الأديب أحمد الصغير
تعالت في داخل الدار زغاريد نسوة الحي اللاواتي حضرن ساعة ميلاد سعيدة… سعيدة المرأة التي عانت العقم لسنوات طويلة … سبعة عشر عاما في انتظار هذه اللحظة الفارقة في حياتها ، لحظة تحولت فيها من عاقر الى ولود… لحظة انستها ما عانته من كلام نسوة الحي و غمزاتهن و تلاسنهن و ضحكاتهن المخفية تحت اللحاف …
ولكن القدر أو هو اعجاز العرّاف الروحاني، و لعلها الصدفة جعلت نفس النسوة تزعردن اليوم … تلك هي فضاعة النفاق الإنساني … تعالت في داخل الدار صيحات الحمد و التهليل والتكبير، ونصبت أواني الطهي على مختلف أحجامها واختصاصاتها من طعام إلى شاي وقهوة …. وخبز رقاق محلى بالسكر … وكانت قطع الحلوى من نصيب الصغار، و عمّت رائحة البخور المكان.
خرجت الخالة نفيسة من غرفة الزوجة سعيدة وهي في تمام الأريحية والاسترخاء والهدوء ، فالأمر ليس جديداً عليها، فهي قابلة الحي وكل شبابه وصبيته ولدوا على يديها، حتى أنها كانت تختار لبعضهم اسماءهم ، فهي العجوز ذات البركة والكرامة، توّلد الحوامل، تزوج العوانس، ترقي الصغار، وأيضاً تعالج بعض الأمراض النسوية …
خرجت وسط هالة من دعوات النسوة بطول العمر ودوام الصحة حتى أن إحداهن قبّلت يدها، احتراما و تبجيلا لبراعتها في هذا الاختصاص… و لكن العجوز لم تخفِ قلقها من اندثار هذه الصنعة كما قالت، لعزوف الشابات عن تعلّمها …
من آخر النهج الضيّق المتلاصقة منازله، المكسوّة بذلك الآجر الصغير أصفر اللون … من هناك بانت طلعة سعيد … كان في حالة من الفرح والسعادة المتمازجة بالحيرة والقلق … كان فرحا بمولود طالما انتظر قدومه، طالما صبر من أجله حبّا في زوجته وإخلاصا لها … ولكن حالة الفقر والخصاصة و الحرمان كانت مصدر قلقه و حيرته … فأنّى له أن يعيل رضيعا و ليس في بيته ما يعيل فأرا ؟؟؟ سؤال كاد يقتله.
دخل سعيد غرفة زوجته وكانت قد سبقته إليها كحّته المعهودة إيذانا بقدومه ، لم يستطع النظر في عينيها عسى أن تغلبه دموعه فتسبق كلامه … فهو على فقره رجل ذو عزة وأنفة وكبرياء … لم يعرف خده يوما طعماً لدموعه، وفي وداعة لم يعتدها سعيد ، انحنى برفق وحمل إليه ابنه، ضمه إليه و اقترب من أذنه وأقام له فيها الصلاة في الأخرى لقنه الشهادتين … كي لا يعرف الشيطان الى قلبه سبيلا …
ابتسم سعيد أروع ابتسامة في وجه الصبي … إنه عمران، لقد جاء عمران، وسيكون عمراناً وعمارة لهذا المنزل الكئيب البائس الفقير فقر صاحبه، وارتسمت على ملامحه علامات سعادة دهشت لها سعيدة وهو يرى عمران ابنه يتسلق درجات المجد و العلا … والعلم والشهرة… إنه يراه يهدم أركان الفقر من أسسها ليقيم مقامها حياة كريمة مترفة زاهية ألوانها.. فعمران اليوم عالم فطحل يجوب العالم شمالا وجنوباً، يستعرض ما توصل إليه من نظريات حديثة أقامت دنيا العلوم ولم … وعمران اليوم نجم على كل الفضائيات العربية… و حتى الخليجية … وعمران اليوم مطلوب من الموساد الاسرائيلي…
جاءت الخالة نفيسة على عجل … كانت سعيدة زوجة سعيد في انتظارها أمام باب المنزل الكئيب … أحضرت لها ماء بارداً و بعض الأعشاب و العسل … فعمران مصاب بالحمى ولا بد من علاجه ورقيته … إنها عين حاسدة ، هذا تشخيص العجوز الراقية … ذات البركة … لم يعد هناك متسع من الوقت فروح عمران العالم الفطحل ، غادرت مستقرها و لم يعد مطلوبا من … الموساد الإسرائيلي