بقلم: الوزير السابق جورج سكاف (نائب نقيب الصحافة في لبنان)
إنَّ الكلمةََ التي تُعطى خيرُ الأشياءِ التي تُؤخذ، حسبُها أنّها مُختصرُ وُجدانٍِ. هذه الصغيرة التي حُمِّلت سِعَةَ الفكر ونََداوةَ القلب، حُمّلتْ أيضاً نعمةََ الخلاص لأن المعرفةَ التي تبدأُ في الأرضِ لتنتهيَ عليها ليست مثلَ المعرفة التي تُسافرُ الى السّماء لتُقيمَ فيها. هذه المُجَلّيةُ في تبادل ما يََلَذُّ وما يُجدي لها في عمر الزمانِ رسالاتٌ مَشرقِيّةٌ لُبنانية، كاد النورُ يختُمُ عليها وحدها، أليست الحياةُ كلُّها كلمة؟ ولكنَّ شرفَ الغاية الأَبعَد ما بلغ في أمرٍ مثلما بلَغَ في قول لبنان الأدبِ والمحاماةِ والسياسة: الكلمةُ صارت ادوار حنين، وغيرُ كثيرٍ أن تكونَ هذه الكلمةُ من مُعطَيات هذه المئوية التي لها من بَحبوحةِ دُنياها ما يمُدُّها بِبَحبوحةِ الكلامِ عليها.
في مئوية ميلاد ادوار حنين نتبع خطاه “على دروب لبنان” باطلالة بهية في كفرشيما حيث الجذور ضاربطة في الاعماق والفروع خفاقة في الاعالي عطاء ووفاء. ثم في مهرجان سياسي كبير في بيت المحامي، حيث نذر نفسه للدفاع عن قضايا الشعب. وتتواصل اليوم في حرم جامعي زاهر (الجامعة الاميركية للتكنولوجيا في حالات)، على شاطيء مدينة الحرف والتواصل الحضاري اللبناني منذ ستة آلاف سنة، بمشاركة خيِّرة من جمعية اندية الليونز العالمية في المنطقة، وصولا الى الاحتفالية الكبرى بتشييد عمل فني كبير تعده كريمته الفنانة العالمية ميراي، لينتصب في ساحةٍ، عند مستديرة قصر العدل، خصّته بها بلدية بيروت واطلقت عليها اسمه. رمزا للحكيم العادل لدى ام الشرائع.
وتبقى آثاره، وما اوفرها، لتصدر في مجلدات منوعة تكون ذخرا ثقافيا ووطنيا للأجيال القادمة، ومادة رئيسية للدراسات الثقافية والادبية والفكرية والسياسية في الجامعات ومعاهد التعليم العالي. .
احتفظ في ذاكرة فتوتي بطلة ادوار حنين المهيبة عندما جاءنا في الكلية الشرقية في زحلة محاضرا، فأُخذتُ بوقفته المنبرية المهيبة وخشونة صوته الرجولي وبسحر كلماته المضيئة وتفكيره النير، حفظتها واستعدتها مرارا وكأني استمع اليها مباشرة… ومع الايام أضيفت اليها لُمعٌ استأسرت بي من كلمات واقوال قرأتها في مقالاته او سمعتُها في خطبه ومحاضراته، دُوّنت تلقائيا في صفحة لبنانية على اسمه، أعود اليها عفويا لأقرأها قانونَ إيمانٍ بلبنان الواحد الاحد، الواجب الوجود، وصلاةً في هيكل قُدسه، حيث الله ولبنان، في وجدانه، لا يفترقان.
برفقته تعرفت الى لبنان من قمم متأرزة قِيماًً رفيعة وحضارات متجذرة بتعدديتها منذ القدم. بلد ليس كسائر البلدان، وطنا للانسان، سٌمي بالبلد الرسالة، كيانه قانون ايمان ونشيد اناشيد.
لبنان بقلم ادوار حنين: وطن عريق، متواصل التاريخ، سيد حر، منفتح على العالم أجمع… قيمة عالمية واجبة الوجود، مختبر حضاري فَذ، وملتقى حضارات وتيارات روحية، وثمرة حضارات متفاعلة، إنه نتيجة محتومة لتاريخ مستمر منذ آلاف السنين، وطناً للانسان يحترم الحقوق ويصون الكرامات، إنه وطن محبة وسعادة واخاء.
لبنانه لبنان الكل للكل، كل لبنان لكل اللبنانيين،
لبنان سيد منذ الابد، غير موصوف ولا منعوت الا بذاته، ابيض كاللبان اسمه. الولاء له في بقائه سيد نفسه غير مندمج بغيره، وغير منعوت الا بذاته. محافظاً على شخصيته المميزة وتراثه الاصيل… وطن حر، لا تنال منه المؤامرات لتقطيع تاريخه، فيبقى متواصلا ثقافيا، ومتماديا حضاريا، ومستمرا فاعلا. ملتصق الجذور بالحضارة العالمية الانسانية الواحدة،
المجتمع اللبناني متعدد بتراثاته وحضاراته الاصيلة في لبنان سياسي واحد موحد. لا يرمي قضيته في الشارع حتى لا تظل في الشارع، بل يرتفع بها الى مستوى التاريخ ليحكم عليها التاريخ. تُعطى القيمة مما في النفوس لا بما في النصوص.
