بقلم: د. عبدالله بوحبيب
تُظهر الصحف اللبنانية في صفحاتها الأولى منذ مدة قصة حواجز التفتيش التي انتشرت في شوارع الضاحية الجنوبية من بيروت، بعد المتفجرتين اللتين أودتا بعشرات القتلى والجرحى من أهالي تلك المنطقة وسكانها. وبينما برّرت الصحيفة الصديقة لـ«حزب الله» بأن ما يقوم به هو حماية من إرهاب يستهدف تلك المنطقة، اتهمت صحف أخرى الحزب بأن ممارساته تهدف إلى تحقيق الأمن الذاتي للضاحية وفصلها عملياً عن لبنان ودولته «الضعيفة».
في البدء أود أن أؤكّد بأنني مع السلطة الشرعية اللبنانية من الألف إلى الياء. إنني شخصياً ضد الأمن الذاتي الذي تفرضه على المواطنين ميليشيات أو مقاومة لأية جهة انتمت. لا بديل برأيي من الأمن الشرعي الرسمي لأن غير ذلك يولد الفوضى وربما الانهيار الكلي. لكن ما كتبته الصحف وما صرّح به البعض يستدعي بعض الملاحظات:
1 ـ أن «حزب الله» هو من نظّم وأدار حواجز التفتيش التي انتشرت داخل الضاحية، وهذا عمل غير شرعي ومن المستحسن ألا يحدث حتى حين تعجز السلطة الشرعية عن توفير الأمن اللازم لسكان الضاحية، وحسناً فعل الحزب هذا الأسبوع عندما سلّم هذه المسؤولية للدولة.
2 ـ كان على أصدقاء الحزب ألا يبرّروا ما قام به في الضاحية، بل أن يطالبوا الدولة بأن توفر لسكان الضاحية الحماية اللازمة من الإرهاب الذي يستهدفهم. أما المنتقدون للحزب فهم على بعض الحق، لكن كان الأجدى أن يطالبوا الدولة بأن تقوم بمهامها، كما فعل كثيرون منهم، وخاصة السياسيين السنّة بعد متفجرتي طرابلس.
3 ـ لا يمكن أن يغيب عن المرء أيضاً أن بعض من انتقد «حزب الله» يمارس في مناطقه الأمن الذاتي؛ وكذلك لا يقتصر وجود المربعات الأمنية على الضاحية، فهي موجودة في معظم الأراضي اللبنانية ولو بمساحات مختلفة وتديرها وتستفيد منها قيادات لبنانية من الطوائف جميعاً.
4 ـ كذلك فإن الكثير ممّن انتقدوا الأمن الذاتي في الضاحية هم قلباً وقالباً مع الأمن الذاتي ويتمنون تحقيقه في مناطقهم، خاصة في هذه الظروف العصيبة التي يمر بها لبنان والمنطقة العربية.
5 ـ إن أهم ما أفرزه الحوار حول «الأمن الذاتي» في الضاحية هو اقتراح لوزير الداخلية والبلديات مروان شربل الذي طالب كل بلديات لبنان بأن يساعدوا أو يتعاونوا مع الدولة لتحقيق الأمن في مناطق مسؤولياتهم.
إن الوزير شربل، العميد المتقاعد في قوى الأمن الداخلي، يدرك أن أجهزة الدولة المركزية ومن ضمنها الجيش والأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة، قد أتعبها، لا بل أنهكها، الخلاف السياسي الداخلي والذي بمعظمه امتداد للصراع الإقليمي الذي بدأ قبل منتصف العقد الماضي. فلا يمكن لهذه القوات الشرعية مهما كانت قوية وقادرة أن تستمر في محاولاتها لحفظ الأمن من دون دعم في عديدها، خاصة من الهيئات البلدية التي عليها أن تتحمّل بعض المسؤوليات الأمنية في مناطق سلطتها. إن ذلك يتطلب من الأجهزة المختصة في وزارة الداخلية، كما أشار الوزير شربل، أن تدرب وتهيّئ الشرطة البلدية لتتحمل مسؤولية الأمن في نطاقها ليلاً ونهاراً، على أن تستمر القوات المركزية في دعم الشرطة البلدية عند الحاجة. كذلك على البلديات بالتنسيق مع الجهات المختصة أن تحصي غير اللبنانيين في نطاق سلطتها وأن توفر الإضاءة لكل الشوارع والطرقات الداخلية مدى الليل.
إن تدابير كهذه ليست تقسيمية ولا فدرالية ولا حتى لا مركزية؛ إنها تدابير محض أمنية، تتبعها الدول ذات النظام المركزي كفرنسا والدول الفدرالية كالولايات المتحدة وألمانيا. إنها تدابير تهدف إلى دعم الدولة مهما كان نظام الحكم فيها.
لا تستطـــيع الدولــــة الديموقراطية أن تعــــيش قيمـــها كاملــــة من دون ممارسة شـــيء من اللامركزية، وذلك لأن المركزية الكامــــلة تمــــارس في الدول الديكتاتـــورية. إن النظــــام العربي الذي بدأنــــا مشاهــــدة نهايـــته يعتــــمد كلياً على مركزية السلطة، إنه نظــــام ديكتاتــــوري بامتـياز.
وبما أن القوات المركزية في كل الدول غير قادرة أن تكون في كل قرية وبلدة وناحية، فإن إمكاناتها على حفظ النظام تعتمد كلياً على هيبة الدولة واحترام الشعب، كل الشعب وقبوله لها. وينهار الأمن عندما تفقد السلطة هيبتها كما حدث في سوريا. ومن الصعب على الدولة أن تستعيد هيبتها إلا بعد «خراب البصرة» وهدر الدماء البريئة.
وفي لبنان، جعل الاعتماد على نظام مركزي من ديموقراطيته مهزلة، حيث تقتصر ديموقراطيته على وجود الحرية المطلقة إلى درجة أن لبنان أصبح دولة مفتوحة على كل شيء (laissez faire). ولذلك إن استقراره بحاجة ماسة إلى الأمن الذاتي الرسمي وامتداده المحلي أو البلدي. فهناك عشرات الآلاف من رجال الشرطة البلدية الذين يمكن الاستفادة من معظمهم لحفظ الأمن في مناطق سلطة بلدياتهم وبإشراف ودعم القوات المركزية. فلو كانت مثلاً الشرطة البلدية في بلديات الضاحية الجنوبية مهيأة لحفظ الأمن، لربما لم يحدث الانفجار في الرويس، ومن المؤكد لما اضطر «حزب الله» لاستعمال عناصره لإقامة حواجز تفتيش في شوارع الضاحية. وما يصح على الضاحية يصح أيضاً في طرابلس وبيروت وجونية وفي كل قرية وبلدة وناحية في لبنان.
(*) السفير، الخميس 26 ايلول 2013