بقلم: د. ندى نعمه بجاني
لا نَعْجَبَنَّ ونحنُ بينَ دهشَةٍ وذهولٍ في أن يَنالَ ” نقًا يَتَهَيَّلُ .. وَرَذاذ ” جائزةَ الأديب مِتري نعمان للدّفاع عن اللّغةِ العربيّةِ وتَطويرها، إذ بدا لَنا العُنوانُ مُضَمَّرًا، مُنشَطِرًا، يَجذبُ ذِهنَ القارئ ويُثيرُ فُضولَه قَد حَملَ الغِلافُ جزءَهُ الأوّلَ لَيَكتَمِلَ في الصّدارَةِ “سَوارٍ إلى رُؤًى”…
حَيثُ “النّقا” يَتَهَيَّلُ عَلى أفرشَةٍ مَخمَليّةٍ والرّذاذُ سَوارٌ يَهتُلُ في رَوضِ القلوبِ لقاحاتٍ قُدسيّةً وفي خَوابي الفِكرِ والشّعر والأدبِ سَكراتٍ سابحَةً بينَ الأرضِ واللا نهايَةِ؛ خَرَجَ بها الدّكتور كَبا مِنَ الكِتابِ إلى الغِلاف مُرورًا بالشّطر الوَسَطِيّ.. فيُطالِعُنا الرّذاذُ “غَوادٍ بعِظات”؛.. ماءً طَهورًا ينطِقُ بألْفاظٍ رَفعَتِ النّقابَ، نَزَعَت ثَوبَ الخَوفِ للقاءِ الخالِق، وَتَرانا نَستَمِعُ لصَدى أغوارٍ تَتَشَظّى في نَسقٍ دَلاليٍّ خَلاّقٍ تَحتَ رَنّاتِ العُمقِ الأدبيّ المُستَنبَطِ مِنَ الاستِعلاءِ يَتَهَجّى نُدَفَ العَواطِفِ، كَأنّهُ مَدخلٌ إلى الضَّوءِ وَمَنفَذٌ إلى الفَجر، يَنشُدُ السَّلامَ حَيثُ تَعاقَبَ البَردُ والحَرُّ والقَلَقُ؛ فانْفَرَجَ فَحواهُ مِئَةً وَعِشرينَ راحَةً شَكَّلَتْ جَميعُها أطروحَةً حاذقَةً تَعَمَّدَتْ بروحانيّةِ الكِياناتِ الحَيّةِ التي تَعَمَّدَتْ خَواطِرُ الدّكتور كَبا إبرازَها نُصوصًا غائرَةً في إطارٍ فَريدِ المَقاييسِ؛ وَوَثائِقَ بارزَةً جَمَّلَتْ لَوحَةَ التّاريخ الأدَبيّ والفَلسَفيّ.
نقًا يَتَهَيَّلُ .. وَرَذاذ!
رُموزٌ مَنحوتَةٌ بإزميلِ قلبٍ مُتّقِدٍ ونَباهَةِ أنفاسٍ ناضِحَةٍ، أمجادٌ في التّأويلِ تَنْطُقُ في كُلِّ كائنَةٍ أبعادَ مَخْبوءٍ في الذِّمَّةِ يُبحرُ وأصفادًا في زَبَدِ يَمٍّ جَوّادٍ، نُبوغٌ مِن رَنيمِ الارتِقاءِ وحِكمَةٌ حَريرِيّةُ الأقلامِ تَرومُ مَآثرُها بفَيضِ النّورِ وغُلُوِّ التَّجَلّيّات، والقَلبُ جَوهَرُهُ سِرٌّ تَلُفُّ شَذراتُهُ جيدَ المَقروءِ المِهداءِ المَرصودِ مِن قَداديسَ وَابتِهالات. فالمَخطوطُ عُصارَةُ التّدوينِ مَمهورٌ نَزاهَةً فوقَ رِقٍّ مِن غَزالٍ، ثَراهُ مِن كُنوزِ الطّفولَةِ تَوالَدَ لَوحاتٍ مُتَهَدِّلَةً وكَلماتٍ تُذَرُّ في الأرضِ حَتّى الخُروجِ إلى الدُّنيا بلا مَلامِح، على سَبيلِ ما جاءَ، ص-16-17-:
تُنَجِّمُ في الثّرى المُخصِبِ وَتَموتُ في الحَصباءِ اليَباب، كَلماتٌ لكُلِّ فِعلٍ .. زادٌ للنّفوسِ الغَرْثى، إذا شاءَت، وَطُفَيلِيٌّ دَخيلٌ مُتبَطّل للقابعِ في زنزانَةِ أناه. وَفي الحالَين، تَزهو الحياةُ لأنّها أبقَتِ الزّارعَ الفاعلَ وارتَضَت بما يُهيلُهُ الكِيانُ المُنحَني شَغَفًا إلى حائطِ الكَنيسَةِ مُرتَجفًا كَورَقَةٍ يابسَةٍ بَتراء..
