بقلم: الأب صلاح أبوجوده اليسوعيّ (*)
في أعقاب أحداث ١١ أيلول ٢٠٠١ ، اكتسب موضوع الإرھاب مكانةً لا سابق لھا في المناقشات السياسيّة والأكاديميّة والإعلاميّة في العالم. غير أنّ تلك المناقشات لم تجد مخرجًا لإشكاليّة تعريف الإرھاب الذي عاد ليُطرح مرّة أخرى بقوّة في ضوء أحداث الربيع العربيّ ونشاطات جماعات دينيّة متطرّفة. فالجھود التي بُذلت في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي في إطار منظّمة الأمم المتّحدة بخصوص تعريف الإرھاب، توصّلت إلى “معاھدات قطاعيّة” تتعلّق بأعمال محدّدة، ولا تؤلّف معاھدةً شاملة توردُ تعريفًا عامًّا عن اللفظة. فتمّ الكلام مثلاً على الجرائم التي تطال الأشخاص المحميّين دوليًّا مثل الدبلوماسيّين، وأخذ . الرھائن، وتمويل الإرھاب، وخطف الطائرات، والإرھاب النوويّ، وغير ذلك .
وفي كانون الثاني ٢٠٠٢ ، ناقشت الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة مسوّدة تعريف عن جريمة الإرھاب، تُلخَّص بما يلي:
“إنّ كلّ شخص يرتكب جرمًا ضمن حدود ھذه المعاھدة ھو مَن يتسبّب، بأيّ وسيلة كانت وبطريقة غير قانونيّة ومُتعمَّدة:
أ – بموت أيّ شخص أو إصابة أيّ شخص بجسده إصابة خطيرة؛ أو
ب – بضرر جسيم في الممتلكات العامّة أو الخاصّة بما فيھا أماكن الاستخدام العامّة، وفي مرفقٍ تابع للدولة أو مرفقٍ حكوميّ، وفي وسيلة نقل عامّ، وفي منشأة من البُنى التحتيّة أو في البيئة؛ أو
ج – بضرر في الممتلكات والأماكن والمرافق أو الوسائل المُشار إليھا في الفقرة (ب) من ھذا البند، يتسبّب أو قد يتسبّب بخسائر اقتصاديّة كبيرة، عندما يكون ھدف التصرّف بطبيعته أو إطاره، أن يُرعب السكّان أو يرغم حكومة أو مؤسّسة دوليّة على أن تقوم بعمل معيّن أو أن تُحجم عن القيام بعمل معيّن”.
وبالرغم من أنّ مضمون المسوّدة ھذه قد لاقى قبولاً عامًّا، فإنّ الاختلافات دارت على الحالات التي يمكن تطبيق فقرات المسوّدة عليھا أو إعفائھا منھا. وعلى سبيل المثال، ھل يجب تطبيقھا على القوّات المسلّحة النظاميّة التابعة للدول أم لا؟ وھل يجب تطبيقھا على حركات التحرّر الوطنيّ أم لا؟ وبكلام آخر، ھل يجب قياس التصرّف على العمل ونتائجه، أم على الجھة التي تقوم به؟ ھل يمكن القوّات المسلّحة النظاميّة أن تقوم بما تعتبره المسوّدة عملاً إرھابيًّا في حال أتى القرار من السلطة السياسيّة الشرعيّة، وبغية خدمة ما تعتبره تلك السلطة خيرًا عامًّا أم لا؟ وما يميّز الحركات التحرّريّة الوطنيّة التي يمكن أن تلجأ إلى عملٍ ما قد يندرج ضمن لائحة الأعمال الإرھابيّة، من المنظّمات الإرھابيّة؟ وما دام التعريف العامّ غامضًا، لا يمكن تحديد أبعاد الموضوع الأخلاقيّة تحديدًا وافيًا، بل تبقى مرتھنة بسياسات الدول ومصالحھا، كما وببعض الإيديولوجيّات السياسيّة والدينيّة.
أوّلاً: تطوّر مضمون اللفظة
دخلت لفظة “إرھاب” التداول العامّ في القرن الثامن عشر، وعنت حكم “الرعب” الذي انتھجه يعقوبيّو الثورة الفرنسيّة، بغية القضاء على النظام القديم وأعداء الثورة وفرض الفضيلة المدنيّة المتّصلة بالتزام المواطن في المجتمع كما فھموه. فأتى الإرھاب متعلّقًا باستخدام السلطة استخدامًا استبداديًّا لا يولي عدالة القانون اھتمامًا، ومرتبطًا بسياسة عامّة لا تمييز فيھا. وبرز من ثمّ نوع آخر من الإرھاب مع حركات قوميّة وثوريّة، ولا سيّما الثورة الروسيّة، يقوم على تحديد أھداف معيّنة، أي ينتھج سياسة التمييز، إذ تمّ القيام بأعمال تصيب صميم النظام القائم، وتثير الخوف واليأس في نفوس أتباعه، ومنھا اغتيال المسؤولين الحكوميّين المتعاونين مع النظام الظالم.
