بقلم: لميا شديد (*)
نشأت صناعة الفخار منذ غابر الأزمان، ونمت في الألفية السادسة قبل الميلاد. في بداية عهدها، اقتصرت على حفر ترابية تدلك بالحجارة الملساء وتجفف بأشعة الشمس، وتستعمل لتخزين المؤن وخلافها. مع تعاقب القرون، تطور الفخار فأخذ أشكال أوانٍ مختلفة الألوان والأحجام، مجففة بحرارة الشمس، ومن ثم محروقة أو مشوية بالنار التي تكسبها مزيدا من المناعة والصلابة.
بقيت صناعة الفخار يدوية حتى الالفية الثالثة قبل الميلاد، عندما بدأ استعمال ما يعرف بدولاب الفاخوري الذي شكل استنباطه محطة هامة في مسيرة تلك الصناعة، فتحولت بفعل ذلك من حرفة يدوية صرف إلى حرفة نصف يدوية. مع ذلك حافظت الحرفة اليدوية على خصائصها وعبرت العصور والقرون ووصلت إلى لبنان من خلال شعوب متعددة الأعراق والثقافات، سكنت الشواطئ اللبنانية، منذ الكنعانيين والآراميين والفينيقيين وغيرهم. ترك كل هؤلاء بصمات حضاراتهم على قطع فخارية وجدت في كهوفهم وقبورهم وبين أطلالهم. وقد أضاء معظم تلك القطع أو بعضها على فصول من التاريخ القديم لم تكن لتقرأ من دونها.
فخار آسيا
عبر فخار بلدة آسيا البترونية تلك الحقبات التاريخية وحمل صورة عن تراث أليف يشدنا إلى الجذور. ولعل ما ساعد فخار آسيا على تجاوز المتغيرات الناتجة عن الثورات الصناعية المتتالية في العصور الحديثة أو المعاصرة، إصرار أهل هذه الجرود على البقاء في أرضهم وتمسكهم بعادات أجدادهم وتقاليدهم، إضافة إلى توافر المواد الأولية للفخار في أرضها.
حتى نهاية الحرب العالمية الثانية في أواسط القرن العشرين، كان سكان آسيا، في معظمهم، يعتمدون على الفخار في معيشتهم، وكانوا يجوبون المناطق اللبنانية كافة ليقايضوا به المواد الاستهلاكية والتموينية التي يفتقرون إليها، مثل الحبوب والخضار والفاكهة المجففة والمصنوعات الخفيفة والملبوسات. أما اليوم فقد فعلت متطلبات الحياة الحديثة فعلها واستهوت الهجرة الداخلية منها والخارجية الشباب الناهض الطموح، واقتصر صانعو الفخار على قلة من الأوفياء الناشطين الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، يعاونهم أبناؤهم في تأمين المواد الأولية وشوي الفخار في أفران تقليدية تراثية.
في السابق لم يخلُ منزل في آسيا البترونية من صانع فخار، وتوزعت أفران شي الفخار في كافة أحياء البلدة، لإنجاز الصناعة في مرحلتها الأخيرة، مداورة بين الحرفيين الذين تقلص عددهم اليوم، ولم يعد في آسيا إلا ثلاثة منازل تعمل في هذا المجال، رغم أن هذه الحرفة قد تشكل مصدر رزق مهماً كما يؤكد ممتهنوها. ومعظم الذين يعملون في صناعة الفخار ورثوها عن أهلهم.
حرفة دقيقة وصعبة
“حلوة ومرة، صناعة فخار آسيا، وتختلف كلياً عن فخار راشيا وبيت شباب”، تصف سناء جبور صناعة فخار آسيا التي تتقنها منذ 12 عاماً وورثتها عن والدتها، وتوافقها كل من فاديا لاوون وزوجة ابنها جورجينا حنا الرأي . “صناعة فخار آسيا، حرفة دقيقة وصعبة لأنها تنجز من دون آلات وقوالب، وهي حرفة يدوية بكل ما للكلمة من معنى، خلافاً لما يحصل في المناطق الأخرى التي تصنع الفخار بواسطة المعدات والقوالب”.
رغم دقتها وصعوبتها وما تتطلب من روح طويلة، يحاول أبناء البلدة إعادة احياء صناعة الفخار، للحفاظ على تراث فريد من نوعه لطالما تغنت به بلدة آسيا البترونية منذ أيام الأجداد. في هذا الإطار، تستعدّ بلدية آسيا لإقامة مشروع كامل متكامل لتنشيط هذه الصناعة وإعادة إحياء تراث الآباء والأجداد. ما ساعد على ازدهار فخار آسيا أن المواد الأساسية المكونة له متوفرة في نطاق البلدة. أما أسباب شهرته فتعود إلى تعدد أنواعه وجودة نوعيته.
