حسب أسطورة مذكورة في قصائد كونفوشيوس، اكتشفت الأميرة “سي لينغ شي” زوجة الإمبراطور هوانغ تي، سرّ خيط الحرير بعدما اصطادت شرنقة كانت وقعت من على شجرة توت في فنجان الشاي بحوزتها… كان ذلك حوالى 2700 سنة قبل المسيح، في ما بعد حافظ الصينيون على سر الحرير طويلاً لأنه كان يمثل احتكاراً تجارياً ضخماً… وفي القرون الوسطى دخلت صناعة الحرير لبنان، وفي القرن التاسع عشر أصبحت هذه الصناعة النشاط الأساسي لشريحة واسعة من السكان ما أدى إلى تغييرات اجتماعية واقتصادية في حياة اللبنانيين
متحف الحرير في بسوس- قضاء عاليه الوحيد في لبنان ما زال يحافظ على سرّ الحرير، وهو يوحي بطريق التوابل العطرة المعروفة بطريق الحرير ويذكّر بالتبادلات التجارية منذ القدم بين بلاد الأرز والشرق من جهة، وبلاد الأرز والغرب من جهة أخرى، ويبيّن التفاعل بين البشر والنبات والحشرات، وقد أصبح متحف الحرير الذي يملكه جورج وألكساندرا عسيلي، مرجعية مهمة في التاريخ اللبناني البيئي والثقافي والاقتصادي…
المتحف البيئي
المتحف البيئي هو مركز للثقافة، يتضمن برنامجه المحيط الذي يعيش فيه الإنسان والعلاقات التي ينسجها مع هذا المحيط. تتوافر ثلاثة عناصر في هذا المتحف: المجموعة السكانية، الأرض، الزمان. يبرز المتحف البيئي الذاكرة الجماعية لمنطقة بأسرها، ويحث هذه المجموعة السكانية إلى إلقاء نظرة جديدة على ماضيها وحياتها اليوميّة ومستقبلها.
تتم تربية دودة القز في هذه الفسحة فتنمو من مجرّد بيضة لا يتعدى وزنها النصف مليغرام إلى كائن يزن 10 آلاف مرة أكثر بعد شهر. اعتُبرت تربية دودة القز في لبنان من مهام المرأة بدءًا باستلام البيوض وصولاً إلى قطف الشرانق ومروراً بالإطعام والمراقبة والعناية، لذا يقال في القرية إن المرأة التي تربي “اليرقات بتشيل حرير، بتشيل قز”(من كتاب الخروف وشجرة التوت لعائدة كنفاني).
لم تكن الحياكة حرفة محصورة ببعض العائلات أو موجودة في مكان واحد، على غرار الحرف الباقية، بل كانت نشاطاً مهماً في تاريخ لبنان واقتصاده، كما كانت الحال في تربية دودة القز وحلّ الشرانق. وقد شملت هذه الحرفة جماعات كبيرة. في أوائل القرن العشرين كان يحصى المئات من آلات الحياكة (النول) في لبنان. اليوم تناضل هذه الحرفة للبقاء على قيد الحياة.
محطات تاريخية
في القرن الرابع قبل المسيح، تحت حكم سيروس (556-530 ق.م)، فتحت الإمبراطورية الفارسية طرق قوافل الحرير الصيني- المنسوج والخام- إلى فينيقيا. لذا يعود تاريخ الحرير في لبنان إلى أكثر من ألفي سنة أي إلى عهد الصباغ الأرجواني. كان الفنيقيون في مدينتي صيدا وصور يستخرجون من صدفة الموركس هذا اللون الأرجواني الثمين لإنتاج الحرير الإمبراطوري.
أدرك الإمبراطور يوستينيانوس الكبير (537-564) أهمية إنتاج الحرير، فأمر ناسكين نستوريين بالذهاب شرقاً لكشف لغز خيط الحرير. بعد سنتين عاد الناسكان من آسيا الوسطى حاملين معهما كميّة كبيرة من بيوض دودة القز المخبأة داخل عصيهما من الحيزران. هكذا، انتشرت تربية دودة القز في الإمبراطورية البيزنطية وخصوصاً في سوريا ولبنان حيث زرعت شجرة التوت (شجرة من ذهب) ورُبيت دودة القز.
طوّر الأمير فخر الدين المعني الثاني (1572- 1635) الملقب بالأمير المزارع، الزراعة المتعلقة بالحرير وأسس صناعة ترتكز على إنتاج الحرير، ما أمّن استقلالية اقتصادية لإمارة جبل لبنان، وذلك بفضل التبادلات التجارية مع توسكانا ومودنا. كانت تُجمع بآلات الحرري في قيصرية دير القمر وفي خانات صيدا وطرابلس وبيروت حيث كان الحياكون يؤمنون حاجاتهم. كان هذا النوع الخاص من الحرير يدعى بلدي ما معناه من المنطقة. اشتهر هذا الحرير بلونه الأصفر الجميل. في القرن التاسع عشر، اشتهر لبنان بصناعة الحرير بفضل المهارات التي تطّورت بمساعدة نساجي مدينة ليون في الطرف الآخر من البحر المتوسط.