“إنّهُ المَدى المُتَمادي في الحَياة وما انقَضى مِنها” أشارَ إليهِ الدّكتور كَبا كَونَهُ مَعيشَهُ الحاضِرَ مُتسائلاً عن معنى ذاك المُتَهيّئِ بعدُ بالقوّة خلفَ أسوارِ البَقاء حيثُ الدائرَةُ تَلازٌ والأفقُ مُتَذايلٌ وَحقيقَةُ السّقوطِ انحِدارٌ وتَوَقُّلٌ سَرمَديٌّ وارتقاءٌ وحيثُ كُنْهُ المدى مُتمادٍ أمداءً في الحَياة.. نَستَشعرُ لُهاثَ الكاتبِ الأديبِ كَسيرَ الطّرفِ، مُثخَنًا، مُخاطِبًا مُسَلِّمًا أمرَهُ إلى الله. وَنَتَحَسَّسُ أُلوهِيَّةً سَكَنَتهُ في كُلِّ اتّجاهٍ وهو يرتكزُ في دُوارِهِ “على نُقطَةٍ وعلى دائرَةٍ وعلى خَطٍ مُستَقيمٍ مَرقاةٍ لتَخرجَ بهِ كلُّها إلى الضّوءِ والصّفوِ والنّقاء، إلى الهدايَةِ ومَحضِ النّداء”.
هذا “النّقا” المُؤَلَّفُ؛ المُتَماوجُ على امتدادِ الصّفحاتِ في مَرافِقَ فِكريَّةٍ جَمَّة لَم يَكُنْ وليدَ اللَّحظَة، بَل هو إيحاءٌ شَغلَ الدّكتور كَبا، هو قَبَسُ رُؤًى مَكنونةٍ كَوّنَتها روحُ الأقدار وانعِتاقٌ مُستَرسِلٌ مِن قيودٍ ميقاتُها صَمتُ الخافِقاتِ القائمَةِ في عَراقَتِها وقَد تَحرَّرَتْ بأحرفِها وتَسَيَّدَتْ بنَظرَتِها فبَدَتْ نَجمَ الرّؤى وَأورَقَتْ أزمِنَةً تَفوقُ في رُموزِها الوَصفَ والإسناد.
وفي هذا “النّقا” تَستَوقفُنا مَنابِتُ روحٍ ببَوحٍ مِن عِطرِ ذِهنٍ عُلْويٍّ لا يُقاسُ ولا يُحَدُّ؛ مَنابتُ روحٍ أزهَرَتْ فَأينَعَتْ جمالاتٍ أشرَقَتْ في عَينِ الشّمسِ ضَوءًا ونورًا وهِدايَةً، جُلَّ ما في هذه الرّوحِ أنّها تُسامِرُ الحَرفَ في لَيلٍ وبَدرٍ لا يَنتَهيان، فيَنبَلِجُ حَرفُها فَجرًا مِن مِرآةٍ لا تَعكِسُ غيرَ مُهجَتِها وشَخصِها ونَفسِها. تُخاطبُنا، تَجولُ في ثَنايانا، تُشعِرُنا أنّها ذاتٌ تَتَكَلَّمُ باسْمِنا، هي نَحنُ؛ ونَحنُ هي؛ روحٌ وجمالٌ وحُلُمٌ وبَلاغَةٌ نَستَمِدُّها مِن حَرفِهِا العريقِ المُستَرسِلِ إلى الأبَد.
