بقلم: د. ميشال مراد
يدور في خلدي اليوم ما كان يخامرني من مشاعر غريبة عندما أخذت اليراع لأكتب أول مقال لم ينشر حينها بسبب إضاعته في أحد مكاتب التحرير. فلطالما كانت أسماء الناس تحزنني وتضحكني في آن، حين يطلق الأهل على مواليدهم أسماء رجال عظام، أو أسماء حيوانات تتصف بالشجاعة والإقدام، أو أزهارًا تزدان بالروعة والجمال، أو نعوتًا تتسم بمحاسن الأخلاق وحسن المزايا.
ونادرًا ما كانت هذه الأسماء تليق بالأبناء أو أنهم كانوا يستحقونها، فمن دعاه والداه باسم “صادق” ينعته أصحابه بأنه أكبر كذّاب، ومن سمّياه “نمر” يخاف من طرف خياله، ومن سمّياها “هيفاء” تبدو مستديرة الجسم كحبة الباذنجان، ومن كان اسمه “جميل” يهرب الصغار من دربه لشدّة بشاعته.
ضرب من التمنيات
هكذا هي معظم أسماء الناس، لقّبوا بها حتى قبل ولادتهم، ولم يكن بمقدور أحد من الأهل أن يرجم بالغيب ليعرف إذا كان ابنه سيحقق عندما يكبر ما يدل عليه اسمه من صفات حميدة، وكل ما كان يحلم به هو ضرب من التمنيات في عالم المجهول.
ورحت أنبش في ذاكرتي أسماء من عرفتهم، وشرعت أقارنها بما عرفته عنهم خلال مصاحبتي لهم، ويا لهول ما اكتشفت من تناقضات تدعو إلى السخرية حينًا وإلى الاشمئزاز أحيانًا. ولمّا كانت مسبحة هذه الأسماء طويلة جدًا فقد اكتفيت منعًا للهزء والملل ببعض النماذج الساخرة.
سعيد
كنت صغيرًا على مقاعد الدراسة عندما سمعت المعلم ينادي على رفيقنا: “يا سعيد كفّ عن البكاء!”، فقلت في نفسي “كيف يكون “سعيد” سعيدًا وصباح كل يومٍ نراه يبكي وهو جالس على مقعده؟”.
لم أكن أعلم أن عائلة سعيد غايةً في الفقر والبؤس، وأنه كان يأتي إلى المدرسة جائعًا في أغلب الأحيان. بعدها تساءلت إذا كان والداه كاملي العقل عندما سمّياه “سعيد”، أم أنّ رغبتهما الدفينة في رؤية ابنهما سعيدًا في أحد الأيام هي التي دفعتهما إلى هذه التسمية؟
وبعد ثلاثين عامًا من ولادته بقي “سعيد” تعيسًا في حياته حتى أنه لم يعد يجيب على كلّ من يدعوه باسمه، ظنًا منه أن هذا الاسم كان وبالاً عليه وحوّل حظه من سعيد إلى منحوس تعيس.
غضنفر
فرح الجدّ كثيرًا بمجيء حفيد له، وطلب من الأب إطلاق اسم “غضنفر” عليه، لأنه سيدافع يومًا عن عشيرته وآله بشراسة كما يدافع الأسد عن أشباله. وغضنفر هو أحد أسماء ملك الغاب الذي لا يهاب أحدًا.
كبر الصغير واكتنز جسمه فغدا يشبه الرياضيين الذين يمارسون تمارين تقوية العضلات. وفي أحد الأيام عاد إلى البيت وهو يجهش بالبكاء، فسأله جده مغتاظًا عن السبب، فأجاب أنّ أحد رفاقه قد ضربه.
اعتقد الجدّ أن أحد الشباب اليافعين قد اعتدى على حفيده، فأمسك بيده مسرعًا يبحث عن ذلك المعتدي ليلقنه درسًا لن ينساه. وعندما وصلا إلى ساحة الحيّ أشار “غضنفر” بإصبعه إلى فتى نحيل القامة لا يبلغ طوله مستوى كتفه وقال لجده: “هذا هو الفتى الذي ضربني!”.
