بقلم: قزحيا ساسين
قد تكون الرواية شكلاً من أشكال السيرة الذاتية، وإن تمّ تمويه أحداثها تعديلاً وحذفاً وزيادة… لأسباب كثيرة، ومنها: أنّ الحقيقة بأسمائها العارية تحرج، وأنّ التصرّف قد يتيح لفنيّة النصّ أخذ مداها. والرواية التي لا تتبنّى شيئاً من حياة صاحبها هي رواية لم تُكتب بعد. يحضر الروائيّ أنطوان الدويهي في جديده {حامل الوردة الأرجوانيّة} بكلّ ما فيه.
يحضر الروائيّ أنطوان الدويهي متأمّلاً عَرَق الانتماء يقطر من جبين قلمه، محاصَراً بوجع الحريّة ورحيقها، مسنداً رأسه إلى صدر الأمّ التي لا تسقط عن شرفة القلب شأن النساء الكثيرات…
يتقّنع الدويهي في {حامل الوردة الأرجوانيّة} بضمير المتكلّم وهو يمدّ بساط السّرد ولم يمنح نفسه اسماً ربّما ليحترف التواري في الحضور، ويقتصد في فتح باب روايته للشخصيّات التي يأذن لها بالدخول إلى النص حين تدعو الحاجة، فهو لا يُسكن بناءه الروائي إلاّ من يخدم حياة اللغة الروائيّة، ما يجعل القارئ قادراً على الالتحام بجسد النصّ ناجياً من لعنة التشظّي ومن عناء ملء الفراغات بالاحتمالات المناسبة.
نزل الدويهي في سجن {حصن الميناء} أسيراً. وهو الرّجل اللبناني، الإهدنيّ، الذي ينتمي، بلا قيود، انتماء أبيض إلى الحريّة التي نسج صداقته معها منذ طفولته: {فطالما شكرت الخالق على وجودي في هذه الإمارة الجبليّة الصغيرة المفتوحة على البحر. المشمولة من زمان بنعمة الحريّة وسط محيط فاقد لها}… لم يكن سبب الاعتقال معروفاً، والراوي السجين خارج صراعات المناطق والأحزاب والمذاهب والطوائف. إنّه حامل قلم يعتنق الله والجمال والحريّة، ويحصر همّه الوجودي بهذا الثالوث الذي لا يمتّ بصلة إلى بشاعات السياسة والحرب. ولم يبح الدويهي بالتّهم الموجّهة إليه إلاّ بعدما كشف عن شخصيّات روايته وبنى العلاقات الملائمة بينها وصنع التاريخ الذي يشكّل إطاراً لحياته، التاريخ الموشوم بالمرأة والحريّة والأرض.
خارج الذاكرة
ممّا لا شكّ فيه أنّ الراوي ينتسب بطمأنينة وفرح ونزق إلى ماضي مجتمعه ولا يستطيع أن يعيش خارج ذاكرته ووجدانه: {… تلك الأمكنة مسكونة بأشخاص غير مرئيين، قد فارقوا الحياة من زمان، أعرفهم ويعرفونني، وأحبّهم ويحبّونني، وأكاد ألمسهم من شدّة حضورهم}… لكنّه لا يبارك أهله وهم يضطهدون الطبيعة ويغتالون ملائكة جمالها، ولا يؤمن بالتواصل بلغة الدم. وعليه، فإنه في مجتمعه الأديب {الآدميّ}، المحترم، المحتفِظ بألم الأنبياء في صدره لأنّ وصاياه مرايا لا تتّسع لوجوه قومه…
أقام الراوي في فرنسا. وكان قد حمل في حقيبة سفره ذاكرة عصيّة على عنكبوت النسيان. ذاكرة تشكّله، تحرّره، تأسره، تفرحه، تبكيه، تملأه، تشرّده من ذاته إلى ذاته… وتحت سماء المنفى الممتع عاش حامل الوردة الأرجوانية مع الطبيعة وملأ وقته جمالاً وحرّية ونساء كثيرات. وأحبّ {آنّا} بكلّ ما فيها من جسد وروح مؤمناً بأنّ الجسد شكل مرئيّ للروح حين الحبّ في يد تعانق وفم يقبّل. غير أنّ طلب {آنّا} ولداً وأَد شراع الرحلة الأخضر في رمل أسود. فكيف يرضى من تواظب أمّه على زيارته سجيناً حاملة على كتفها أربعة وثمانين عاماً، ومن ناضل أبوه ليشتري له علماً بعرق الجبين وأكثر، أن يعطي امرأة ابناً من لحمه ودمه ويمضي؟
وفي هذا السياق يعلن الراوي بما فيه من ناقد ومحلّل: {إنّ التوغّل في الفرديّة والحرّية اللتين لا حدود لهما، وفقدان الجذور، وانهيار التقاليد، وهيمنة الشأن المادي هيمنة تامّة على مشاعر العطاء المجّانية، وتحوُّل الجسد قيمة عظمى في ذاتها… وتعدّد أشكال الحياة وأنماط العلاقات على نحو يتيح المجال لكلّ احتمال، قد جعلتْ من الإنسان إله نفسه، ملقية على كاهله أعباء وجوديّة ثقيلة ينوء تحتها}.
