بقلم: د. فيصل دراج
في العنوان ما يستدعي بداهة، تعيّن رئيف خوري ناقداً وتطالب بتقويم مساهمته النقدية في حقل الدراسات الأدبية. غير أن في البداهة وجهاً يحتاج إلى إضاءة، ذلك أن النقد عند رئيف كان منظوراً محدداً للحياة، وممارسة عملية تنصر المنظور وتطوّره، وتبرهن أنه كان ناقداً شاملاً، يدافع عن الحياة الحقيقية، ويقرأ وجوهها في معارف مختلفة.
نقد رئيف، مبكراً، الكاتب التقليدي حين التزم بالدفاع عن الثورة الفلسطينية 1936 ـ 1939، وأعطاها جزءاً من قلمه في كتابه : “ثورة الفتي العربي”، الذي ترجم حقيقة رئيف، وحقائق مقاتلين فلسطينين انتظرتهم الخيبة. غير أن رئيف، الذي سكن روحه نزوعاً يؤيد الصواب، ساجل، بدوره، في كتابه “معالم الوعي القومي” قسطنطين زريق وأفكاره عن القومية العربية المنشودة، التي عظّمت الرغبات وهمّشت الوقائع الملموسة. ولأنه كان مثقفاً حديثاً، بمعننى المنظور والممارسة، اشتبك مع القضايا المشخصة، فكتب عن النازية والطائفية والرابطة الوثقى بين الحرية والكرامة الإنسانية، شارحاً “حقوق الإنسان” وأبعاد “الفكر العربي الحديث”، ….
ومع أن السياسة شكّلت بعداً محايثاً لكتاباته جميعاً، فقد ظلّت هذه الكتابات، في بنيتها العميقة كما في سطحها الخارجي، مشدودة إلى القيم الإنسانية، التي تعبّر عن ذاتها في مقولات : الحق والجمال والصلاح، حتى بدا رئيف منقسماً بين مرجعين، اجتهد في مصالحتهما، أحدهما سياسي، موغل في تسييسه، وثانيهما أخلاقي ـ جمالي، جذبه إلى الاشتراكية ونفـّّره من الستالينية. كان يهجس، ربما، بتعددية “الروح الإنسانية”، حين وضع في كتابه “مع العرب في التاريخ والأسطورة”، قصة من كتاب “المستطرف للأبشهي” وأعطاها عنواناً موحياً: “الإنسان المنقسم على نفسه”، حيث في الإنسان أكثر من إنسان، وفي عقله جملة من العقول. ولعل وعيه بتناقضات الكائن هو الذي أملى عليه الإهداء، الذي صدّر به الكتاب “إلى الشعب الذي أحببته، وفي أحيان كرهته، كما يكره الإنسان نفسه، كرهاً مشتقاً من أعمق الحب”.
ربما كانت تعددية النزوعات الإنسانية، التي تنطبق عليه كما على غيره، هي التي أملت على هذا المثقف الرومانسي، الذي اقتنع بالتعدد في الوحدة ـ فلا شيء متجانس إلا الموت ـ أن ينجذب إلى “الأدب” والفن والدراسات الأدبية”، مدركاً أن الكتابة الأدبية هي الحيّز الملائم لإنطاق “عوالم الروح”، التي تحتمل الفرح والكآبة وتصارع ميول متناقضة، لا تقبل بالمصالحة. ولهذا: عرّف بالأدب العربي، وحاول الرواية، وكتب القصة القصيرة، وقرأ امرؤ القيس وعمر بن أبي ربيعة، نقداً أو تحليلاً، وتأمل “ديك الجن”، ولم ينسَ الترجمة، التي قادته إلى كتاب جدانوف: “إن الأدب كان مسؤولاً”…
حين اختار رئيف شعار : “إن الأدب كان مسؤولاً”، كان يعبّر عن حقيقته لا عن حقيقة جدانوف، ذلك أنه دخل إلى عالم عمر بن أبي ربيعة، كما غيره، من “باب الفرح”، واقترب من عالم الشعر متكئ على فكرة الحرية. قال في كتابه: “الدراسة الأدبية”: “فأي مانع يمنع لو أن الشاعر تحرّر حتى من النمط الواحد فأثبت كلامه كما يأتي شرط أن يكون موزوناً على وزن ما، وشرط أن يأتلف له بالنتيجة رنين موسيقي ما. ص : 90، دار المكشوف، 1945”. ليس القول بـ “وزن ما” و “رنين ما”، إلا احتفاء بالحرية، الذي هو احتفاء بالتنوّع، الذي هو قوام الحياة، كما لو كان الانتصار للتنوع انتصاراً للإبداع والحياة معاً.