وإذا بميزانِ النّفسِ يتَرَجّحُ مِن فَرطِ ما نَقرأُ في هذا المَفهومِ مِن مُعادَلاتٍ وتَسوياتٍ خَصَّ بها الدّكتور كَبا كلَّ مُؤشّراتِ الحَياةِ الطّبيعيّة المُتَواجدَة فَعايشَها وتَعايَشَ مَعها وَساواها بنَفسِهِ كأنْ شَخَّصَ القَصرَ والكوخَ والماءَ وَالهَواءَ والتُّراب، وَجَسَّدَ العَناصِرَ الأزَلِيَّةَ فبَثَّ فيها الحَياةَ والحِسَّ والحَواسّ ومَنَحَها هَويّةَ الثّبات. فالقَصرُ قالَ للكوخِ: يا أنت! لا مَكان لكَ في هذه الضّاحية البرّاقة، فارحَل وتَسوَّل لساكنيكَ أبَّهَةَ الأشراف – ص65-
وقالَتِ الفراشَة: أنا الوَطَن، ومِثلي النَّحلةُ والذُّبابة والسّنَّور، الشّاةُ والضَّأنُ وحتّى الحمار. الكُلُّ أخي، ومَعًا نحنُ الوَطن.
– سأبَدِّل الرّأيَ العام.. ص 86 –
وقالَ تُرابُ الحَقلِ بتَوَسُّل: إرحَمني يا الله بعَظيمِ رَحمَتِكَ، زدني وَساعَةً وأملاحًا إذا شِئتَ..
وقالَ الهَواءُ في ابتِهال: إرحَمني يا الله بعظيمِ رَحمتِكَ، زدني حرّيَّةً ونقاوةً إذا شِئتَ..
إنَّ تلكَ الاشاراتِ البَيضاءَ المُستَوحاةَ من اختِمارِ فكرٍ نَجيبٍ تَوالى عبيرًا بينَ السّطور؛ أثبَتَت قدسيّةَ المخلوقات ووجوبَ احترامِها في زمَنِ الفتنَةِ والضّغينَةِ والاحقاد، فجاءَت بطاقةَ عبورٍ حَجزَت في قلوبنا مقعدًا للسّفر في عالمٍ فريدٍ مُنفَردٍ حيثُ تَركَّزت أبصارُنا في بلاغَةٍ تُبدي لَنا صَدرًا مُنشَرحًا يهيمُ في بُحيرَةِ النّطقِ والتّسامُح لتَبيانِ الحالَةِ المُستَتبَّة؛ فَنَجدُنا نَستَرشِدُ تأمُّلاتِه في الوجود مُدغَمَةً بتَساؤلاتٍ وعلاماتِ استفهامٍ احتَشَدَت في نُصوصِهِ في غيابِ الجواب .. – ص 60 –
كَما تستَوقفُنا رحْلتُه ص 42-43- حيثُ جاءَ على مُناجاةِ الربِّ وذِكرِ نَفحاتٍ من أساريرِه:
في رحلتي إليكَ.. عناءُ إجهادٍ وأذى خيبات، وقبلُ قبلُ ذلك الشَّظفُ، يا ربِّ، الّذي ليس كمثلِه قنوط.
وتَلمُّني رجاءاتُك، أنا الجاثي على عينيّ، لا أراهما إلاّ لوعدِك، وصقيعُ غربةٍ يأكلُ ناري كلّما أَوغلْتُ بعيدًا عنك في مَضَلاّتي.
في رحلتي إليك.. رِفاقُ سَفرٍ صَنَّفَتْهُم طيبَتي الوُدعاءَ الرُّحماءَ، وأحبّاءُ هم بطهرهِم أقربُ منّي إليك. فاسْبقْني إليهم بحبّك يا ربِّ، وأرجئْ إلى ما بعدَ اهتداءِ الأوّلين ثوابي..
ثُمَّ أَتبَع:
أُتَمِّمُ صفحةً من تَعبُّدي بإنهاءِ عمل، فأنهض.. عيناي إلى المكان الذي تراني أنت منه، يا إلهي.
