بقلم: ندى عيد
لم أكن أعرف أن للوفاء رائحة، وأن للمحبة عطراً حتى التقيت الجمعَ الذي حضر إلى مسرح الأونيسكو في بيروت، بدعوة ثلاثيّة – من جامعة سيدة اللويزة، ومؤسسة إميل شاهين للسينما، والمخرج نصري البركس، للاحتفال بصدور وعرض فيلم “جبارة” تكريمًا للفنان ريمون جبارة.
الجميع حضر، والجميع لبّى الدعوة، والجميع تابع الفيلم بكثير من الفرح والشوق، فيما سيطر الحنين إلى زمن ذهبي ولّى، عند مَنْ سمح له عمره بمعاصرة الأعمال والأشخاص والنشاطات التي شكّل ريمون جبارة “واسطة العقد” فيها، فإذا بالأحداث تُروى لتواكب سيرته التي اختار نصري البركس أن يخبرنا إيّاها في 120 دقيقة اختصرت زمناً من العطاءات، وحقبة مشرقة من تاريخ الوطن والإنسان، تجلّت في حياة ريمون الشاب الذي عاش بداياته الفنيّة بوقت مقتطع بين الوظيفة والتمثيل المسرحي، وبعدما نَضُج الثمر واكتملت التجربة، لم يعد الزمن يتسع لموهبته فكان التفرّغ قدراً وخياراً.. ويُكمل لنا الوثائقيّ سرد سيرة واحد من الروّاد بحلوها ومرّها، ويستفيد منها ليرسم لنا المشهد المسرحيّ اللبنانيّ كاملًا، وليبيّن لنا أهمية الدور الذي لعبه جبارة في حياكة قصة نجاح كبير، عرفت الكثير من العثرات الماديّة والصحيّة في وطن قدره أن يكون فوق حقل ألغام.
أحد رواد الحداثة
للوقوف أكثر عند تفاصيل هذا الوثائقيّ الطويل وكيفيّة ولادة فكرته، طرحنا السؤال على مخرج العمل ومعدّه ومنتجه، فشرح قائلاً: «ريمون جبارة هو أحد رواد الحركة المسرحيّة الحديثة في لبنان، واختياره يعود لسببين، الاول، غنى الموضوع بحدّ ذاته، فريمون متعدّد الصفات المسرحيّة، بدأ ممثلًا شارك مع غالبية مؤسسيّ الحركة المسرحيّة وروادها في لبنان، فكان حضوره طاغيًّا وجذابًا على خشبات المسارح، ثم انتقل إلى التأليف والإخراج المسرحيّ مقدمًا سلسلة من الأعمال المسرحيّة الراقية والمتميّزة أسلوبًا ومضمونًا، أغنت الحركة المسرحيّة، وأضافت نكهة وهوية فنيّة خاصة به.
أضاف: أما السبب الثاني فيعود إلى معرفتي الطويلة به، منذ دخولي قسم المسرح في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانيّة حيث كان أستاذي، وقد أشرف على مسرحية التخرج الخاصة بي، وكانت بعنوان “الجنّة والقذارة” للكاتب الإسباني فرناندو أرابال، الذي اقتبس له ريمون جبارة عملَيْن مسرحيين».
تابع: “استمرت العلاقة بعد تخرجي من الجامعة لتتحول إلى صداقة امتدت لسنوات وما تزال، ما مكنّني من البقاء على مسافة قريبة منه. وعندما قرّرت جامعة سيدة اللويزة تكريمه، طلبت مني، بحكم قربي منه ودراستي للمسرح، أن أنفّذ فيلمًا قصيرًا مخصصًا لحفل التكريم، وبعد تنفيذه، وجدت أن المادة المُجمعة تصلح لتوسيع العمل، فاقترحت عليهم إنجاز فيلم طويل وشامل عن سيرته، وهكذا بدأت العمل الشاق والجديّ لإنجاز هذا الوثائقيّ…وأتمنى أن تنفّذ أفلام عن كلّ رواد الحركة المسرحيّة الحديثة في لبنان الذين ارتقوا بمجهودهم وتضحياتهم بالفن وبالمسرح اللبناني الى أعلى المستويات، فالمسرح هو جزء من الذاكرة الثقافيّة والفنيّة التي يجب أن تبقى حيّة في ذاكرة الأجيال”.
