تجد أرضاً خصبة تحتضنها، فأنا انطلقت في كتابي من تجربتي الشخصية وتجربة زوجي مع المرض، فهو أول من شجعني على الكتابة بهدف تغيير الرأي العام والتعامل مع المرض بواقعية وعدم السعي إلى إخفائه أو اعتباره عيباً.
كنت في التاسعة والأربعين من العمر عندما أصبت بسرطان الثدي، وفي فترة خضوعي للعلاج لم أستسلم إنما استمريت في التعليم وتأليف الكتب. وعندما شفيت أصيب زوجي بسرطان البروستات، فقاومه طيلة 17 سنة، إلى أن تمكن منه في السنوات الخمس الأخيرة وقضى عليه.
صرختي المدوية التي أطلقها من خلال هذا الكتاب، هي عدم الخشية من هذا المرض. ألاحظ في مجتمعاتنا الشرقية أننا نخشى التلفظ حتى باسمه وهذا خطأ، فأناس كثر عاشوا التجربة وخرجوا منها أكثر قوة ومحبة للحياة وللآخرين لأن المرض يجعلهم يدركون قيمة الإنسان والحياة ويتلمسون الجمال في الطبيعة وفي كل ما يحيط بهم. في كتابي لم أتناول تجربتي فحسب، إنما سافرت إلى بلدان كثيرة لأطلع على طريقة تعامل الناس مع المرض، واستلمت رسائل من مرضى يخبرونني تجربتهم في هذا المجال وضمنتها كلها الكتاب، للإلمام بنواحي المرض كافة، علني أغير نظرة مجتمعاتنا إلى هذا المرض الذين يشيرون إليه بـ”المرض الخبيث” أو ذاك المرض الذي لا يُسمى”… وهو يترجم راهناً إلى العربية. ونال جائزة فينيكس التي يمنحها صالون الكتاب الفرنكفوني في بيروت عام 2001.
كيف تعاملت مع الحرب اللبنانية في كتاباتك؟
دخلت الحرب اللبنانية إلى كتاباتي من منظار إعطاء العالم صورة عن أبشع أنواع القهر والمعاناة والمجازر التي يواجهها الإنسان في لبنان، لم اكتب عن السياسة بل عن لعبة الكبار في وطن صغير كان يوماً قطعة من الفردوس وصار فجأة بفعل شرارة نار كتلة ملتهبة من الحديد والدخان. في هذا الإطار كتبت Coquelicot du massacre، وضمنته التجارب التي عايشتها سواء مع طلابي في الجامعة اللبنانية- الأميركية حيث أعطي محاضرات أو في الشارع ومع المحيطين بي، وركزت بشكل خاص على الشباب ومدى تأثير الحرب عليهم، لا سيما الضياع وما يتبعه من مظاهر تسيء إليهم على غرار الإدمان…
حاولت من خلاله تغيير رؤية الناس إلى الواقع عبر مجابهته بالثقافة والفكر، لذا تمنيت أن يرافقه سي دي يتضمن أغاني ألفتها حول الحرب، لأن ثمة أفكاراً تترجمها الموسيقى أفضل من الكلمة المكتوبة أو لنقل أن ثمة تكاملاً بينهما، وللقول إن الحرب يمكن مجابهتها بالموسيقى والفكر والثقافة… ولأدعو إلى ثقافة السلام.
