بقلم: الوزير السابق جورج سكاف (نائب نقيب الصحافة اللبنانية)
صديقي جوزف،
ما أجملَ أَن نَلتقيَ هنا اليوم في الثّمانين، ويزيد، ونَتدرَّجُ مع الأَيّام الى الثامنةِ عشرة، إلى يومٍ، تَستَهلُّ به كتابَك الجديد، أوفدتنا الكُليّةُ الشَّرقِيَّة الى العاصمةِ بيروت، لنُشاركَ بمباراة الجامعة الأميركية في الإنشاء العربي بين مختلف طُلاب لبنان من أربعين مدرسة، وكانت المفاجأةُ السَّارة أَن فِزنا، أنتَ وأنا، باثنتين من الجوائزِ الستّ، فقفز اسمانا الى الصفحة الاولى من جريدة “الشرقية”، في لائِحةِ الشَّرَفِ مع مَن حقَّقوا نجاحاتٍ كُبرى من قبل، وتَوَّجَ الأبُ الرئيس إفتتاحيَّتَه باسمَينا متباهياً بما حقّقناه من مجدٍ للصّرحِ العالي ولمدينة العنفوان.
كنَّا لا نزال على مقاعد الدراسة عندما فاجأتنا، بعملٍ أعظم شأنا، بإصداركَ كتابك الاول “سعيد عقل وأشياء الجمال”. فتساءل اهلُ الأَدبِ والشّعر باستغراب: من يكون هذا الناشيءُ الذي قبضَ على سِرّ الجمال لدى شاعرٍ أَحدثَ ثورة في عالم الشعر؟… وكان بالنسبة إليك مُحاولة للعيشِ شِعريّاً من الكتابةِ في الشعر، في مدارِ شِعرٍ كوني، تراه كائناً أساسيّاً له منطِقُه الخاص وناموسُه الخاص، وله تأثيرُه السّحريُّ على الأحداث، بكيمياء لَفظِيّة. ميتولوجيا من وَهمٍ وحقيقة، دعوتهما وهمَ حقيقةٍ او حقيقةً موهومة. فتُصَدَّقُ واقعيةُ هذا اللاواقع، من نسجِ الشاعر، لأنها الأجمل.
الحقيقةُ الواقعية حمَلتك، مع رفاقِ الطُموح في زحلة، على العمل لتغيير واقعٍ رتيبٍ نحو مُرتجى أسمى، سواء في نشاطاتِ نادٍ ثقافيّ حفلَ مِنبرُه بكبار المحاضرين (سعيد عقل، ادوار حنين، غسان تويني، انور الخطيب، كمال جنبلاط، ميرنا البستاني، انطوان قازان، موريس صقر…. وسواهم). او بخوض مِضمارِ الصّحافة بكتابةٍ لماّحةٍ في الصحافة الزحلية، واندفعت مع صديقك ورفيقِك أنيس مُسلّم في إصدار صحيفة “البلاد”، صحيفةً شبابية الى جانب الصحيفة الزحلية الكُبرى “زحلة الفتاة”، في ثورةٍ قَلَميَّةٍ ارتفعت نبرتُها في ملحق “النهار” وفي الصحافة البيروتية، ثورةَ “إيئاسٍ جماعية على نِطاقٍ وطني قومي وعربي… معتبراً نفسك لبنانيا أكثرَ من البطرك، وتكره النّظامَ الفاسد والشعبَ الفاسد، فلم تُنصِر ذاك اللبُّنان محافظةً عليه من أولئِك المُستَغِلّين الفاسدين. وبين حُبّك للبنان وكُرهك لمفاسِدِه وقفتَ سلبا صِرفا. وصرخت غاضبا: لماذا لا يحمِلُ المُثقَّفُ العربيُّ السلاح؟
ومستغيثا: متى يبدأ الكفاحُ المُسَلّحُ ضِدَّ اللّيل!…
لم تُصدَم مثلنا ب”التغيير الصعب” فاحتضنت “الوطن المُستحيل”، وطِرتَ به مُحلّقاً من جارة الوادي، مدينةِ الشّعرِ والخمر، الى مدينةِ النّور، باريس، لتنشدَ على ضِفافِ السّين قصائدَ بردونيّة، تضيءُ “المصابيح ذات مساء” وتدغدغُ أحلامَ “آن كولن”. وفي كلّ سنة تعودُ الى زحلة، مع طُيور أيلول، لتنشدَ على إيقاع هديرِ بردونيّها قصائدَك الباريسية. فيستقبلك سعيد عقل بجائزةٍ من شاعرٍ الى شاعر يُجلِسُهُ الى جانبه على عرش الشعر.
