الجامعةُ والتَّربيةُ على الهويَّة (*)

 بقلم: المونسينيور كميل مبارك

مِن أَدوارِ الجامعةِ الحاضنةِ لليقظةِ الدَّائمة وَوَعي إِشكالاتِ الحداثةِ المُستدامةِ، أَن يَتساءلَ أَولياءُ الأَمر فيها حولَ العلاقةِ بين الثَّابتِ والمتحرِّكِ، في زمنٍ logoغَلَبتْ عليه سرعةُ المتغيِّرات، حتى بات الانسانُ فيه وكأنَّه يُسابقُ أَمرًا يجهلُ مَصدَرَهُ وأَسبابه ونتائجَهُ، وَربَّما لا يعلَمُ عَمَّا إذا كان هو المحرِّك الأَساسُ أَم أَنَّه يتحرَّك بفعلِ حركةِ التَّطوُّر التِّقني الذي انعكسَ بِشكلٍ فَاعِلٍ وَمُؤثِّر على العلاقاتِ وطُرقِ العيشِ وأساليبِ المعرفةِ ومحاولاتِ البحثِ والهويَّةِ الجماعيَّة لِكلِّ أُمَّة، مِمَّا جَعَلَ النَّاس يلهثون في سعيهم لمجاراةِ التَّحوُّلات وَالمتغيِّرات على صُعُدِ الفكرِ وَالتِّقنيَّة، كَمَا عَلى صَعيد الحركةِ المُجتَمعيَّة الَّتي أَخذت تتفلَّتُ من الثَّوابتِ فَتتَّجهُ نَحْوَ مَقَاييسَ جَديدةٍ وَمُتَجدِّدةٍ، وَتتحرَّر مِن الخصوصيَّةِ لِتذوبَ فِي عَولَمَةٍ مُلزِمَةٍ خارجةٍ عَن تحكُّم الفَردِ بِأَساليبها.

أمام هذه اللوحة المائعةِ تقفُ الجَامعةُ، وهي الَّتي غَالبًا مَا تَرَى فِي دورِها التَّربويِّ، حَصَانةَ الثَّوابِتِ، وَمِنها مُرتكزاتُ الهَويَّةِ، وَحَضَانةَ المُتغيِّر وَمِنْهُ الانثِقافُ والتَّثاقُف. لتَنظرَ وتتأمّلَ في سُبُلِ مواكبةِ التَّيَّاراتِ المتسارعةِ من دونِ أن يسقُطَ مِن يَدِهَا مِقْوَدُ التَّوجيهِ وَمِشعلُ الهداية. لعلَّها تَستطيع أَن تكون بَوْصلةَ الفكرِ مِن دون أَن تَقعَ فِي مشكلةِ الأَفكار المعلَّبة، وَأَن تكون مَوْردَ المعرفةِ من دونِ أَن تَدَّعيَ امتِلاكها، وَأَن تتركَ مفاتيحَ الحِكمةِ فِي أَبوابها، لِكَي يفتحَ ويَدخلَ كُلُّ ساعٍ إلى الحقيقةِ، فَيصلَ الى وعي طروحات الفْكر، بعيدًا عن القوالب الموروثةِ الَّتي اكتسبها، أَوْ قُل، أُنْزِلَتْ عليهِ فقيّدتْهُ حتَّى جّعلتهُ يعتقدُ أَنَّ الحُريَّة في قيودهِ، وَأَنَّها حَضنتْهُ كي لا يذوبَ في مُجرياتِ الزَّمن.

يقول ماكس ڤيبر إِنَّ كلّ جماعة تقوم على معتقدات واحدة، تجعل منها وحدة متماسكة منذ نشوئها، وقد تربط بَيْنَ أفرادِها أَحياناً صِلات القُربى الدَّمويَّة والرُّوحيَّة، وقد تتَّسع هذه الصِّلات إلى أن تنتقل من الميدان الشَّخصيّ إلى الميدان الموضوعيِّ لتشكِّل، بوعي أو بلا وعي، رابطاً عصبيًّا من الصَّعب تفكيكه. كما يذكر المؤثِّرات الدِّينيَّة أو اللغويَّة أو تلك المرتبطة بأرضٍ معيَّنة.