ومع الحكم التوتاليتاريّ الذي طبع الحكومات البولشيفيّة والنازيّة والفاشيّة، وبعض الحركات الثوريّة مثل “الاتّحاد الإسبانيّ لمجموعات اليمين المستقلّة” في ثلاثينيّات القرن المنصرم، أصبح الإرھاب متّصلاً، من جھة، بسعي تلك الحكومات إلى السيطرة على كلّ نواحي الحياة العامّة والخاصّة من طريق أجھزة بوليسيّة واستخباراتيّة قويّة؛ ومن جھة ثانية، بأھداف بعض الحركات الثوريّة التي تنفي الديموقراطيّة بكلّ أبعادھا وتُثير الانقسامات الخطيرة داخل المجتمع الواحد. لقد صار الكلام، في الحالة الأُولى، على “إرھاب الدولة” مع تحفّظ العديدين على ھذا الوصف باعتبار أنّ الدولة تستخدم “العنف” الشرعيّ لا الإرھاب؛ وفي الحالة الثانية، على “إرھاب منظّمات إيديولوجيّة متشدّدة”.
ولكن، في الحالتَين، بدا المدنيّون عمومًا ھدف” العنف الشرعيّ “، و”إرھاب المنظّمات” .
بعد الحرب العالميّة الثانية وطوال الحرب الباردة، استمرّ ھذان النوعان من الإرھاب في أنحاء مختلفة من العالم مع قيام أنظمة عسكريّة ديكتاتوريّة، كان للعالم العربيّ حصّة كبيرة منھا، ونشوء منظّمات قوميّة تحرريَّة انتھجت العنف المسلّح وسيلة لبلوغ أھدافھا. ومع ھذين النوعَيْن، تتابعت المجادلة نفسھا وإن بنطاق أضيق من نطاق النازيّة والفاشيّة، في شرعيّة الأعمال الناتجة من “إرھاب الدولة” أو “إرھاب المنظّمات القوميّة المسلّحة”. فھل يحقّ للدولة بحجّة الدفاع عن الأمن القوميّ استخدام الإرھاب الذي يمكن أن يتّخذ شكل قمعٍ للمعارضة، وترويضٍ للمنظّمات المدنيّة، وسيطرةٍ على وسائل الإعلام، وتدخّلٍ في الحياة الشخصيّة؟ وھل تُبرّر أعمال المنظّمات المسلّحة القوميّة عندما تستھدف المدنيّين بغية الضغط على الحكومات الجائرة؟ وبالتالي، ھل يجوز التمييز بين الوسيلة والھدف، بحيث تكون الوسيلة مُبرَّرة، ولو عنيفة، إذا كان الھدف ساميًا وشرعيًّا؟
في نظر الحكومات عمومًا، ليس الإرھابُ العملَ بحدّ ذاته، بل مَن يرتكبه. وبكلام آخر، ھي الحركات أو المنظّمات غير الشرعيّة التي تقوم بالإرھاب، وليس الحكومة الشرعيّة التي لا يمكن أن تُتّھم به. فالحكومة إنّما تنتھج العنف شرعيًّا بھدف حماية مواطنيھا أو أرضھا أو مصالحھا. أمّا إذا انتھجت منظّمات أو حركات غير شرعيّة العنف نفسه، فعملھا يُعدّ إرھابًا.
ولا شكّ في أنّ ھذا الاختلاف يُترجم في مواقف دوليّة وداخليّة على السواء. فعلى الصعيد الدوليّ، مثالاً، ترفض الدول العربيّة وروسيا وإيران وتركيا اعتبار حركة “حماس” إرھابيّة، في حين أنّ الولايات المتّحدة الأميركيّة وكندا وإسرائيل والاتّحاد الأوروبيّ يعتبرونھا إرھابيّة. وعلى الصعيد الداخليّ، تتّھم دولةُ البحرين المعارضةَ باللجوء إلى أعمال إرھابيّة، كما تسمّي الحكومةُ السوريّة مجموعاتِ الثوّار المسلّحة إرھابيّين. أمّا من طرف المعارضين أو الثوّار فنشاطاتھم تندرج ضمن ما ھو مشروع، ألا وھو السعي إلى العدالة والحريّة والمساواة.