المحرّك والمشجع ومذلّل العقبات
قُسّم الوثائقي إلى خمسة أجزاء لمنح المشاهد الوقت الكافي لاستيعاب المراحل وتتابعها، لكن تأريخ سيرة فنان بحجم ريمون جبارة يحتاج إلى فريق عمل وإلى جهات داعمة. وعن كيفية تغلّب مؤسسة إميل شاهين للثقافة السينمائيّة على العقبات، ردّ المخرج بالقول: ” المحرّك الرئيس لهذا العمل هو الأستاذ إميل شاهين الذي كان، مشجعًا ومذللًّا لكلّ العقبات والمشاكل التي واجهته، وقد وضع علاقاته واتّصالاته في خدمة العمل، إضافة إلى جامعة سيدة اللويزة، قسم المرئيّ والمسموع خصوصًا، الذي ساهم في إنجاز الفيلم، حيث سخّر بدوره كلّ امكاناته وجهود طلابه لذلك. كما ساهمت وزارة الثقافة بدعم العمل، وقدّمت إذاعة صوت لبنان كلّ ما يتعلق بالتسجيل الصوتيّ، وشركة “ردستوري” معدات المونتاج، إضافة إلى الاستعانة بخبرات الكثيرين من الأصدقاء من فنانين وتقنيين لا مجال لتعدادهم الآن…كلّ مَنْ عمل سواء من مؤسّسات أو أشخاصن قدّم عمله بشكل تطوّعي وبدون أي مقابل ماديّ، بل بدافع حبّه لريمون جبارة وتقديره له ولفنّه”.
وردًّا على سؤال يتعلق بأبرز التحدّيات التي واجهته في خلال كتابة الوثائقي وإخراجه وإنتاجه ، اعتبر البركس أن: “الجمع بين مهمّات عدّة كان التحدي الأكبر. لقد أديت أدواراً متعدّدة لإنجاز هذا الفيلم، أولًا قمت بالأبحاث، فعدتُ إلى مجموعة كبيرة من المراجع من كتب، وصحف، ومجلات، وبرامج ومقابلات إذاعيّة، أو تلفزيونيّة، وكلّ ما يمكن أن يتعلّق بريمون جبارة وبأعماله. كذلك أجريت أبحاثاً مماثلة عن تاريخ الحركة المسرحيّة الحديثة في لبنان، وأبرز محطات الحركة الفنيّة والثقافيّة عامةً، والأوضاع التاريخيّة البارزة، بما فيها محطات الحرب اللبنانيّة، وكلّ ما تقاطع أو كان له تأثير مباشر أو غير مباشر على سيرة ريمون جبارة وأعماله المسرحيّة.
أضاف: “بعدها كتبت نصَّ الوثائقيّ ومن ثم تمّ تسجيله في الاستوديو بالاستعانة بصوتين مميزن هما الممثلة زينة ضاهر وبيان أبوشقرا. كذلك سُجلت مقابلات مع بعض الممثلين والزملاء الذين رافقوا ريمون في مراحل متعدّدة من مسيرته. هنا وقفت أمام تحدٍّ كبير في اختيار الأشخاص لإجراء المقابلات، والسبب وجود عدد كبير من الذين عاصروا جبارة أو عملوا معه أو عمل معهم، فكانت شهادات مَنْ اختيروا تغطيةً لمرحلة زمنيّة أو نوعية في مسيرته. شملت المقابلات ممثلًا للنقد والصحافة لإعطاء رأي تقيمي سلبيّ او إيجابيّ… نفذتُ غالبية المقابلات في مسرح جامعة سيدة اللويزة، مع إضاءة وخلفيّة خاصة للتصوير”.
