تحييد لبنان!؟ (*)

بقلم: عبدالله بوحبيب وشارل سابا

 اعتمدت إحدى عشرة دولة تاريخياً سياسة الحياد هروباً من النزاعات الخارجية ولعدم التورط في صراعات الجوار. واعتمدته دول أخرى للحفاظ على وحدة abdallah-bou-habib-1شعبها والاستقرار في محيط مضطرب، وذلك لمنع انعكاس الحروب الإقليمية حرباً أهلية جراء تعددية مجتمعها. وبهذا المعنى، لم يكن الحياد سلبياً أو انعزالاً وتقوقعاً، بقدر ما كان دائماً إيجابياً هادفاً إلى إحقاق السلام في الداخل ومحاولة التوسط في الجوار لإحقاق السلام الإقليمي.

ويميّز القانون الدولي بين الحياد المؤقت أو الظرفي والحياد الدائم. الأول محصور بنزاع مسلح محدود المكان والزمان، والثاني يحكمه إطار قانوني يتمثل باتفاقيات لاهاي حول «قوانين الحرب وجرائمها» (1899 و1907). والحياد الدائم تعاقدي تلتزم عبره دولة ما تجاه باقي الدول بألا تدخل في أي نزاع مسلح، من دون أن يمس ذلك حقها في الدفاع المشروع عن النفس. كذلك، يمنع الحياد الدائم الدول في زمن السلم من الدخول في أحلاف عسكرية ومن إقامة قواعد عسكرية لقوات أجنبية أو استخدام أراضيها لغايات غير سلمية، ومقابل ذلك يترتب على الدول الأخرى التعهد بالحفاظ على أمن هذه الدولة وعدم التعرض لها بعمليات عسكرية في حال وقوع نزاع مسلح.

في لبنان، كانت هناك تجربة من الحياد المؤقت في الصراعات العربية أرساها البيان الوزاري لحكومة الرئيس رياض الصلح في 25 أيلول 1943 الذي هدف إلى طمأنة العرب، خصوصاً سوريا، فنصّ على «أن لا يكون لبنان للاستعمار مستقراً أو ممراً». ثم عاد النهج الشهابي وسار بالسياسة ذاتها عملاً بشعار «مع العرب إذا اتفقوا وعلى الحياد إذا اختلفوا». وأخيراً، اعتمدت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عند اندلاع الأزمة السورية شعار «النأي بالنفس» الذي انعكس حياداً واضحاً في «إعلان بعبدا» في جلسة حوار وطني ترأسها الرئيس سليمان. وبينما قبلت المحاور العربية الحياد الظرفي للبنان في المرحلتين الأوليين، رفضته في الأزمة السورية، واستعمل الطرفان لبنان ساحة لإمداد الصراع في سوريا بالمال والسلاح والمقاتلين.

في خضمّ هذا الواقع، نظّم مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية منذ أسبوعين مؤتمره العاشر حول «إمكانية حياد لبنان»، مستضيفاً كوكبة من أهل السياسة والاختصاص القانوني لسبر غور هذه الفكرة واستخلاص ما يفيد منها واقع لبنان. وانقسمت الآراء في المؤتمر إلى ثلاثة: الأول أيّد مطلب الحياد الدائم، معتبراً ان إعلان بعبدا ليس كافياً لدرء مخاطر اللااستقرار جراء صراعات المنطقة على الأمد المتوسط والطويل. ودعا هذا الرأي الذي مثّلته غالبية المشاركين في المؤتمر، إلى جهد ديبلوماسي لبناني لنيل الاعتراف العربي والدولي بهذا الحياد، بالارتكاز إلى الترحيب الدولي بـ«إعلان بعبدا»، وإلى اعتبار ان الصراع مع إسرائيل الذي تحكمه اتفاقية الهدنة وقرار مجلس الأمن 1701 ليس عائقاً أمام اعتراف المجتمع الدولي بالحياد اللبناني.

في المقابل، اعتبرت فئة أخرى أن مكان لبنان الطبيعي هو في مواجهة إسرائيل، مما يوجب التحالف مع المحور الإقليمي الذي يدعمه للدفاع عن نفسه وأرضه في هذه المواجهة. ووضعت هذه الفئة انقسام المحاور العربية والإسلامية في إطار اختلاف نظرتها إلى إدارة الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
وكانت هناك أيضاً نظرة ثالثة دعت الدول الإقليمية صاحبة النفوذ في لبنان إلى تحييد حلفائها اللبنانيين عن الصراع في المنطقة، وذلك عبر الضغط باتجاه تسوية إقليمية تضمن الحد الأدنى من الاتفاق لإدارة الملفات الخلافية على الساحة اللبنانية، بموازاة تحقيق تفاهمات داخلية لتطوير النظام في اتجاه توسيع هامش الحلول اللبنانية لمشاكل البلاد.

بنتيجة الأمر، تكمّل النظرتان الأولى والثالثة بعضهما بعضاً في الجوهر والمبتغى، خصوصاً أن التحييد هو ممر إلزامي وواقعي للوصول إلى إمكان حياد دائم للبنان في الصراعات العربية والإسلامية. غير أن التحييد يستلزم أولاً إقناع اللبنانيين بأهمية تحييد أنفسهم عن هذه الصراعات وبأنه لن يتمكن فريق منهم حكم البلاد وحده وبفرض خياراته الداخلية والخارجية على الفريق الآخر، ومن ثم حثّ الدول العربية والإسلامية الحليفة للفريقين على تحييد لبنان عن صراعها في المنطقة قبل الشروع بتثبيته وقوننته ونيل الاعتراف الدولي به.

ومن شأن خطوة التحييد، إن تمّت، أن تؤمن استقراراً أمنياً وسياسياً للبنان، مما يساعد في إعادة إطلاق العجلة الاقتصادية فيه وتأمين مناخ مؤات لجذب الاستثمارات والاستفادة من ثروات لبنان الطبيعية، لا سيما أن حالة اللااستقرار دفعت النمو الاقتصادي إلى التباطؤ منذ نهاية العقد المنصرم.

وفي طبيعة الحال، سيكون لبنان المحيّد عن الصراعات العربية أقوى لدعم القضية الفلسطينية، وهو الذي دفع الثمن الأعلى بين الدول العربية للدفاع عن هذه القضية وشهد حرباً أهلية جراء تشريع جنوبه للعمل الفدائي من أجل تحرير فلسطين. إلا أنه بعد اتفاق أوسلو (1993) أصبح صلب هذه القضية مسؤولية فلسطينية بحتة وذلك بقرار فلسطيني، وما على الدول العربية، وفي طليعتها لبنان، إلا تقديم الدعم لا التقرير وإدارة الصراع عنهم.

إن الوضع السياسي اللبناني الحالي الذي يتميّز منذ ربيع هذه السنة بغياب كامل لمجلس نواب ممدد له، وتعطيل للمجلس الدستوري، وحكومة تصريف أعمال لا تبدو لها نهاية، واحتمال فراغ رئاسي، بات بحاجة ماسة إلى هدنة من الصراعات العربية والإسلامية حتى يتسنى للشعب اللبناني إعادة تنشيط مؤسساته ولو بالحد الأدنى. ويتحقق ذلك بإحياء إعلان بعبدا الذي وافقت عليه كل الفئات اللبنانية في لحظة تروٍ وحكمة بعيدة عن تأثير القوى الخارجية النافذة في صناعة القرار اللبناني.

*************

(*) السفير، الخميس 31  أكتوبر 2013

اترك رد