ففي سنة 1841، بنى بروسبير ونقولا وجوزف وأنطوان فورتوني بورتاليس أول معمل لحلّ الشرانق وغزل الحرير (كرخانة) في بلدة بتاتر في منطقة الشوف. أحضروا آنذاك من فرنسا مجموعات من الغزّالات المحترفات لتدريب الفتيات (العاملات). كانت هذه أول مرة تغادر فيها المرأة بيتها للعمل، ما أحدث ثورة اجتماعية في هذه البيئة الريفيّة التقليدية.
في كتابه “صناعة الحرير في سورية ولبنان” الصادر سنة 1912، أحصى غاستون ديكوسو، قنصل فرنسا في بيروت، 183 كرخانة. وبفضل حركة نقل الشرانق والحرير بين مرفأ بيروت ومرفأ مرسيليا. تأسست شركات النقل البحرية في لبنان. كذلك كان الأمر بالنسبة إلى القروض التي كانت تعطى للسماسرة والتجار الذين كانوا يرغبون بشراء المحاصيل من المزارعين والتي أدت إلى فتح مراكز للتمويل، ومنها إلى تأسيس أول مصرف لبناني وتطوير مرفأ بيروت.
أسهم أيضاً وجود الغزالين الفرنسيين والآباء اليسوعيين بفتح جامعة القديس يوسف التي هي بالأساس فرع لجامعة ليون. كذلك يعود فتح المدارس الخاصة في لبنان إلى البعثات الكاثوليكية. إذاً راجت اللغة الفرنسية في لبنان بفضل صناعة الحرير.
في تلك الأيام، كان موسم الحرير حدثاً زراعياً وصناعياً مهمّ لالاف من اللبنانيين، يؤمن 50% من الدخل القومي في جبل لبنان، إذ كانت العائلات تربي دود القز وأصبح ذلك تقليداً يسمى “موسم العز”.
تواريخ مهمة
1840- 1912 العصر الذهبي للحرير.
1930- أول مؤتمر للحرير، إصدار طوابع للمناسبة.
1945- انحطاط صناعة الحرير في لبنان.
1956- إنشاء أول مصلحة مستقلة في لبنان: مكتب الحرير.
1965- ثاني مؤتمر للحرير. إصدار طوابع للمناسبة.
1966- إنشاء أول معمل أوتوماتيكي لحلّ الشرانق مستورد من اليابان في كفرشيما.
1975 نهب معمل كفرشيما.
1982- التحاق مكتب الحرير بوزارة الزراعة.
1983 توقيف نشاط مكتب الحرير.
1992- تقديم برنامج لإعادة تأهيل صناعة الحرير في لبنان من قبل روبير كرم والفاو (المنظمة العالمية للتغذية والزراعة).
1994- بداية موسم جديد.
1996 إعادة نشاط مكتب الحرير: توزيع نصب لشجر التوت وبيض دود القز.
2000- قطف ثلاثة أطنان من الشرانق.
2001- افتتاح متحف الحرير-بسوس.
2002- عدم استقرار وضع مكتب الحرير من جديد.
أقرب إلى الخيال
قصة متحف الحرير في بسوس على لسان جورج والكسندرا عسيلي:
في سنة ١٩٦٦، بينما كنّا نسلك طريق وادي شحرور باتجاه عاليه٬ توقفنا لنلقي نظرة من وراء السياج على بيت كبير مهجور ومعمل قديم للحرير (كرخانة) وعدّة أبنية مهدمة تحيط بها الجلال. عشقنا فوراً هذا المكان مع أبنيته المنهارة المغطاة بالعشب والتي كان يقطن فيها الخراف والماعز فقط.
في نيسان ١٩٦٩، اخترنا في أول يوم بعد زفافنا* أن نعود إلى تلك المكان٬ لنجلس ونتناول الطعام تحت أشجار الزيتون. في سنة ١٩۷۳، اشترينا الملك من آل فياض. كانت هذه العائلة تملك الكرخانة وتديرها منذ حوالي خمسين سنة ، وكانت تسكن في حينه البيت الكبير الواقع في القسم الأعلى من الأرض. أمّا حلمنا فكان ترميم هذا البيت مع حديقته وتربية أولادنا فيه.
استأجر بائع للمواشي معمل الحرير ومحيطه منذ سنوات طويلة،. وعندما بدأنا أعمال الترميم ( ۲۰۰۰) كانت أحجار الباطون التي بناها في الخارج وفي الداخل لايواء خرافه وماعزه كا زالت موجودة، وكل حجر منها كان مثخّن بالزبل.