بعد ذلك بدأ المخرج البحث عن أرشيف الصور والفيديو، “هنا كانت الصعوبة الكبرى في لَمْلَمة عشرات بل مئات الصور لاستخدامها في الفيلم، فاستعنت بشكل أساسيّ بالأرشيف الشخصيّ لفنانين ومسرحيين عاشروا ريمون وشاركوه أو اشتركوا معه في أعمال فنيّة على مدى أكثر من خمسين عامًا”.
المرحلة الأخيرة تمثلت بالمونتاج والتركيب فخرج فيلم يمتدّ لأكثر من ثلاث ساعات ونصف، ثم بدأ الاختصار تدريجيًّا، “هنا برز تحدٍّ من نوع آخر، وهو حذف المحطات والمعلومات الأقلّ أهمية في سيرته، إلى أن وصلتُ إلى مدة الفيلم الحاليّة أي 120 دقيقة… وأشير هنا إلى إمكانية إعادة منتجة وتركيب المواد الفيلميّة المحذوفة من الوثائقيّ بحيث يمكن إعادة تقسيمه إلى حلقات تلفزيونية عدّة، لا تتجاوز مدة الواحدة منها النصف ساعة أو الساعة بحسب الطلب”.
استعادة سيرة شخصيّة فنية بغنى شخصية ريمون جبارة وتنوعها وتشعبّها يجعل المهمة وكأنها “نقل البحر بصدفة”، وهناك مَنْ يرى أن شخصية ريمون جبارة المستفِزة والجدليّة هي واحدة في الحياة والمسرح، فسألت نصري البركس: كيف تصفُ هذه الشخصيّة بعد عملك على الوثائقيّ واطّلاعك على كل ما أنتجه وبعد المقابلات الكثيرة التي رافقت ولادة الفيلم؟
أجاب: “يبقى الفيلم محاولة تأريخيّة مرجعيّة في مسرح ريمون جبارة وفكره من وجهة نظري. حاولت قدر المستطاع اتخاذ الموقف البحثيّ المحايد من دون الغوص في التشريح النقديّ المعمق. وأنا لا أدّعي أكثر من ذلك… صعب جدًا وصف شخصيّة مثل ريمون جبارة، لأنها تجمع الكثير من الصفات والمميزات وحتى التناقضات، وكلّ من له معرفة أو تجربة مع جبارة يمكن أن يصفه من وجهة نظره بطريقة مختلفة عن الآخر، لكن الأهم بالنسبة إلي أن هذه العبقريّة الفنيّة وهذه الشخصيّة الجدليّة التاريخيّة على مستوى المسرح والفن والثقافة في لبنان، وهي في حال سوء تفاهم مستمرّ مع كلّ شيء حولها، يقبض عليها ويسيّرها قلب طفل حسّاس متشوّق دائمًا لاكتشاف ولرصد أي مساحة انفعاليّة جديدة مختلطة بين الحياة والمسرح”.
إعادة صياغة المشهد المسرحيّ اللبنانيّ
لم يتقتصر الوثائقيّ على سيرة الفنان وحده، بل أعاد صياغة المشهد المسرحيّ منذ بداياته، في “جبارة” رجعتَ إلى حقبة لم تعاصرها، هل وجدت صعوبة في ذلك؟
أجاب: “تعرفت في أثناء دراستي المسرح إلى أساتذتي الذين كانوا من روّاد الحركة المسرحيّة الحديثة في لبنان أمثال أنطوان ولطيفة ملتقى، وشكيب خوري، وموريس معلوف وغيرهم. وهذه الفرصة أتاحت لي معرفتهم عن قرب، كما كنت أتابع الحركة المسرحيّة في أواخر الثمانينيات والتسعينيات ولا أزال. هذه المعرفة مكنتني من ربط الأبحاث التي قمت بها، حول الحركة المسرحيّة في لبنان منذ انطلاقها في أوائل الستينيات وطيلة مسيرة صعودها حتى اندلاع الحرب الأهليّة في العام 1975 وهي فترة لم أعاصرها… هذا ما جعلني أكوّن صورة أكثر التصاقًا بأبطال وصانعي تلك الحقبة من دون أن أعاصرها، إلّا أن الاعتماد الأساسيّ بقي على الصحف والكتب والمراجع، والشهادات طبعًا التي استعنت بها للإضاءة على تلك الفترة الذهبيّة من تاريخ الحركة المسرحيّة وإعادة سردها من خلال مسيرة ريمون جبارة”.