ثانيًا: تباينات ونقاط مشتركة
لقد اكتسبت لفظة “الإرھاب” بُعدَين أساسيَّين مترابطين في تطوّرھا التاريخيّ ھما: العنف والتخويف بغية تحقيق أھداف سياسيّة أو إيديولوجيّة بالإكراه. غير أنّ التباين في تعريف الفاعل يُبقي معنى اللفظة ناقصًا، بل وملتبسًا. فالمعايير التي على أساسھا يمكن إعلان الفاعل “إرھابيًّا” تبقى غائبة. وعندما يأتي الكلام على “عنف الدولة”، فھل يعتبرُ ذلك شرعيًّا أم إرھابيًّا؟ وما ھي المرجعيّة التي يمكنھا أن تبتّ الأمر؟
تبدو شرعة حقوق الإنسان مرجعيّة صالحة في ھذا السياق. غير أنّ التطوّرات التي أعقبت أحداث ١١ أيلول، أظھرت إمكانيّة تجاوز تلك الشرعة إزاء ما يمكن اعتباره مصلحة الدولة العليا. فالحكومات التي أيّدت إدارة الرئيس الأميركيّ الأسبق جورج بوش في حربه العالميّة على الإرھاب، وجدت في تلك الحرب وسيلة لتعزيز قمعھا المعارضين، أو الحدّ من الحريّات المدنيّة أو التضييق على الأجانب أو تسھيل مرور المعتقلين بتھمة الإرھاب إلى الولايات المتّحدة الأميركيّة من أراضيھا. ومن بين تلك الدول التي ذكرتھا منظّمات حقوق الإنسان في تقاريرھا: الصين وباكستان ومصر والأردنّ وسوريا وإسرائيل والھند وأوستراليا وعدّة دول من الاتّحاد الأوروبيّ، وغيرھا من البلدان.
ومن ثم، عندما يأتي الكلام على عنف الحركات التحرريّة أو الإيديولوجيّة، فھل يكون شرعيًّا إزاء نظام مستبدّ؟ ومسألة المرجعيّة وشرعيّتھا تُطرح أيضًا في ھذا السياق، كما تُطرح مسألة تحديد الأھداف. فھل يجوز استھداف الموظّفين الحكوميّين؟ وھل يجوز استھداف المدنيّين عشوائيًّا، أم يجب تطبيق قواعد الحرب التي توفّر الحصانة لغير المقاتلين؟ وفي ھذه الحالة أيضًا، تبدو حقوق الإنسان المرجعيّة الصالحة لرسم أطر شرعيّة في عمل تلك الحركات. ولكنّ المشكلة تكمن في أنّ ھذه الحركات لا تعترف بشرعة حقوق الإنسان، ولا تطلب جمعيّة الأمم المتّحدة أصلاً إليھا الاعتراف بتلك الشرعة التي تُوجَّه إلى الدول.
خلاصة
يحول تضارب مصالح أنظمة الدول وسياساتھا الداخليّة والخارجيّة دون التوصّل إلى تعريف جامع عن الإرھاب، وھو مسعى يصطدم أيضًا بنشاطات منظّمات سياسيّة وإيديولوجيّة تلجأ إلى العنف لتحقيق أھدافھا. لذا، يبقى تعريف الإرھاب إلى الآن متّصلاً بسياسات كلّ دولة ومقاييسھا الأخلاقيّة والقانونيّة ومصالحھا الخاصّة، ولا سيّما عندما تكون في مواجھة مثل المنظّمات المذكورة. وممّا لا شكّ فيه أنّ تفسير كلّ دولة القانون الدوليّ المعمول به في ما خصّ سيادتھا وسلامة أراضيھا ووحدتھا، إضافةً إلى القوانين الدوليّة المتّصلة باستخدامھا قوّاتھا المسلّحة النظاميّة، يزيد من صعوبة التوصّل إلى تعريف واحد عن الإرھاب.
إزاء ھذا الواقع، تبدو شرعة حقوق الإنسان، بالرغم من الحدود التي أُظھرت أعلاه، الأرضيّة الصالحة لبلورة مفھوم شامل عن الأرھاب، بقدر ما تكتسب أفضليّة على سائر القوانين الدوليّة والإيديولوجيات السياسيّة والدينيّة، لأنّھا توصي باحترام حقوق الإنسان الطبيعيّة والقانونيّة، وتسلّم بالكرامة الملازمة لكلّ إنسان، وحقّه في العيش بسلام وأمن.
***
(*) مدير دار المشرق ومجلة المشرق.
(*) افتتاحية “المشرق” مجلة الإلكترونية (حزيران 2013) ، تصدر مرّتين في السنة عن دار المشرق- بيروت.