وتتوالى أعمالي صلواتِ رحمةٍ وهجرانَ ذات، لا ذبائح،..
وأتخفّى في معبدِ أعمالي، كحالي مُغمضَ العينين في الصّلاة،..
هو عالمي، يا ربِّ: طيُّ صفحةٍ من تعبُّدي بإنهاء عمل،..
وتفرحُ بي أنتَ، أعرف، وأفرحُ لأنّ طريقي إليكَ تُشبهُ طريقَكَ إليَّ، وأعودُ لا أسألُ: أهوَ العُمرُ لجدوى حقًا في برّيَّةِ هذا العالم؟!
الدّكتور كَبا طَوْدٌ.. في وَطَنِ الأنبياء!
سَما فِكرُ الدّكتور كَبا بجودَةِ اللّغةِ المُصاغَةِ وبكُلِّ ما أوتِيَ من حِكمَةٍ وفَلسَفَةٍ وثقافَةٍ، فتَوسَّمَ طِّلُّهُ وَأغدَقَ أفعالاً تَطهيريَّةً تَكشِفُ دَورَ الكلماتِ المُعبّرَةِ عَن صَفاءِ الرّوحِ وَاكتِواءِ النَّفسِ بسَوطِ الوَجَعِ لِيَحملَ أزمِنَةً كَسَرَت كُلَّ قَواعِدِ النِّطاقِ رَهنًا لحُبِّ الخالِقِ الخَلاّق؛ فسَيَّجَ كِتابَهُ بهالَةٍ ضَمَّنَها الأساريرَ المَشجونَةَ أدَواتٍ إجرائِيَّةً وانْكَبَّ على الوجدانِ والإحساسِ والعَقلِ والمَنطقِ بأنبَلِ المَزايا إذ سَجَّلَ خاتِمَةً مُقتَضَبَةً كَمَن يَبحَثُ عَن مَشيئَةِ الله في خَفايا حُروفٍ مُنعَتِقَةٍ وفي زَوايا حَنينٍ مَكنوزٍ فأعقَبَ:
ألمِئذنة، قُبَّةُ المعبد.. قامَةُ وَجْدٍ قَد أُنزلَتْ في الحجر، بلِ الخطوةُ إلى المُطلق بقدمِ الرُّوح، وكَذا الإنسان..
وَاسْتَرسَلَ:
وَأسمَعُكَ، ربِّ، بأَجلى، ما امتدَّ بيَ الشَّوقُ امْتشاقًا، وغُيِّبَ من أُفقي قَترُ العَجلات وهَباءُ المَطامح.
إنَّ كتابَهُ رَجعُ الحَقِّ ومُلتَقى الهِباتِ الذّهنيّةِ الخَلّاقَة، يَتألَّقُ في دِماغِ الشَّمس، يُقيمُ في عُمقِ التّرابِ غَديريَّ المَناهِل، سُقيَتْ حروفُهُ بماءِ الصّفاءِ والعِظَةِ والاصْطِفاءِ واعتلاءِ الرّؤى، وَطِئَ كُلَّ الصّفات. والكتابُ مَنارَةُ الرّبِّ يَمُدُّ يَدَ العَطايا لكُلِّ الأزمنَةِ، يَحكي نَزاهَةً بُنِيَتْ في المُطلَقِ منَ الذّات.
ونحنُ.. هَنيئًا لَنا ! نَغتَبطُ ! إذ جُلْنا في أروقَةِ ذائقتِهِ وَطوبى لرَيحانِ روحِهِ المَنثورِ؛ المَسطورِ ببَراعَةٍ وخُصوبَةِ جَوهرٍ، وتَبارَكَتْ يَدُهُ الكاتِبَة نَواةُ المُرتَقى تَبوحُ أنفاسَها وتَتركُ بَصمَةَ قلبٍ سَنِيٍّ ومَلامِحَ حُزنٍ وفَرَحٍ وصَفوٍ وتَجاوزٍ للضَّعفِ البَشَريِّ في أَنَفةٍ وتَرَفُّع ..!