صناعة مميزة
فخار آسيا فريد من نوعه “لأن نوعية التراب الموجودة في أرض البلدة وحجر ملح القاق غير متوافرين في المناطق الأخرى”، تشير فاديا لاوون التي تعلمت هذه الصناعة منذ 40 عاماً من حماتها التي كانت تتقنها، وتعتمد عليها في إعالة العائلة، وكانت تبيع مقلاة الفخار بنصف ليرة لبنانية و”القدر” بنصف ليرة أيضاً، فيما نبيعها اليوم بـ 150 ألف ليرة.
تروي فاديا: “كان أهل الضيعة، ينتقلون على الدواب إلى مناطق بعيدة في البقاع وبعلبك وبشري وغيرها لمقايضة الفخار بالحبوب والمواد الغذائية والمونة، ليتمكنوا من الاستمرار في قراهم. وكانت أفران الفخار مشتعلة على الدوام لشي الفخار مداورة، ولكن اليوم ثمة فرن خاص في منزلي أعتمد عليه في عملي”.
وتلفت فاديا إلى “أن قيمة فخار آسيا تكمن بقيمة العمل اليدوي ولا كلفة مادية له، لأن المواد متوافرة في الارض”. لا تحب فاديا عرض فخارياتها في المعارض “لأن ذلك يتطلب حضوراً دائماً، وأنا أفضل أن أبيع القطع التي أصنعها في منزلي، فأنا أستقبل السياح اللبنانيين والأجانب وخصوصا الفرنسيين الذين يحبون صناعتنا، ويقدرون قيمتها الصحية والتراثية. فهي صالحة للطهي والزينة، علماً أن فخارياتنا غير مطلية، وهي خشنة غير صالحة للرسم لأنها تشرب المواد السائلة وتصلح لكافة أنواع الطبخ على النار.”
وكما تعلمت فاديا صناعة الفخار من حماتها علمت زوجة ابنها جورجينا حنا سر المهنة. وتقول جورجينا: “منذ 10 سنوات بدأت تعلم صناعة الفخار، ومنذ سنيتن فقط أصبحت أتقنها، فهي ليست سهلة خلافاً لما يتصور البعض بأنها مجرد لعبة في عجينة طرية، بل هي عمل صعب ودقيق، عمل يدوي يعطي اشكالا مختلفة، وربما هي مهنة مسلية ومتعبة في الوقت نفسه ومصدر رزق للعاملين فيها.
معرض دائم
دعماً لصناعة الفخار في آسيا، وضع مجلس بلديتها وبالتعاون مع الاتحاد الأوروبي مشروع معرض دائم لصانعي الفخار على سكة التنفيذ، ليتسنى لهم عرض الأواني الفخارية، إضافة إلى تنظيم دورات تدريبية لتعليم صناعة الفخار والاستعانة بآلات لصناعة فخار متطور، مع إدخال الرسم عليه، إلى جانب الفخار اليدوي.
يكشف رئيس البلدية السفير السابق إميل بدران عن اتصالات مع مؤسسات فرنسية متخصصة للإفادة من خبراتهم في هذا المجال، ويقول: “مشروعنا يهدف إلى تشجيع السياحة، ويتضمن نشاطات بيئية سياحية تراثية، وإقامة مطعم للمأكولات المحلية بالأواني الفخارية التي سنسعى إلى صناعتها بعد تأمين المواد الأولية من أرض البلدة، والتدريب عليها، وتأمين فرن للشوي وتخصيص موظف مسؤول يعطي التوجيهات في هذا المجال.
يضيف: ” كل هذه النشاطات من ضمن مشروع كامل متكامل صناعياً وبيئياَ وتراثياً وسياحياُ، وسنسعى إلى تنظيم رحلات إلى البلدة يحل الزوار ضيوفاً على أهلها وينامون في غرف مخصصة لهم في المنازل مع تأمين فطور صباحي في اطار مشروع Bed and Breakfast .”
ويؤكد بدران أن “هذا المشروع سيساهم في تثبيت المزارعين في أرضهم وتشجيع السكن في البلدة، والحد من النزوح إلى المدينة، والعمل على إنعاش البلدة اقتصادياً وسياحياً”.
(*) الوكالة الوطنيّة للإعلام
كلام الصور
1- بلدة آسيا
2- صناعة الفخار
3- شعار مشروع البلدية
4- كنيسة البلدة