هروب من الاستبداد
لم تكن إقامة الراوي – البطل في فرنسا هروباً ناجحاً من الاستبداد الشرقي والإبداع في قمع الحرّيات وهندسة السجون، لأنّه كان مراقَباً من جهاز أمن الطاغية. والرائدة {هناء} التي تولّت التحقيق معه في {حصن الميناء} التقته في فرنسا قبل عشرة أعوام في مقهى {لوديبار} وهي بمعيّة {الإنطاكي}. ولم يوصل الراوي إلى حصن الميناء إلاّ تمنّعه عن قبض ثمن أربع مقالات كتبها في {مرآة الشرق} التي هي إحدى وسائل الإعلام التي تتنفّس من رئتي الطاغية وجيبه. الأمر الذي جعله مطارَداً وجعل الطاغية بينه وبين {آنّا} وهما على عناق، وجعل صُوَر الحبّ ورسائله الموقّعة باسم {حامل الوردة الأرجوانيّة} مضبطة اتّهام كبرى لما فيها من بوح يقدّس الحريّة ويرعى قطيع غمام من نار ليمطر فوق كلّ أرض يحكمها سفّاح.
عرف الدويهي أسباب اعتقاله واحتفظ بمعرفته حاجباً إيّاها عن {رانيا} زائرته الأسبوعيّة، وعن أمّه التي أصرّت على أن تضرب عن الطعام في ساحة الضيعة حتى موتها رغبة في معرفة أسباب اعتقال ابنها. وعرض عليه المقدّم سالم أن يدفع ثمن نجاته، وهو المتهم بالتعامل والتآمر مع دولة أجنبية على وطنه ونظام الحكم فيه… تأليف كتاب عن الطاغية وتاريخ عائلته، وتضاف إلى السلامة وظيفة مرموقة في الدولة. واختار الراوي الكتاب الذي لن يكتبه، إنّما هو حجّة تؤجّل وصوله سنة إلى سجن بلعة، وفي هذه السنة قد: {يترنّح شبح الخوف داخل النفوس، لا أحد يدرك لماذا، فيخرج الشعب كالنهر الهادر ويأخذ في طريقه كلّ شيء}. ولم ينسَ سجين الحصن أن يودع {رانيا} يوميّاته في حصن الميناء: {إقطعي لي يا رانيا وعداً على نفسك بأنّك لن تفتحي هذا المغلّف… ضعيه في خزانة ائتمان في أوروبا لا يصل إليها أحد سواكِ. افتحي المغلّف واقرئي أوراقه وانشريها في كتاب، في حالة واحدة: إذا مات الطاغية وانهار نظامه. سواء أكنت أنا حيّاً أم لا، لا فرق}.
كتب أنطوان الدويهي في روايته {حامل الوردة الأرجوانيّة} هزائم وجوديّة، فلا دائرة اكتملت معه تحت الشمس. وقد يكون الانتماء صليبه الذي ثَقُل على كتفه في لبنان وازداد ثقلاً في فرنسا. وقد لا ينقص {آنّا} إلاّ أن يكون فيها شيء من {ساره} اللبنانية التي لم تتزوّج لأنّها أحبّته، وزارته في الحلم سجيناً وقصّت عمره بخنجرها، لأنّه هرب من قدر شبّان قريته. وقد لا ينقص {ساره} إلاّ أن يكون فيها شيء من {آنّا}… وقد لا ينقص جميع النساء إلاّ أن يكون فيهنّ شيء من أمّه.
في {حامل الوردة الأرجوانيّة} اختبأ أنطوان الدويهي في ظلّ ضمير المتكلّم، ليرسم بقلمه الروائيّ الناضج خارطة الطريق إلى الحريّة من ظلمة {حصن الميناء}، وما أكثره في شرقنا التعيس، وليعبّر عن غربة الإنسان، بين أهله أو بعيداً منهم، عندما يكون حاملاً في عينيه ضوءاً لا تؤمن به عيونهم، وليعلن أنّ المرأة لها ما للخبز حين نجوع إليها، سواء أكانت واحدة من أوّل الرحلة إلى آخرها أو كانت متعدّدة.
كلام الصورة
غلاف الكتاب