سوريا في العصر الأميركي (*)

بقلم: د. عبدالله بو حبيب

لم يكن لسوريا علاقة ودية مع الولايات المتحدة منذ بدء العصر الأميركي في المنطقة بعد حرب السويس في العام 1956. ولم يسفر نجاح هنري كيسنجر العام 1974abdallah-bou-habib-1 في عقد اتفاق بين سوريا وإسرائيل بعد حرب 1973، في تحسين العلاقات بين البلدين في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون. وبينما ركز الرئيس جيمي كارتر على مسيرة السلام بين مصر وإسرائيل، اعتبر وزير خارجية الرئيس رونالد ريغان، جورج شولتز، أن الرئيس السوري حافظ الأسد قد أفشل له محاولتين لعقد اتفاق سلام بين إسرائيل وكل من لبنان والفلسطينيين، غداة الاجتياح الإسرائيلي للبنان في صيف 1982.
وبدأت العلاقات بين البلدين تنفرج بعد الزيارة الفاشلة التي قام بها الرئيس حافظ الأسد إلى موسكو في أوائل العام 1986. عرف الأميركيون حينذاك أن الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف أبلغ الأسد بوقف كل المساعدات إلى سوريا وغيرها من البلدان التي كانت تعتمد على المساعدات الاقتصادية والعسكرية السوفياتية. لكن حقد شولتز على الأسد أجّل تحسين العلاقات بين البلدين إلى عهد الرئيس جورج بوش الأب عندما نجح وزير خارجيته، جيمس بيكر، في خريف 1990 بأن «يقنع» الأسد بإشراك سوريا في الحرب ضد صدام حسين، بعد احتلال العراق الكويت، مقابل إعطائه الضوء الأخضر لفرض وصايته الكاملة على لبنان. وكذلك أقنع بيكر الأسد بالاشتراك في مؤتمر مدريد للسلام بين العرب وإسرائيل في العام 1991، ومن بعدها اشتركت دمشق في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل في واشنطن استمرت لغاية منتصف التسعينيات.
شهد عقد التسعينيات «شهر عسل» في العلاقات بين البلدين كان نجمها سفير دمشق إلى واشنطن، وزير خارجيتها اليوم وليد المعلم. كانت العلاقة بين المعلم وكل من دنيس روس، رئيس فريق مفاوضات السلام، ومارتين انديك، مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط، على أحسن ما يرام. كان المسؤولان الأميركيان يستشيران المعلم في القضايا المتعلقة بمسيرة السلام. وحدث أن حضرت حفل الوداع الذي أقامه روس وأنديك على شرف المعلم عندما انتهت خدمته في واشنطن (1990 ـ 2000). قال روس للمعلم مودعاً، «اعتدت التوقف في شارع وايومنغ (مقر السفارة السورية في واشنطن) كل صباح لأستقي من حكمتكم سبل معالجة مشاكل المنطقة».
وبعد فشل المفاوضات بين سوريا وإسرائيل برعاية أميركية في منتصف كانون الأول 1999 والنصف الأول من كانون الثاني 2000 في بلدة شبيردزتاون القريبة من العاصمة واشنطن، دعا الرئيس كلينتون الرئيس الأسد إلى لقاء في جنيف في آذار 2000، حاملاً معه اقتراح إيهود باراك، رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك. كان الاقتراح يقضي بانسحاب إسرائيل من الجولان على أن تحتفظ بالأراضي السورية المحيطة ببحيرة طبريا. رفض الأسد الاقتراح وانتهى شهر العسل بين دمشق وواشنطن وابتدأت العلاقات بين البلدين بالتدهور، خاصة بعد عودة المعلم إلى دمشق.
أتى جورج بوش الإبن إلى الرئاسة الأميركية في كانون الثاني 2001 مقتنعاً أنه لا مجال لسلام في الشرق الأوسط، فترك، بل شجع، إسرائيل على تدمير الضفة الغربية والسلطة الفلسطينية مما أثار غضب العرب وحملهم على توقع الأسوأ. وبرغم تعاون الاستخبارات السورية مع نظيرتها الأميركية في التفتيش عن إرهابيين بعد حوادث 11 أيلول 2001، أُدخلت سوريا في مخطط «المحافظين الجدد» الذين اعتبروا أن اجتياح العراق في ربيع 2003 هو بداية لتغيير شامل في العالم العربي. كما أن مقولة «سوريا بعد العراق» أخافت سوريا من النيات الأميركية ودفعتها لدعم مناهضي الاحتلال الأميركي في العراق.
غير أن فشل واشنطن في تحقيق أهدافها في حرب العراق وتركيزها على احتواء المشاكل التي أفرزتها الحرب، حملها إلى صرف النظر عن نشر الديموقراطية في البلدان العربية، وراحت تمارس الضغط على سوريا لوقف تسهيل مرور «الجهاديين الإسلاميين» عبر أراضيها لمحاربة احتلالها للعراق. واستمر الضغط على سوريا بعد مجيء باراك أوباما، الذي كان من قلائل أعضاء مجلس الشيوخ الذين عارضوا الاجتياح الأميركي للعراق. لكن النظام السوري لم يفرّق بين بوش وأوباما ولم يستطع تجاهل النيات الأميركية الأساسية تجاهه، وقرّر عدم التعاون واستمر بمساعدة «الجهاديين» لغاية بدء الأزمة السورية.
اليوم، باراك أوباما يتمنى سقوط الرئيس بشار الأسد. لكن أوباما يرفض التدخل المباشر في الحرب السورية، ويرفض أيضاً السماح للدول المساعدة والمموّلة للمعارضين بمد المتمردين بسلاح متقدم يحد من استعمال النظام السوري لطيرانه ودباباته. كما يرفض أوباما إقامة مظلة جوية تعطي المعارضة الأمان وحرية التحرك على الأرض السورية. ويصر أوباما على موقفه بالرغم من الضغوط الخارجية (البريطانية والفرنسية والخليجية) والداخلية المتمثلة في الحزب الجمهوري المعارض ويسار حزبه الديموقراطي. بالإضافة إلى ذلك، فلقد اتُهم أوباما بالانكفاء في معالجته الحرب السورية وبخسارة فرصة تاريخية تسمح لواشنطن بوضع سوريا في محورها. لكن الرئيس الأميركي بقي يفاخر بإخراج بلده من حربين، مستنداً أيضاً إلى دعم شعبي واسع يرفض إشراك واشنطن في حرب جديدة.
وأخيراً بينما أدركت روسيا إيجابيات الموقف الأميركي وراحت تحاور واشنطن بشأن عقد مؤتمر سلام لوقف الحرب والدمار وهدر الدماء، ما يزال النظام السوري، وخاصة حلفاءه في لبنان والمنطقة يتحدثون عن «المؤامرة الأميركية الصهيونية» لإضعاف دولة «المواجهة والممانعة» وتقسيمها إلى دويلات.
إن واشنطن هي اليوم كما تسمعها وتراها، وهي تتمنى نهاية «شريفة» للنظام القائم في سوريا وانتقالاً سلمياً ومنتظماً للسلطة باتجاه نظام ديموقراطي يحترم الحريات والتنوع.


(*)السفير، الخميس 13 حزيران 2013

اترك رد