قُبيل الإحتفال بمئويةِ شاعرنا الكبير أعَدتَ طِباعةَ كتابك الأَوّل “سعيد عقل واشياء الجمال” وهو، رغم كَثرةِ ما كُتب ونُشر عن المُعلّم من دراسات وأُطروحات جامعية، لا يزال الكتابُ الأعمقُ في كشف اسرار الجمال لدى مُبدِع الجمال.
كتابُك الجديد اليوم، حَظي باحتفالٍ أدبيّ كبير في نيويورك العاصمة الأُممية لأهل الفكر والادب من مختلف بلدان العالم، ولكنَّه يُتوّج هُنا في زحلة، فتُستعادُ معه أيّامُُ عِزّ النهضة الأدبية في عروسِ البقاع، ببهاءِ صفحاتٍ زحلية شيقة، مع رفاق وأصدقاء الأمس وقد صاروا نجوماً ساطعة في مختلف الميادين: من أسقفٍ بار، الى كبير جرّاحين، الى دبلوماسيّين حلّقوا بالوطن الصغير في أكبر عواصم العالم، الى كِبارٍ تولوا أعلى المراتب السياسية والتشريعية والقضائية، الى أهل قلم وفن وابداع، وما أكثرهم، نجوم كلّ سماء. .
في صفحاتك الزحلية تَرحيبٌ خاص بجورج جرمانوس، رسول النادي الزحلي في البرازيل حاملا الى زحلة هديَّةً ثمينة، هي كتاب كبير ونادر عن الفن العربي، “فأيقظَ في نفسِكَ ما يُشبِهُ الشمسَ إشراقاً وكِبَراً، لأن هديَّةَ الكتابِ هي في صميم مُشتَهانا”، خاطبتَه قائلا: “إنكم، في البرازيل، استطعتم ان تُروّضوا الدُّنيا بيدٍ فيما تمسكُ اليدُ الاخرى بكتاب، لذلك نرى أن نَجمعَ بينكم وبين أمثالكم هنا، في عدوى عافيةٍ تندفعُ نحو لبنان”.
عند وصوله الى زحلة زارني جورج جرمانوس في كرم علّين ليُطلِعَني على الكتاب الهديّة قبل أن يُقدّمَه في اليوم التالي الى البلدية، وقد أُعجبتُ بحجمه الكبير وصُورِه الفنّية الرائعة، وطباعته الأنيقة، فخفت عليه أن يضيعَ تحت غُبارُ الإهمال في المكتبة العامة، فدعيت صديقي وزميلي جميل ألوف، الذي جمعَ الى قلمه الصّحافي الظريف هوايةَ فنَّ التصوير، وبينما كنا نتصفح الكتاب التقط بدقة احترافية، صورَ ما حفلَ به الكتابُ من روائع، أحافظ عليها أكثر مما يحافظ على كتاب.
جوزف صايغ ها أنت، منذ مباراةِ الجامعة الاميركية، ومقاعد الكُليّة الشرقية وزمنِ الغَدوات التقليدية في حنايا الوادي وعلى جَنَباتِ البردوني، حتى تلك اللقاءات العابرة في بيتك الباريسي، محجَّتنا لملاقاة الجمال الساحر، كلما سنحت لنا زيارةُ عاصمةٍ أوروبية، لا تزال أنتَ أنت على سجيتك الزّحلية هادراً بصَخَبٍ بردوني، غاضبا لانتفاضة كرامة، وشاعرا بسموّ، تُختصرُ برائعتَيك: “القصيدة باريس” وتوأمتها: “زحلة القصيدة”.
