أنهى فريق الخبراء الإيطاليين برئاسة البروفسور لويجي كاباسو العمل في معالجة جثمان البطريرك يوسف التيان ( 1760 ـ 1820 ) بعد معالجة دامت أشهراً اثر بروز عوارض تفكك بادية على الجثمان الموضوع في إحدى غرف دير قنوبين . وافاد البروفسور كاباسو أن جثمان التيان بحالة جيدة والمعالجة العلمية التي أجريت له ستحفظه نهائياً، بعدما تبين أن ما تعرض له هو نتيجة عوامل خارجية وليس وجود جراثيم او بكتيريا داخله ، ويتم حفظه الآن في تابوت محكم الإغلاق يغمر الجثمان داخله بغاز خاص يجدد دورياً كل سنتين تقريباً.
قضت المعالجة أيضاً بإبدال الملابس التي يرتديها التيان وهي تعود إلى تاريخ وفاته سنة 1820، وفي هذا الإطار تم اختيار بدلة كنسية أخرى كانت محفوظة في خزانة الكرسي البطريركي في الديمان، تعود الى حقبة قنوبين، وقد نقلها البطريرك يوسف حبيش من دير سيدة قنوبين الى دير مار يوحنا مارون في الديمان سنة 1833. والبدلة عبارة عن الكتونة الداخلية والغفارة الخارجية والتاج البطريركي..
وقد تم نقل الجثمان من مستشفى السيدة في زغرتا إلى مكانه الأساسي في دير سيدة قنوبين ضمن مسيرة صلاة وشموع ترأسها النائب البطريركي المطران مارون العمّار، بمشاركة خادم الرعية حبيب صعب، والخوري خليل عرب ومديرة دير قنوبين الأخت لينا الخوند والأهالي الذين حملوا التابوت على أكتافهم مشياً صعوداً إلى الدير، في مسيرة شاقة استغرقت حوالى ثلاث ساعات نظراً إلى ثقل وزن التابوت البالغ حوالي 400 كلغ ومملوء بالغاز. وقد أعيد عرض الجثمان الموضوع في نعش حديدي فتحته من الزجاج محاطاً بالأزهار والشموع في غرفة مزار السيدة العذراء، الى يسار مدخل كنيسة سيدة قنوبين ، لاتاحة رؤيته للمؤمنين بوضوح.
بطريرك عظيم
يصف بطريرك أنطاكية وسائر المشرق الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي البطريرك يوسف التيان بأنه بطريرك عظيم في سلسلة البطاركة الـ 77، يقول: “كان رجلاً مليئاً من الحياة الروحية وهو عشقٌ وعاش الحياة النسكية واستطاع أن يجمع بين العلم والزهد، بين العلم وبين السموّ في الفضيلة وانتخب بطريركاً وهو في السادسة والثلاثين من عمره للدلالة على مدى الخبرة التي تميّز بها فانتخبه المطارنة بطريركاً. وعندما استقال يوم وجد أنّ الامور تتعثّر ورجل الله هذا الذي كان يضع خير الجبل اللبناني وخير الكنيسة والشعب الذين من أجلهم ناضل كبطريركٍ في عهد الامير بشير الشهابي الكبير وخلافه مع الأمير بشير حول شؤون الشعب اللبناني، قدّم استقالته عن البطريركية وهو في التاسعة والأربعين من عمره وراح يكمل حياته في النسك”.
يضيف:”عالم اليوم هو عالم التباهي، وهذا البطريرك الكبير يعلّمنا أنّ قمّة العلم هي الفضيلة، قمّة العلم هي إلى أي مدى يستطيع الإنسان أن يسوغ نفسه على صورة الله، والثقافة الحقيقية هي بلورة الذات وليس جمع معلومات، وبناء الذات نبتةً غنيّةً من القيم الروحية والعلمية. ونحن اليوم أمام بطريرك عمل على نفسه وكان العلم بالنسبة إليه دعوةً لعيش ملء الاتحاد بالله وملء القيم الروحية. ونحن اليوم ومن خلال كل ما سمعنا عن البطريرك التيان عبر وثائقٍ ومصادرٍ وأبحاثٍ تاريخية، نتطلّع جدّياً إلى تقديم دعوى للنظر في تطويبه، والمراجع التي اطّلعنا عليها ولّدت عندي قناعةً كبيرةً أنّ هذا الرجل عاش قديساً ومات قديساً”.