التركيز على الرسائل في أعماله المسرحيّة
تضمّن الوثائقي شهادات عدّة لممثلين ونقّاد وصحافيّين وأصدقاء لريمون جبارة تحدثوا عن جوانب عدّة من شخصيته وأعماله، هل هناك ما لم يُقَل بعد؟ وهل هناك نواح لم يكن الوثائقيّ الإطار المناسب للحديث عنها؟
أجاب البركس: “حاورت أنطوان كرباج، ورفعت طربيه، وجوزف بونصار، وكميل سلامة، وجوليا قصار، وغبريال يمّين، وأنطوان أبي عقل، والصحافيّة والكاتبة مي منسى، وطبعًا ريمون جبارة، وشهاداتهم تناولت جوانب عدّة في شخصية ريمون وسيرة حياته ومواقفه في المسرح، والحياة، والسياسة، والمجتمع، والدين، والسلطة، وعلاقته بزملائه، والشخصيّات العامة، وهمومه، وهواجسه وغيرها. لقد ركّزت على ما يتعلق بالأعمال التي شارك فيها كممثل، ومن خلال ذلك، استعرضت جوانب مسيرة الحركة المسرحيّة، ومن ثم ركزت على أعماله المسرحيّة بما تضمنته من رسائل، ومواضيع أساسيّة من حيث المضمون، ومن ناحية أسلوبه الإخراجيّ وأبرز مميزاته، وربطُّ ذلك بالأوضاع العامة التي تزامنت وتقاطعت مع مسيرته الفنيّة وحياته الشخصيّة. إلّا أنني بعد أن رسمت الهيكليّة الأساسيّة للوثائقيّ، حدّدتُ خياراتي وعلى ماذا يجب أن أركّز، استبعدت أمورًا أخرى، واعتبرتها غير مناسبة لرؤية هذا العمل من وجهة نظري، وقد تصلح في حال اختيار مقاربة ثانية للعمل”.
بعد جبارة هل ثمة مشاريع مستقبلية لشخصيّات أخرى؟ يجيب البركس: “لدي أفكار عدّة تتعلّق بالذاكرة الفنيّة والهوية الثقافيّة وأمور أخرى تاريخيّة واجتماعيّة وإنسانيّة ومواضيع لأفلام غير وثائقيّة، لكن ذلك يحتم توفّر ظروف ملائمة لإنجاز أي عمل، وبانتظار توفّر تلك الظروف، يبقى من المؤكد وجود الشغف والرغبة لديّ لإنجاز أعمال جديدة، لأن الحاجة إلى التعبير الفنيّ إن وجدت لا تخمد بسهولة، وأنا أقف في موقع الهاوي بأدوات احترافيّة بانتظار الفرصة المناسبة”.
احتفاليّة التكريم انتهت وعدنا إلى بيوتنا، ومعنا زوادة معرفة ومحبة لكبير من وطننا، ما زال يمتهن العطاء أسلوب حياة يوميّة حاملًا هموم الإنسان في كل لحظة وكل كلمة، شاء العليّ أن يطيل بعمره ليشهد على تكريمه وعلى محبة الناس له، وليتقبّل التهاني مع نصري البركس الذي ائتمنه على سيرته، فكان صادقًا، ومبدعًا في صياغها بأحرف من ذهب!
كلام الصور
1- ريمون جبارة
2- المخرج نصري البراكس
3- جلسة عمل بين نصري البراكس وريمون جبارة