إصداراتُك المُتعدّدة، وما رافقها من حفلات تكريم، تُظهركَ صائغاً آخر مُتعدّدَ المواهِب والتَّجليات: دواوينُك الشّعرية جمُعَت في إصدارٍ جديد يتألق في صدارة الشعر إبداعا وثراءً. وفي الاحتفال بتكريمك في الجامعة الاميركية للعلوم والتكنولوجيا، في تشرين الماضي ببيروت، بمناسبة إصدارها كتابا عنك: “جوزف صائغ في مراياهم”، ضمّ كلَّ ما كُتِبَ عنك وما قِيل فيك، لم تكن الكتاباتُ المُتقنة أقوالاً جميلةً تنزلق على نقاوة صفحة بيضاء، بل لوحاتٍ مُعبّرة ترسمُ مزاياك بأجمل الأَلوان. وفي كتابك الثاني بعنوان “حوار مع الفكر الغربي”، نجِدُك مُفكّراً واسع الاطلاع، تُحاورُ ببراعةٍ صِحافية، كبارَ رجالِ الفِكرِ والأدبِ والسياسةِ في العالم، حوارات كُتبت بلُغَتين، الفرنسية والعربية، فجاءت في الواقع حواراً بين ثقافتين مُختلفتين، تجمع بين الثراء والصعوبة. ثقافةٌ تواجه ثقافةً مختلفة ومَنهجيّةً عَقلانية مُغايِرة، فالمفرداتُ ذاتُها لا تعني المفهومَ ذاتَه في الشرق والغرب. مفهومُ الدَّولةِ والحُرّيةِ والديموقراطيةِ هنا ليسَ هو ذاته هُناك.
اليوم، في زحلتِك الحبيبة حيثُ مهدُ الطفولة الجميل، و”الحُلم الأَوّل بأن من هُنا سيدفقُ الضياءُ على بلادي وعلى أرجاء أبعد”، تأتي بكتابِك “الوطن المستحيل”، الكبيرِ حجماً ومُحتوى، لتفتحَ صفحاتِ حياتك، بكلّ ما فيها من حُبّ ومن حنين، من غضب ومن ثورة، من ألَقٍ ووهج ومن نَشواتِ فرحٍ وانقباضِ نفس، كُتبت وقيلت بصدقٍ وعفَويّة. تعود الى حضن الحبيبة زحلة تساررُها بأن رحلتَك الشّعرية والأدبية أَعطتكَ مساحةَ الكلمةِ، وهي من مساحة الارض، مساحةً كونية، وما اكتفيت، فآثرت عليها مساحةَ الحُبّ والحنين، في حدودِ القلب، لأنها الأعمق والأغنى.
كم يُسعدُ زحلتَك الحبيبة، أن تعودَ اليها بأغمارِ غِلال وافرة وتجليات شعريةٍ رائعة، وبمؤلفات ثرية وخواطر انسانية سامية، وحوارات راقية مع الفكر العالمي.
تعود وقد غامرتَ جَمُوحاً في اقتحام “الوطن المستحيل”، قرأتَه مُعانِداً، وكتَبتَه مُبتَكَراً، مُتجدّدا، خُضتَ من أجله “معركةً ضد الليل والغيب في سبيل تحريرِ الارض من قَدَريّةِ الأرض، والكلمة الجديدة من الكلمة القديمة”، فجنيتَ باقاتِ رؤىً واقعية من لاواقعيتك الشعرية، لأنها الأصدق والأجمل.
قلتَ بالوطن المستحيل… وقد غدت الارضُ قريةً كونيّة، فلا دُول كُبرى بعد تُقاس بكِبر مساحةِ أراضيها ولا بكثرة عدد سُكّانها وقوُّة جحافل جيوشها، وتحصينات حدودها الفاصلة، بل تعيشُ مثل غيرها تحت قبّةِ فضاء عالمي مشرّع الاجواء منفتح الابصار على كل الافكار والمعلومات. وصار الأقوى، في عصرنا المُعولَم اليوم، عصر المعلوماتية، هو الأسرعُ والأقدرُ على التقاط المعلومات المتوافرة للجميع والإفادة منها. وصار بعضُ المناطقِ والمؤسسات الصغيرة نسبيّا أهمّ من دُولها ومن دول أكبر منها. وصار الوطنُ أيَّ مكانٍ يطيبُ فيه العيش بحُرّية كاملة وراحة بال ووفرة المعلومات،
وطنُك المستحيل، جوزف صايغ، أخذنا الى حكمةٍ قديمة تقول: “مِن المُمْكِن إلى المُستحيل رحلةُ الحُلُم، ومِن المُستحيل إلى المُمكنِ رحلةُ الذكريات”. فإلى هذا الوطن المُستنير أبحرتَ بنا على صفحات أجمل الذكريات. إلى وطن من “راد الارض يبني أنّى يشأ لبنانا”
فهنيئاً لك ولنا، وطنَ حُلمٍ لاواقِعيٍّ وحقيقي… وطنَ بهاءٍ أبهى، وجمالٍ أجمل، وتفوّقٍ فوق تفوّق..