بقلم: د. ناتالي الخوري غريب
يشكّل اصطدامنا الأوّل بالموت كتجربة حياتيّة لأحد المقرّبين صدمة قد تحفر أخاديد عميقة لا يمكن أن تمحى، ومآزم يصعب الوصول إلى التخلّص منها وبخاصّة إن كنّا بعمر الطفولة أو المراهقة، ويتسّع هذا الشرخ النفسي إذا تكرّر الموت في ظروف متقاربة نسبيًا أو متباعدة، ضمن نطاق العائلة أو المعارف، لتستعيد الذاكرة في كلّ مرة يكون الموت هو المناسبة تلك الجروح العميقة وما يستتبعها من تساؤلات وجودية قلقة عن جدوى الحياة طالما انّ الموت هو الحقيقة الحتميّة الوحيدة. ويسجّل هذا القلق ظلًّا للإنسان لا يفارقه كلّما اختلى بنفسه، فإمّا يتفجّر إبداعًا على الورق من باب تفريغ الشحنات العاطفيّة للتخلص منه في محاولة لمعالجة الذات، وإمّا يسجّل توترا دائما وعزلة يعالج بالمهدئات لتُتَرجم جنونًا لاحقًا.
وهذا ما تطرحه رواية”تلّة الملّاح” الصادرة حديثًا عن دار سائر المشرق، 2014، في 152 صفحة من القطع الصغير، للأستاذ جان هاشم، والطرح الجديد يقوم على مفهوم الشخصيّة المتأزّمة التي تعاني شرخًا بين ما تريد أن تكون عليه وما تعيشه في واقعها فعلا، بين الموروث لحفظ القيم والعادات والتديّن، وبين الحقيقة الفعلية لهذه الموروثات على ضوء العلم والفهم، بين الحنين إلى مراتع الصبا والطفولة وهناءة العيش من دون كثير وعيٍ للمجريات والتفاصيل، وبين صفعة الوعي لقراءة أحداث قديمة على ضوء معطيات وإدراكات جديدة، ومن ثمّ ضيق دائرة الحلول المرتجاة للخلاص.
تبحث هذه الرواية بالإضافة الى موضوعها الأساس في فلسفة الظل والموت والكتابة والعادات والموروثات، ذلك الحنين الذي لا ينفكّ يعتري المرء بعد هجرته قريته وعائلته، أكانت قسرية أم اختيارية، حاملا معه تراكمات من مخزون طفولته حزنًا وفرحًا وكيفية تعامله مع واقعه فشلًا كان أم نجاحًا.
كما أنّ الكاتب حاول أن يطرح قضية أكثر تعقيدًا على المستوى الإنساني، وهي قضية مريض الأعصاب، منذ مواجهاته الأولى مع أصغر المشكلات التي تصادفه (منصور)، ومن ثمّ كيفية تطوّرها في ظلّ مجتمع أو عائلة لا تعرف كيف تسانده، بل على العكس من ذلك تسهم في إغراقه في وهم حالته، ووهم كثرة الاقاويل والثرثرات والنصائح الآتية من غير من هم أهل لها، لتكون نهايته إمّا منتحرًا أو في دير الصليب.
في هذه الرواية أيضا، ينقل الكاتب واقع القرية لنا، بكافّة تفاصيلها، إن جغرافيًا بتعدد زواريبها ومطلّاتها، وإن في طريقة معاملة الناس بعضها لبعض، وبخاصة في الأفراح والمآتم، وكيف يُسجّى الميت واهتمام بعضهنّ بالنظافة على حساب أيّ امر آخر، وإظهار العواطف الكاذبة منها والصادقة، وكيف يفتح الجيران بيوتهم لمجالس العزاء، واهتمام النساء بتحضير الطعام، أو كيفيّة الاهتمام بالاحتفالات والمشاركات واختلاط الحابل بالنابل، وابرز ما نجح فيه أيضًا الاستاذ جان هاشم، هو نقل الازدواجية في صورة المرأة التي تسامح زوجها وهي تعلم بخياناته، من أجل أن تُمحى لها خياناتها غير المعلنة، وتُسامَح عليها، كما حصل مع والدة الكاتب والاستاذ الجامعي في الرواية طبعًا.
كذلك، من صور الازدواجية والخيانات التي رصدها جان هاشم في المجتمع الشرقي القائم هنا على الزيف والخداع لإرضاء صورة الذات المريضة التي تريد أن ترضي المجتمع وتحسين صورتها في نظره وعلى على حساب خداع نفسها، منها: تواطؤ الحماة أنياس” مع كنّتها، بأن تنجب من غير ابنها وهما يعرفان قبل عقد القران انه لا ينجب وهو من طبيعة مخنّثة، وتدبير الغطاء لها، مع مغريات المال الاملاك والتنعم بهما، أأنجبته من سائق تاكسي أو من قريب، المهم لديهما الا تُمسّ صورة الزوج-يوسف، وأيضًا أن تأتي الكنّة بوريث يحمل اسم العائلة ولو لم يكن من صلبه.
وفي الختام لا بدّ لنا من القول أنّها رواية تضيء على الذات الإنسانية في سعيها الدائم الى النجاح والسعادة، إرضاء للاهل اولا وللذات ثانيًا، لكنها تصطدم بتراكماتها المَرَضيّة الناتجة عن مجتمعات خزّنت في أبنائها موروثات خاطئة، لتظهر النتيجة الحتميّة للعيش في ظلّ النفس المتأزّمة، وهي إمّا القضاء انتحارًا أو عيشًا في الظل تهيؤًا للانتحار، وإمّا الانتهاء زائرًا مقيمًا في دير الصليب، تاركًا للقارئ أن يجد حلولًا للإشكاليات التي طرحها، ليبقى العيش في الشمس بعيدًا من الظلّ حيث احتجاز النور يشكّل حاجزًا معتما يعترض مسار موجات السعادة.