ھل محا النسيان أصول الآداب والتھذيب؟ (*)

بقلم: دنيا حشيمه أبي خليل (*)

 adaabلماذا أھملنا الآداب الاجتماعيَّة الحسنة لوقت طويل فتناسينا حقوق الآخرين وأغفلنا الحيطة وما شابه من تصرّفات درج عليھا أفراد العائلات ولم تعد دارجة  à la Mode اليوم لدى الكثيرين منھم.

 أنظرة إلى تلك الأصول في العھود الغابرة القريبة.

 … نعود بداية إلى عھد القياصرة، أي منذ مئة عام حين أُعطِيَ الأطفال القليل من الحقوق: لقد اعتبرھم الراشدون” صغاراً” يرون ولا يسمعون ويتكلمون ببساطة كاملة…  أما الطاعة فكانت سيّدة الموقف: ” ضع يدَيْك فوق الطاولة عندما تأكل!إجلس مستقيماً على كرسيّك!”

 لقد شدّد المربّون على تلقين الصغار أصول الآداب والاحتشام والتھذيب  واللياقة، فردّدوا من دون ھوادة: ممنوع عليكم ھذا التصرّف أو ذاك”…

 ولم يُسمح لھم بتمضية يوم مريح ومَرح خالٍ من الھموم التأديبيّة الملقّنة بصيغة الضمير المجھول on، ما جعل حياتھم صعبة:

” ننحني احتراماً عندما نلقي التحية على شخصٍ ما!”

” لا نتكلّم عندما نأكل”.

” لا تفتح الفتاة رجلَيْھا ولا تظھر ركبتَيْھا عندما تجلس!”

 ھكذا نُظِّمت الحياة الجماعيَّة في أدقّ تفاصيلھا، وشرع الأھالي خصوصاً  والراشدون عموماً، يفرضون القواعد الأخلاقيّة ولا يناقشون أو يستمعون إلى  حاجات الأولاد، بل فرضوا عليھم الطاعة العمياء. ولقد ساد حينھا الرضا الجماعيّ عن التصرّ ف السويّ والجيّد والمقبول، ما جعل الأھل يسعون جاھدين  إلى الحصول على نشءٍ يتحلى بحسن التربية . Un enfant bien élevé.

 أمَّا النتيجة فكانت تتّسم بالضغط والإكراه اللذيْن لازما المنحى التربويّ إبّان السنين اللاحقة، ووضع النشء الصاعد في بوتقة محكمة الإقفال، حيث مُنِع  كلّ تصرّ ف انفراديّ وبورك التكيّف والتطابق العملانيّان.

 بجيل المعجزة الاقتصاديّة في مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الثانية:

 إنتھت الحرب وأصبح جيل المعجزة الاقتصاديّة راشداً، فشرع يقيّم  المخزون التربويّ التقليديّ الموروث من الآباء والأجداد، فأدرك كثرة الثقل  التھذيبيّ على الأولاد، وشكا من الملَلَ والانزعاج من التماثل بالراشدين.

 ظھرت في ھذه المرحلة خطوات رفضيّة للنظام المستتبّ على مستوى مختلف الفئات العمريَّة، من ثلاث سنوات وحتّى الثلاثين، فشھدنا في مرحلة نھاية الستينيّات، كمّاً من الطلاب الشبّان ساعياً إلى التحرّر من Establishment، وإلى تجنيب أطفاله توجيه تربويّ يشبه توجيھه، ولقد تزايد عدد الأھالي  الرافضي الإرغام والحصر والممعنين في إلغاء نظم التصرّ ف الصارم، كما أنّھم تساءلوا عن جدوى انحناء الأطفال أمام الراشدين في القرن العشرين.

adaab 11

 لماذا يتوجَّب على الرجل مساعدة المرأة بارتداء معطفھا في حين تستطيع ھي القيام بذلك في إطار التصرّ ف المعروف بالتقدير الذاتيّ L’autodétermination.  تلك التساؤلات أدّت إلى محو الآداب الاجتماعيّة الحسنة  Les bonnes manières  وإلى التخلص من جميع القواعد الزائدة وغير الصالحة  للاستعمال، وقد أصبح الشعار حينھا: “يُعيَّر بصغر العقل كلّ إنسانٍ يتصرّف  حسب أصول الآداب الحسنة”.

 رُفع ھذا الردم منذ نھاية سنة ١٩٦٠ وحتى السبعينيّات من القرن العشرين، حيث اضمحلّت القيم المؤسسة ذات الأولويّة في المجال التربويّ ، نخصّ منھا:  الإخلاص، والدقّة، والخدمة، والتھذيب والتأديب…

تلك القيم اعتُبرت عائقاً وطيداً للحريّة ولقوَّ ة الفضائل، فحلّت مكانھا أھداف دُعيت بتحقيق الفرديّة، والأصالة، والقدرة على فرض الذات، ووعي الذات المميّزة والفريدة.

 ججيل نھاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين:

 حلّت نھاية ھذا القرن مصطحبة معھا أسئلة حيويّة تتعلق بنسبة الأطفال الذين يحترمون القواعد المعترَف بھا اجتماعيّاً. نتكلم في ھذا السياق على “المؤقت”  L’éphémère   المفروض على المجتمعات المتطوّرة أو التي ھي في  طور النموّ، الساعية في إطار التغيّرات التقنيّة إلى التأقلم البشريّ المناسب، فلقد التصق مكان السكن بمكان العمل وانتقل معه عند انتقاله وتنوّعه.

 أمام ھذا الواقع المستجدّ، أصبح من الضروري التشديد على القدرة على التعلّم لدى الأطفال وإعطائھم رشاقة عقليّة وفكريّة، ومساعدتھم على التأقلم  واستيعاب نماذج تقنيّة ومعلومات جديدة.  ھكذا أصبح ھدف البرامج التربويّة تنمية المرونة العقليّة مقارنةً بالمكتسبات الجامدة، كما سادت ضرورة التنبّه إلى  سلبيّات المعرفة التكنولوجيّة وما ينتج عنھا من تغييرات، تلك المعرفة المصمّمة والمدروسة في عالم مختلف عن عالم الطفل المتلقّن والمنفّذ المفترض، ما يفرض  على الموجّھين التربوييِّن توجيه ھؤلاء إلى التجديد وخلق تغيّرات تكنولوجيّة ھادفة إلى سيطرة الطبيعة وراحة الإنسان، آخذة بعين الاعتبار مواھبه الجينيّة الموروثة وعنصر المساعدة في فرص التعلّم.

 نستخلص في نھاية بحثنا أن التربية تحمل اليوم جزئيّاً مسؤوليّة انتقال القيم  لأنّھا تؤمّن الاستمراريَّة الاجتماعيّة وتجعل جيل الشباب يستفيد من تراكم الخبرة البشريّة.  ويظلّ الصراع القائم بين التصرّف التقليديّ والتصرّف التجدّديّ سيد  الموقف في عمليّة انتقال القيم التربويَّة المعاصرة.

(*) متخصصة بعلم اجتماع التربية

 (* )مقالة واردة في مجلة “المشرق”- حزيران 2013

اترك رد