سنة ١٩۷٤، زرعنا مئات الأشجار خصوصاً شجر المشمش البسوسي المشهور (نجا قليل منها بعد الحرب)٬ وأعادنا ترميم البيت. في أواخر ١٩۷٥، كان يفترض أن ننتقل إلى البيت الكبير، لكن الحرب بدأت وأجبرتنا على التخلي عن مشروعنا الذي كان من ضمن مشاريع أخرى. (الآن يلعب أحفادنا تحت أشجار الزيتون عوضاً عن أولادنا).
سنة ٬١٩٩۰ احتلّى الجيش السوري المكان لفترة قصيرة، وفي سنة ٬١٩٩٨ بدأنا، شيئاً فشيئاً، باصلاح الجلال والاهتمام بالأشجار التي بقيت، وسعينا إلى إعادة الحياة إلى الأرض بعد كل هذه السنين من الحرب والإهمال والحرائق. ما بدأنا به كتجربة متواضعة لاعادة تأهيل الأرض٬ تتطور وأصبح ما ترونه اليوم. كأنما قد “طُلِب” منّا أن نكون حرّاس هذا المكان.
بغضّ النظر عن أحلامنا زار المكان٬ من دون علمنا٬ تياري هويو وفرانسواز لونوبل برادين من باريس، وكانا يعملان في أواخر التسعينيات على مشروع تنسيق حدائق في سوليدير. فسحرا بهذا المكان. ومن ثمّ حضّرا مسودة تصميم لمشروع حديقة عامة مع فسحة لملعب للأطفال وعرضاها علينا لاحقاً في لندن. لا شك في أن حماستهما أعطتنا الجرأة ببدء مشروعنا الخاص.
خلال السنين الأولى٬ فاقت الطاقة التي بذلتها فرانسواز لونوبل برادين لمساعدة متحف الحرير كل تقدير. لقد أحضرت ونظمت معرض الحرير الخام من مدغشقر وساعدتنا مع منى صادر عيسى على تأسيس “امد“٬ جمعية التراث والانماء.شكل دعمهما الفعّال مساهمة حيوية في تحضير معارض متحف الحرير والبرامج المخصصة للمدارس. نفّذت الجمعية خلال هذه السنين
وبمساعدة تلامذة Le Lycée agricole et horticole de Saint-Germain-en-Laye – فرنسا نفذنا مشاريع تتعلق بالبيئة في بلدة بسوس وفي غابة الصنوبر التي دمّرت أثناء الحرب في بيروت. ما تزال فرانسواز لونوبل برادين تزورنا من وقت الى آخر وتستمر منى صادر عيسى بتأمين حضور مشكور يساهم في استمرار نجاح متحف الحرير.
أمت الأشغال الضخمة لاصلاح الأرض المحيطة بالمتحف وزرعها تحت اشراف البستاني المسؤول غليوم موران (١٩٩٩ – ۲۰۰٣) كما أنشىء المشتل الخاص وساعد التلامذة الفرنسيين المتمرّنين على تثبيت أقدامهم في لبنان. تطورت الحديقة مع الوقت وتقوم فيها، بشكل منتظم، ورش للبستنة مخصصة للأولاد لتشجيع محبي الحدائق.
المتحف كما ترونه اليوم قد رُمِّم واستُحدِثت فيه اضافات عملية من قبل المهندس المعماري جاك أبو خالد وأشرف على التنفيذ سامي فغالي. سنة ٬٢٠٠١ قمنا بأول نشاط في المتحف وكان ندوة تحت عنوان: “Ainsi-soie-t-elle”. تناولت هموضوع تطور صناعة الحرير في لبنان وعلاقاتها الوطيدة بمدينة ليون وفرنسا. نقيم سنوياً معارض تمتد من أول شهر آيار حتى آخر شهر تشرين الأول (أجبرنا على اغلاق قسري بسبب الهجوم الاسرائيلي على لبنان في تموز ۲۰۰٦). يساهم جان لوي مانغي٬ منذ ٬٢٠٠٢ بوقته وموهبته ، في تنظيم المعارض بلا كلل وبكل سخاء.
في المتحف البيئي نعرض مواضيع تتناول كيفية انتاج مادة الحرير وصناعتها. تؤمن المعارض تشكيلة واسعة من قطع الحرير القديمة والجديدة الآتية من “طريق الحرير”.
*************
*في ۲٣ نيسان ١٩٦٩، فُرض منع للتجول لمدة ثلاثة أيام، مّا حال دون سفرنا لتمضية شهر العسل. رغم ذلك٬ حصلنا على تصريح من الجيش بمغادرة اوتيل سان جورج والذهاب الى جلستنا هذه تحت أشجار الزيتون في “بسوس”.
المعلومات مستقاة من موقع متحف الحرير في بسوس الإلكتروني
كلام الصور
1- 2- متحف الحرير
3- موسم العز
4- إحدى قاعات المتحف
5- جورج والكسندرا عسيلي
6- قاعة المعارض