يدعو البطريرك الراعي إلى الصلاة معاً والاطّلاع مع الآباء بشكلٍ جدّيٍ على الأبحاث التي قدّموها عن البطريرك التيان “فنرى إذا كان فعلاً لدينا اليقين الأدبي للمباشرة بتأليف لجنةٍ، وتقديم طلبٍ للكرسي الرسولي للنظر في التحقيق بتطويب هذا البطريرك الكبير القديس يوسف التيان. نحن اليوم نطلب شفاعته كي يعلّمنا القدرة لأن نعمل على نفوسنا بالعلم والفضيلة، لأنه إذا العلم لم يحمل الإنسان إلى سموّ الفضيلة فهو بذلك يفقد كل أبعاده ومعانيه، العلم يعلّمنا روح الزهد، روح التمييز بين الخير العامّ والخير الشخصي التي نفتقدها في عالم اليوم، وكلنا اليوم نعاني من أنّ آخر ما يفكّر به المسؤولون في لبنان هو الخير العامّ، وهذا البطريرك العظيم يعلّمنا أن نضع أمامنا هدفاً واحداً فقط هو الخير العامّ، وإذا كان لا بدّ من تقديم مساهمةٍ ما فليقدمها في خدمة الخير العامّ، وبين الخير الخاصّ والخير العامّ يعلّمنا البطريرك التيان أنّ الأولوّية هي للخير العامّ، وكما يقول مار يوحنا المعمدان علي أن أنقص وعلى الخير العامّ أن ينمو”.
يذكر أن كلمة البطريرك الراعي ألقاها في “يوم البطريرك يوسف التيان” في بلدة حدتون- شمال لبنان (2011).
البطريرك يوسف التيان
رجل النهضة التربوية ورجل الإصلاح الديني والاجتماعي ولد في بيروت عام 1760، أرسله البطريرك يوسف بطرس اسطفان إلى المدرسة المارونية في روما لتلقي العلوم في الفلسفة واللاهوت ودرس فيها لغات عدة. ارتسم كاهنًا عام 1784 وعينه البطريرك نائبًا بطريركيًا في روما ومندوبًا لها أمام الكرسي الرسولي.
في 6 أغسطس 1786 عُيّن أسقفًا على دمشق وبعد سنتين استقال وعُيّن نائبًا بطريركيًا عامًا؛ واستمر في منصبه حتى انتخابه خلفًا للبطريرك فيلبس جميل في 28 أبريل/ يسان 1796، وله من العمر 36 عامًا ، ونال درع التثبيت من البابا في 24 يوليو 1797.
ألف كتابًا حول دور البابا في الكنيسة الكاثوليكية وسلطته المطلقة، غير أن الكتاب ظل على شكل مخطوط ولم يطبع، وهو في الأصل رسائل متبادلة بينه وبين بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك جرمانوس آدم الذي أنكر سلطة البابا المطلقة، وقد حرّم البطريرك كتبه هذه على الموارنة. كانت الأوضاع السياسيّة الخارجية خلال بطريركيته معقدة للغاية مع الحملة الفرنسية على مصر عام 1799، نتيجة العلاقة الوطيدة بين فرنسا والكنيسة المارونية.
يقول المطران والمؤرخ يوسف بطرس الدبس إن يوسف التيان كان يؤثر حياة النسك والزهد والانفراد على “الأعباء البطريركية”، لذلك استقال من مهامه عام 1809، في حين قال المؤرخ المطران ناصر الجميل إن الاستقالة جاءت نتيجة خلافه مع الأمير بشير الثاني الشهابي الذي سرعان ما تحوّل إلى خلاف مستحكم نتيجة رفع الضرائب من قرش الميري إلى ستة قروش، واندلاع ثورة في جبل لبنان على الحكم عرفت بـ “عامية لحفد” التي واجهها الأمير بسياسة قمعية جلبت على الجبل “الخراب والدمار والتشريد”؛ إلى جانب حروب الأمير المستمرة مع أولاد عمّه، فضلاً عن التدخّل في الشؤون الداخلية للكنيسة؛ كما واجه بعض المصاعب الكنسية الداخلية والخلافات على مستوى المطارنة، ما دفعه إلى تقديم استقالته. وقد قبل البابا استقالته في 19 نوفمبر 1808، وطلب إليه أن يتابع إدارة شؤون البطريركية حتى انتخاب خلف له.
بعد استقالته اعتزل التيّان الحياة العامة في دير مار يوحنا مارون في البترون، ثم أقام في أحد قراها حيث بنى له منزلاً صغيراً واظب فيه على الصلاة والخدمة في الكنيسة، ثم انتقل إلى دير قنوبين حتى وفاته في 20 فبراير 1820 ودفن في المقبرة البطريركية في مغارة القديسة مارينا في وادي قاديشا، وقد رسم خلال بطريركيته أربعة أساقفة.
كلام الصور
1- البطريرك يوسف التيان
2-الجثمان في دير قنوبين بعد المعالجة.
3- البدلة البطريركية التي تمّ إلباسها للجثمان