في معظم محاضراتك وكتبك حملت لواء الدفاع عن المرأة في بلدان المشرق العربي ومغربه ولك في هذا المجال محاضرة في عنوان “نساء الشفق ونساء الأمل”، فكيف تلخصين وضع المرأة اليوم؟
المرأة في بلداننا مقهورة ولا تستطيع التعبير عن أفكارها أو حتى التمرد على واقعها خوفاً على عائلتها من أن يطالها السوء، حاولت في كتابي أن أحثها على التمرد وعلى رفع صوتها كي تحدث التغيير المطلوب، وتكلمت عن تجربتي مع والدي الذي كان يشبعني ضرباً في طفولتي، وعندما قرأ الكتاب شعر بتأنيب الضمير وأدرك خطأه وصرنا صديقين في ما بعد. فإذا لم نرفع الصوت ونتحدى الخوف لن نصل إلى التغيير. وقد عبرت عن كل ذلك في كتبي لا سيما Femmes du crepuscule الذي ألفته بين 1970 و1980، في عز فورة الحركة النسائية المولودة من أحداث مايو 1968 في فرنسا، وأعدت طبعه في 2008، لأن القضايا التي يعبر عنها لا تزال قائمة لغاية اليوم.
حياتك الأدبية بين لبنان وفرنسا أكسبتك صداقات مع كاتبات لبنانيات وسوريات، فكيف توظفين هذه الصداقات في خدمة الثقافة؟
أحاول دائماً الاستفادة منها لمعالجة قضايا المرأة الملحة لا سيما القمع الذي تتعرض له في بلداننا العربية، أحضر راهناً لمؤتمر ضخم حول المرأة والحرب، قد يعقد في يونيو في بيروت، تشارك فيه أديبات من لبنان والدول العربية، ويتمحور حول دور المرأة في إحداث تغيير للحالة التي يعيشها العالم العربي، لا سيما العنف والتطرف، من خلال البحث والأدب والشعر والنواحي الفكرية كافة.
نلاحظ ان المرأة في البلدان العربية توظف الرواية للتعبير عن آرائها أكثر من الألوان الأدبية الأخرى لماذا؟
لأن الرواية تحتمل التعبير المبطن عن الأشياء والأحداث، وهذا أمر لا يمكن حصوله في البحث الذي يعتمد معايير علمية، عندما تكلمت مع الأديبة المصرية نوال السعداوي حول هذا الأمر بالذات، قالت لي إنها تعبر في الرواية عن حالة المرأة أكثر من المقالة، نظراً إلى مساحة الخيال اللامحدودة التي توفرها، وشتى أنواع التعبير…
في كتابك “الجنس والحرب: أقنعة أدبيّة في الشّرق الأوسط” درست تصرفات كل من الرجل والمرأة خلال الحرب، فما هدفك من وراء ذلك؟
معظم الكتب الصادرة عن الحرب لم تتناول هذه القضية، وقد أردت من خلاله إلقاء الضوء على تصرف الناس تحت وطأة العنف والموت والقصف المنهمر عليهم. واستنتجت أن ثمة فرقاً في التصرف بين الرجل والمرأة، وتولدت لدي أفكار من شأنها وضع حد للعنف، من بينها أن الحنان إذا وجد بين الزوج وزوجته قد يجعل البيت يرفل بالسلام، وقد ينتقل هذا السلام إلى المحيط ومن ثم إلى المجتمع، أي أن إصلاح المجتمع ومحاربة ظواهر العنف والتطرف والإرهاب والحروب يجب أن ينطلقا من العائلة، فإذا بنينا عائلة مثالية نبني مجتمعاً مثالياً… التفاهم العائلي والحب العائلي ينسحبان على المجتمع ايضاً.
أخيراً ماذا أكسبتك تجاربك في الحياة؟
علمتني أن المحبة أقوى سلاح يمكن أن نحدث من خلاله التغيير، والمحبة التي أعنيها هنا هي بالتصرف وبالممارسة وليس من خلال الوعظ والتبشير، فالمحبة بالذات هي التي أعادتني إلى لبنان، وهي ذاتها جعلتني أخدم قضية الإنسان المقهور بغض النظر عن جنسه، سواء كان رجلاً أو امراة مع أنني أفرد في كتاباتي حيزاً واسعاً لقضايا المرأة. بالمحبة نستطيع جعل الواقع أفضل.
****
(*) جريدة الجريدة