الأديب مازن ح عبود
وكان أن انطلق “ابراهيم” في رحلة طويلة إلى اقصى العالم. غادر أبعد بكثير من “كفرنسيان” وكل الناحية. وقبيل مغادرته، تطلع في عيني ابنه اللتين اتسعتا بلقياه. وجد في العينين الكرويتين محيطات قررت أن تخرج من حوضيها. فتغمر الغرفة. وصار الرضيع يرتكض إحساسا. ويتفوه بأشياء صعب على “برهوم” فهمها بحرفيتها. فتلك اللغة كانت لغة العيون والإشارة التي يتقنها الرضع والملائكة.
ما عساي أبلغك يا “اسحق” يا حبيبي، وأنا ماض عنك وعن أمك إلى حين كي أعود؟؟ أأبلغك كم سأشتاق اليك؟؟
وعاد فتطلع “برهوم” في عينيّ الصبي. فوجدهما يموجان بانفعالات. أحسّ أن الرضيع الذي لم يتعدى عمره الأشهر الستة. يلتقط كل ذبذبة من مشاعره كصحن لاقط. فثمة لغة تتخطى النطق السوي والكلمات. كل كلمة من كلمات “ابراهيم” كانت تولد في الرضيع دهشاً. والدهش يدوّر أعين الصغار فتصبح شموساً، يصعب تجاهلها.
وصار الصبي يضحك، وكل ما ضحك شعر “ابراهيم” أنّ الدنيا ضحكت مع ولده. قال: “آه ما أجملك يا صغيري!! آه ما أروعك يا ملاك المنزل!!”. إلا انّ ضحكة الرضيع وضعت أيضاً اثقالا على عاتق الوالد الذي شعر أنّ تحديه هو في إبقاء ضحكة ابنه مشعة.
قبّل “ابراهيم” خديّ رضيعه ويديه الصغيرتين. ودّع زوجته ومضى يبحر جواً إلى أعلى. حلقت الطائرة لساعات كي تعود فتحط. فهي لا تنتمي إلى فوق. وتعرف أنها لا تستطيع أن تقترب من الشمس كي لا تحترق نهاراً، ومن الكواكب ليلا كي لا تتعثر، فتضلّ الطريق، وتصير شهباً سرعان ما يختفي ويدخل من فيه عوالم الأرواح الهائمة على ضفاف هذا العالم.
ارتفعت به المركبة عن “كفرنسيان” وعوالمها دون أن يرفع وجدانه عن المكان حيث ما زال أعزّ ما عنده. بان حيث ما كان صغيراً للغاية. وانطلقت به في رحلة في مطارات الدنيا.
حاول أن ينام إلا أنه ما استطاع أن يسلم نفسه إلى النعاس. وكان كل ما غمض جفنه يشعر بأنه في حارتهم القرميدية، يخلد هناك عند طرف السرير صوب الحائط، حيث كان يركز أنفه هناك كي يلتقط برودة ورائحة الحوائط التي تحمي. ويروح يحاول التقاط البعض من زفير الرياح. وقد كان يحلم بقصص الأمير والأميرة وممالك الشموس التي هزمت الظلام. إلا أنه هذه المرة، رأى أمه، فكلمها كما سابقا. استفاق مذعوراً، اذ وجد نفسه في الطائرة “ابراهيما” وليس “برهوما” كما مضى.
سقطت من عينيه دمعتان رطب بهما قبر أمه التي عرف أكثر قيمتها متأخراً. اخطأ لمّا ظنّ بأنها باقية إلى الأبد، مع علمه أنها راحلة، ولن تطيل إقامتها. وهو قد أضحى أبا قليلا جداً قبيل رحيلها.
قرر أن يكتب شيئاً لابنه. فالأكيد أننا كلنا راحلون. ويبقى تحديد الزمان والمكان في يد من أودع الروح في جماد.
أراد أن يبلغه عن تجربته. علّ الابن لا يقع في فخاخ الأب. استرجع للحظات في تلك الطائرة ضحكة رضيعه التي قتلت الانتظار. وضحكة “اسحق” كانت أبلغ من فصول “فيفالدي” الأربعة. كانت ألحان الملائكة وفرحها حين يتقدس البشر.
تذكر كيف كان ولدا بالأمس يطيّر طائرة الورق فوق بيدر جده. وكيف كانت الريح تطيّر شعر اخته التي تروح تهمس في أذنيها اسراراً ما نطقت الريح بها بتا. وشعر اخته اودعه شعر امرأته وملمسه الحرير. امرأته، جميلته، التي اضحت أماً، وهو فقد أمه البارحة. فالبشرية أم، ولولا الأمهات لكانت المحبة نضبت، والشموس اغرورقت في العتمات، وذابت في الدنيا الومضات. أمي وامرأتي وأختي أعزّ ما عندي.
راحت الطائرة تستعد كي تعود إلى حيث تنتمي الأشياء كلها. وراح هو يتحضر للقاء امه الأرض التي كانت تطلّ عليه في وجه جديد وقصة جديدة في كل ميناء وقرنة من مطارح هذا الكون الشاسع.