اما السياسة، فهي لدى إدوار حنين، نذر النفس لخدمة المجتمعية اللبنانية، فلا يفضل لبناني لبنانيا آخر الا بنسبة اخلاصه للبنان. الظروف الطارئة تزول ويبقى جوهر الشعب في جميع حالاته. انتقل لبنان الحديث من “الميثاق الوطني” مع اطلالة الاستقلال، الى “الوحدة الوطنية” ايام الشهابية، ثم الى “وثيقة الوفاق الوطني” في الطائف بعد انتهاء الحرب. ولكنها كلها لم تُطبق.
تمكّن ادوار حنين، بايمانه اللبناني العميق، ان يحقق معجزة وطنية لم يقم بمثلها، من بعده، لا رئيس أحبار ولا رئيس دولة، في الجمع بين اقطاب السياسة: ( سليمان فرنجية وكميل شمعون وبيار الجميل والاباتي شربل قسيس)، وأعلام الفكر ( جواد بولس وشارل مالك وفؤاد افرام البستاني وادوار حنين) في “جبهة لبنانية” كان هو محورها وأمينها العام، فوضع باسمهم جميعا ميثاقا وطنيا، هو قانون ايمان بالوطن الحر السيد، لبنان الكل للكل، مهما اختلفت طوائفهم واديانهم.
كانت قوة ادوار حنين في القوة الكامنة في كلمته، إنه ابن كلمة كانت منذ البدء فعل خلق، وميزة المخلوق الخلاق.
آمن بقوة الكلمة، تغير وحدها البشر وتغير التاريخ، فتملّك الكلمة السواء. كلمة استقاها من الينابيع العالية، نقية صافية، متفجّرة من أعماق التاريخ، فكلل بها هامات القمم بنقاء بياض الثلج.
بقوة الكلمة حقق ما لم يحققه سواه لا بقوة المال والخدمات النفعية، ولا بقوة سواعد اهل القبيلة والعشيرة، ولا بعصبية اتباع المذاهب والطوائف… ولا بقوة سلاح ومسلحين، بدعم قوى خارجية يستعان بها في الازمات كما في أعمال الغزو للسطو والسيطرة…
واجه ادوار حنين مختلف القوى الطارئة، فكان الاقوى بسيف القلم، وقوة الكلمة.
في كل ما كتب ادوار حنين، وما أكثر ما كتب، تميز أسلوبه ببلاغة هنية، واضحة، وصارت كلماته تتداول كالحكم والامثال.
ترسَّل قلمه لاهداف ترسخ قاعدة لبنان، وتنقل لبنان المقيم الى لبنان المنتشر ولبنان المنتشر الى لبنان المقيم. توضح قضية لبنان بان تجلو وجه تاريخه وتراثه، وان تحدّدَ مكانه في مسيرة العالم الى آفاقه، وتبرز موجبات بقائه حرا سيدا عزيزا. انشأ مع اعمال فؤاد افرام البستاني، دائرة معارف في الشأن اللبناني. وشارك جواد بولس وشارل مالك في تصور لبنان الغد، في النظر اولا الى جوهر لبنان الذي هو الانسان. فلبنان انساني وانسانه في شخصه وعقله وكرامته وضميره، واي بنيان سياسي للبنان الغد يجب ان يقوم على ان جوهر لبنان هو الانسان والحرية.
واجهوا معا مشكلة الشرق انسانيا وحضاريا وتاريخيا وكيانيا، على انه مهد الديانات العالمية، وموطن تعدد الاقليات، فلا تستطيع اي اكثرية، بعد محاولات ستة آلاف سنة، الغاء هذه التجربة، وبقي لبنان صيغة توفر ما ينصف الاقليات فتُحترم، وتُعطى حقا الشعور بانها حرة محترمة ؟
أين لبنانك اليوم ؟
في بعض غَفَلات الدُنيا ما يُخجِلُ البقاءَ ذهابُ ما يستحق البقاء، فكأنّه يفرِّغُ ذاتهُ على مهل في لبنان، وهو يخشى أن يصيرَ فراغاً كبيراً، حتى كاد البقاءُ يُخجِلُهُ بعدَك يا ادوار. الأيام التي مضت مضى كثيرٌ منكَ مَعها، وكأنها تثأًرُ منّا عندما تدفعنا الى ان نتذكرك. إن في ذكراكَ رأفةًً ببقايانا التي برّحَ بها الضَنى حتى بِتنا لا نقوى بعد على الشوق والأسى وما يروّعُ ويلوع. ولكنك يا ادوار لم تغب بكل ما فيك، لأن السخاءَ الذي أردتَه في حياتك لا يزالُ يدفقُ سخاءً. عزاؤنا انك لا تزال معنا وبيننا نتنشّقُ الحريّةَ التي ناديت بها قبل تنشّقِ الهواء لئلا يبقى هذا الجبلُ كُوَماً من صخورٍ بل ليصمدَ شموخاً من قِيَم.
ونصلي معك: يا الله “لقد جئت لتوقظ النائمين على رجاء القيامة، متى تجيء لتوقظ المثقفين في ظل قيامتك. صرتَ انسانا لتجعل الانسان الهاً، فتبعناك على طريق انسانيتك الالهية، ايها الاله، يا عظيما امتَّ الموت بموتك، نسألك من اعماق ضعفنا ان تعزّزَ فينا روح البذل والعطاء والقدرة على حمل صليبك فنموت عن ذاتنا لنحيا.
*********
(*) كلمة ألقيت في الجامعة الاميركية للتكنولوجيا – حالات خلال الاحتفال برفع الستار عن تمثال لإدوار حنين بمناسبة مئوية ميلاده
كلام الصور
1- الوزير السابق جورج سكاف
2- إدوار حنين
3- النصب التذكاري لادوار حنين في الجامعة الاميركية للتكنولوجيا – حالات