أمَّا أَنطوني سميثA.Smith  فقد وضع ستَّة عناصر مكوِّنة للجماعة الإتنيَّة، هي: الأسم، التَّسلسل بالولادة، التَّاريخ الخاص، الثقافة، المرجعيَّة أَي الأرض التي عاشت عليها خاصَّة في أوَّل نشوئها، وأَخيراً الحسُّ التَّضامنيُّ بين أبناء الإتنيَّة الواحدة.4.jpg-1

أَضف الى ذلك الميتولوجيا والحكايات  والأساطير التي تدور حول واحد أو أكثر من أبناء الجماعة، وهذه تدخل حيِّز الذَّاكرة الجماعيَّة والقيم الخاصَّة والرُّموز، فتغدو كأنَّها القلب النَّابض لحياة كلِّ إتنيَّة.

إنَّ الحدود التي تكلَّم عليها الأنتروبولوجيون، تُشكِّل المصفاة التي تحدِّد الانتساب إلى شعب وليس إلى آخر، كما تشكِّل المِجْهَر الاجتماعيَّ الذي يعرب الدَّخيلَ عن الأصيل، حتى أنَّها تمنع مَنْ في الدَّاخل التَّحرُّر منها والإنخراط في مُجْتمعات أخرى. وهي بالتَّالي تضع حدودًّا بين المجتمعات تكون حائلاً بينها وبين الاختلاط وبناء العلاقات، بل قد تؤدِّي الى التَّصادم.

خير من يمثل شارحي مفهوم الإتنيَّة شرحاً حديثاً معاصراً هو بارت F.Barth، وقد أظهر فعاليَّة الإتنيَّة ودورها في المحافظة على الشَّخصيَّة المميِّزة للجماعة. هذا ويُجمِعُ الباحثون على أنّ مفهوم الهويّة يرتكز إلى ستِّ ثوابت هي: الدِّين، الأرض، التَّاريخ، الاضطهاد، التَّنظيم الاجتماعيُّ، والمصير المشترك. فأين الجامعة من هذه الثَّوابت وأيَّ سُبُلٍ تعتمدُ لتجعل منها عوامل غنىً في مراحل التَّثاقف، وتنفي منها كلَّ دوافع التَّصادم والانغلاق؟

ا – الدِّين:

يقول البطريرك اسطفان الدويهي أنَّ الدِّين بالرغم من كونه عِرْقاً من أَعراق الثقافة الواسعة، غير أنَّه في مسألة تشكيل الهويَّة، يطغى على سائر أعراق الثقافة الأخرى، وقد يبتلعها ليظهر وكأنَّه وحده، يشكل ثقافة جماعة من الجماعات أو شعب من الشعوب. يُفهَمُ من كَلام الدُّويهي أنَّ الهويَّة في المجتمعات التيوقراطية خاصَّة، تنبع من الدِّين وتتَّخذ حدودها ووحدتها من السُّلطة الرُّوحيَّة، وقد تشعر الجماعة بالظُّلم والقسوة، إذا ما ظُلِم رئيسها الروحي. وهكذا يغدو الإيمان ليس فقط مجموعة عقائد يلتزم بها المؤمن الفرد وبالتالي الجماعة، بل يصبح قراراً يرتبط به الشعب، فيصبحُ قدراً تاريخيًّا يربط الأفراد والأجيال برباط الفاعليَّة التَّاريخيَّة، ثمَّ يتحوَّل الى كثافة الوجود، فيأخذ الشعب موقعه ويحدِّد اتِّجاهه، للمحافظة على ذاته بين آفاق غريبة عنه، لا يرى من وجودها إلاَّ دافعاً لحسن قراءة وجوده. هكذا يكون المُعتَقَدُ الإيمانيُّ والقرارُ الدِّينيُّ، نسغاً روحيًّا ثابتاً وصلباً ومتشعِّباً، يُكسب الجماعة صلابةً ويعطيها ثقةً كبيرة بالاِستمرار مهما قَسَتْ عليها الظروف المحيطة بها، كالاِضطهاد والحروب والحصار والضِّيق والعزل والعدائيَّة، أو النابعة من داخلها كالاِنقسام السياسيِّ أو الاِقتتال في سبيل مكاسب داخل الجماعة. لا بل، يتحوَّل الإضطهاد ليشكِّل حافزاً للوحدة حرباً وسلماً، إزاء الهجمات الخارجيَّة عسكريَّة كانت أم ثقافيَّة. فيزداد التَّماسكُ كي تتجاوز الجماعة الأحداث المهدِّدة لوجودها على مرِّ التاريخ.