عيّن رئيف الحياة مرجعاً للأدب وللدراسات الأدبية فاصلاً، وهو المتحزّب العنيد، بين ثقافة الموت وثقافة الحياة. ولعل أولوية الحياة على النظريات جعلته يمارس الكتابة والدراسة طليقاً، مقترباً مما قاله به لويس عوض في كتابه “الاشتراكية والأدب”، الذي استعاض فيه عن مفهوم المجتمع بواقع الحياة، تلك الواسعة المعقدة المتناقضة اللامتناهية، التي يشكّل الموت نقيضها الضروري. حين تعرّض رئيف إلى الفرق بين الأسلوب العلمي والأسلوب الأدبي، في كتابه : “الدراسة الأدبية”، وقع على مثال موح هو : شقائق النعمان، التي تبهج النظر، قبل أن يسقط عليها الذبول و “تندثر أوراقها في التراب” منتهياً، على لسان الأسلوب الأدبي، إلى نتيجة تعبّر عنه : “وخلص أخيراً إلى ذكر الحياة التي تقهر الموت ما دامت تتجدد، أي: أنه خلص إلى ذكر العبرة. ص : 137”. وعبرة الأدب هي الدفاع عن الحياة. وتعود كلمة الحياة واضحة، بعد عقدين تقريباً، في دراسته: “الأديب يكتب للكافة”، حين ساجل طه حسين ـ 1955، فيقول: فالأديب بالتالي، ….، يميّز ظواهر الحياة التي تنمو من ظواهرها التي تذبل وتضمحل، … الأدب المسؤول: ص : 97″، إلى أن يساوي بين “الشعب والتجدّد”، مشتقاً الشعب من التجدد، والتجدد من الحياة ومبتعداً، لزوماً، عن تعاليم جدانوف التي توزّعت في العالم العربي، آنذاك، على “مصطلحين”: الواقعية التي عينت المبادئ النظرية المجردة” مرجعاً للواقع المكتوب، والواقعية الاشتراكية التي أعلنت عن موقف سياسي، أيديولوجي في الكتابة الأدبية.
“إن الأدب كان مسؤولاً”، ينصر الجمال والخير والنماء، مترجماً مسؤولية محددة، تواجه القباحة والشر وتعارض، قدر ما استطاعت، دعوات الفن للفن، أو الأدب للأدب، التي هي “تجريد لفظي” يحجب مواقف سياسية. وواقع الأمر أن المسؤولية، كما دعاها رئيف، محصلة لوحدة العقل والأخلاق التي لا تحتاج، دائماً، إلى “نسب أيديولوجي”، ذلك أن “العقل الأخلاقي”، رغم ارتباك العبارة، لا يستفيد من “النسب الأيديولوجي” إلا في شروط محددة. نقرأ في “الأدب المسؤول”: “إن الشخصية الإنسانية وحدها قابل للأخلاق والحقائق، والسلوك الإنساني وحده مطيق لأن يقوّم بميزان من الأخلاق والحقائق، ….، وما دامت الشخصية الإنسانية وحدها تقبل الأخلاق والحقائق…..” إلى أن يقول : “ومتى أعطي الإنسان الاستطاعة والاختيار بات متكلفاً ومسؤولاً، ونما فيه هذا الشعور الذي نسميه حس الواجب، وهذا الميل الذي نسميه ذوق الجمال، وهذا الطموح الذي نسميه طلب الأصلح والأرقى وندعو ثمرته التطور والتقدم…. ص 21 ـ 22، دار الآداب 1968”.
يتعيّن “الأدب المسؤول” بالقيم التي يقول بها، التي تحتفي بالجمال والحقيقة، والوازع الأخلاقي، الذي تؤكد أن “أدبية الأدب”، بلغة لاحقة، هي من رسالته وأن معنى “النص” يأتي من خارجه، موحداً بين علم الجمال وعلم الأخلاق. وتصور كهذا يفضي إلى “النقد المسؤول”، الذي هو رسالة أدبية أخرى، تعيد إنتاج القيم الأخلاقية ـ الجمالية، بشكل آخر. يتوزّع الأدب ، كما النقد المرتبط به، في هذه الحدود، على مقولتين: رسالة الأدب المدافعة عن الحياة، بما يتفق وقواعد العقل ذلك أن “العقل هو مرجع الإنسان الذي يحتكم بالنتيجة لمعرفة الحقيقة، فقد أصبح رأس الأشياء التي يُسأل عنها القلم أن يصور الحقيقة، مع العلم أن الحقيقة ليست واقع الحال وحسب، بل هي الحال كما يجب أن يكون… الأدب المسؤول . ص : 49″، والمقولة الثانية هي : “توجيه الأدب”.
يمكن أن تدعى المقولة الثانية، بوضوح أكبر، بـ “السياسة الثقافية، التي تقرأ الظواهر الأدبية والفنية بمنظور سياسي يهدف إلى ارتقاء مجتمع متعدد الوجوه، مذكرة بما قال به طه حسين عن “قادة الفكر”، الذي يفصح عن “دور المثقف الحديث” بدءاً من رفاعه الطهطاوي وصولاً إلى حسين مروة، حيث للمثقف رسالة تنويرية، تشتق من ذاتها رسالة موائمة في القراءة والنقد والكتابة. بل تشتق “سياسة في الكتابة”، ترجمها تميّز رئيف خوري إلى نثر أدبي أقرب إلى الندرة، يعيّنه ناثراً خاصاً في الكتابة الأدبية العربية الحديثة.
لم يهجس رئيف خوري بكتابة مختصة تدعى : النقد الأدبي، ولم تكن شأناً من شؤونه، منذ أن علم نفسه، وتعلّم من غيره، قراءة الظواهر الحياتية كلها، بما فيها الأدب من وجهة نظر سياسية. وسواء هجس رئيف بنص ينقد الأدب، ككيان مستقل، أو لم يهجس به، وهو الأرجح، فقد كان في شخصه وثقافته وأخلاقه هو النص الأكبر من بين نصوصه جميعاً.
لم يعرف رئيف، كما غيره من التنويريين العرب، في طورهم الأول، النقد الأدبي كاختصاص مكتفٍ بذاته، ذلك أنهم دفعوا بكتاباتهم، المتنوعة والمتكاملة، باتجاه هدف أساسي هو: توليد المجتمع الحديث.
***********
(*) محاضرة ألقيت في المؤتمر حول فكر رئيف خوري الذي عقد في قصر اليونسكو في بيروت في 2 نوفمبر 2013 لمناسبة مئوية ولادته.
كلام الصور
1- الدكتور فيصل دراج
2- رئيف خوري