بُهت الجدّ عندما شاهد المعتدي واستدار نحو حفيده قائلاً: “اللعنة على تلك الساعة التي دعوتك فيها “غضنفر”، وكان الأجدى بي أن أدعوك خروفًا أيها الجبان!”.
ياسمين
كان حلم جارتنا سعدى إنجاب فتاة بعدما أنعم الله عليها بأربعة صبيان. وهذا ما حصل! فدعتها باسم “ياسمين” ليفوح أريجها بين الناس ويعطر أجواء المكان.
كبرت “ياسمين” وهي لا تحبّ النظافة ولا الاغتسال فعانت والدتها الأمرّين منها بدون إفادة. فكم من مرة عنفتها وانهالت عليها ضربًا لكنّها لم تغيّر عادتها فهي والصابون على خصام.
عجزت الأمّ عن إصلاح ابنتها، وبعدما فقدت الأمل من إصلاحها قرّرت تغيير اسمها وشرعت تدعوها “أمّ كرنُب”!
أمين
سمّاه والداه أمين تيمنًا باسم خاله الذي ذاع صيت أمانته بين الزبائن والمقربين. وعندما كبر وانتقل ليعمل معنا في المؤسسة، بدأت أغراضنا الصغيرة تختفي واحدًا تلو آخر.
وذات يوم اتفقنا على مراقبته وضبطناه بالجرم المشهود يفتح محفظة أحد الزملاء ويسرق منها قلم حبر. ومنذ ذلك الوقت أخذنا نعدّ أصابعنا الخمسة بعد أن نسلّم عليه.
لطيفة
“لطيفة” سيدة مجتمع لا تترك مناسبة اجتماعية تفوتها، ولا تدع بيتًا في الحي إلاّ وتزوره في الساعة التي تحلو لها. أحيانًا، نسمع طرقًا على الباب عند الثامنة صباحًا فتركض أمي مرتبكة لتفتح الباب، وإذا بالسيدة “لطيفة” تبدي انزعاجها من الانتظار لأنّ والدتي تلكأت قليلاً. وما إن تصبح في صحن الدار حتى تباشرها بالسؤال: “هل شربت القهوة أم بعد؟”، وقبل أن تفكر أمي بالجواب تكون الست “لطيفة” قد تربّعت وأخذت تبحث بعينيها عن شيء تتناوله.
أمّا إذا لم يتسنَّ للست “لطيفة” المجيء صباحًا، فلن يؤخرها شيء عن الحضور مساءً. وفي إحدى الليالي تأخّر والداي في جلستهما، وإذا بصوت “لطيفة” يصدح من تحت الشرفة: ” تسهران وحدكما ولا تسألان عن المحرومين من السهر؟”، فأجابها والدي ساخرًا: “لا تنسي أن تأتي بالفراش معك!”.
أنيس وسمير
أنيس وسمير توأم رافقتهما منذ الصغر. أتيا إلى هذا العالم بعدما حُرم والداهما من الإنجاب لمدة أربعة عشر عامًا. ومن شدّة فرح الوالدين دعواهما بهذين الاسمين ليؤنسا وحدتهما ويدخلا المرح والسعادة إلى حياتهما.
وكم كان الوالدان مخطئين! فأنيس لا يتكلّم إلا ليطلب شيئًا يأكله أو يشربه، وسمير لا يغادر غرفته بتاتًا ولا يحب التعاطي مع الغير!
باءت محاولات الوالدين لتغيير نمط حياة ولديهما بالفشل، وتبين لهما أن هذين الاسمين على غير مسمّى، فالأنيس هو من يبعد عنك الوحدة والضجر، والسمير هو من يسلّيك وينعش بالأخبار حياتك، وما دام الولدان سيبقيان على هذه الحال فلا بدّ من السعي لتغيير اسميهما.
تقدّم الوالدان إلى المحكمة بالتماس لتغيير اسمي ولديهما، وكان اسم القاضي الذي سينظر في القضيّة “محبوب عبد اللطيف”. وعندما أقبل سعادة القاضي بوجه متجهم وعينين عابستين قال الوالد لزوجته: “كان من الأحرى بوالد القاضي أن يغيّر اسم ابنه! تعالي يا امرأة إن مصيبتنا أخفّ من مصيبته!”.