هذا وقد يصل رابط الدِّين بين الجماعات في مراحل تكوين الهويَّة كلِّها، الى خلق محاور رمزيَّة مرتبطة بالقادة الروحييِّن وأحياناً بالقادة الزَّمنيِّين الذين كان لهم الفضل الكبير في المحافظة على الجماعة الإيمانيَّة الواحدة، وغالباً ما كان هذا الدفاع الذي تقوم به الجماعة، مبنياً على المشاعر الدِّينيَّة التي تخلق عند الأفراد، أقربين وأبعدين، شيئاً من الحسِّ المشترك الذي يغلب العداوة بين أفراد هذه الجماعة، ويتخطَّى الخصومة ويتجاوز كلَّ أسباب الشقاق أمام الأخطار التي تهدِّد هذه الجماعة، أكانت الأخطار حروباً تهدِّد الكيان والمصير، أم هجرات بعثرت الجماعة في أصقاع الأرض.

هذا الحسُّ المشترك يربط الجماعة برُبُط نفسيَّة ومشاعر عاطفيَّة دون أن يكون للمنطق العمل الفعَّال فيها. وهو القادر على أن يجعل كلَّ فرد من الجماعة يعبِّر تجاه أيِّ أمرٍ يصيب الجماعة من خارحها، كالاِحتلال أو القهر الدِّيني، بالأسلوب عينه وأحياناً بالمفردات عينها، تماماً كما يعبِّر أيُّ فرد آخر، قائداً كان أم واحداً من عامَّة الشعب. والأغرب من هذا، أنَّ الحسَّ المشترك الذي يَعْرُب الناس جماعاتٍ جماعات من وسائل تعبيرها عن مواقفها، قبل هذه الموافق أحياناً، يخلق في الأفراد المنتمين الى هذه الجماعة أو تلك، قدرة على المحاججة والمقارعة تُبْنى على سلَّم منطقي، حتى ولو كانت كلُّ أُسسه قائمة على أمرٍ خاطيء وغير مقنع للفرد بالذَّات، غير أنَّ الضَّرورة الدِّفاعيَّة عن الجماعة، تقدِّم الحسَّ المشترك على القناعة، حتى يصل الأمر الى القناعة التي كانت أصلاً غير واردة. وغالباً ما يدافع الفرد عن قيادته الرُّوحيَّة والزَّمنيَّة أمام الأخطار، حتَّى ولو لم يكن راضياً عنها في زمن الطَّمأنينة والهدوء.

الى جانب ما ذُكِر حول دور الدِّين في تشكيل الهويَّة، نقف عند الدَّافع الدِّيني الإيماني الذي يربط الجماعة بمثيلاتها، حتَّى ولو كانت هذه بعيدةً جغرافيَّا عن الأولى، فالرَّابط الدِّيني يتخطَّى الحواجز المكانيَّة والزَّمانيَّة، بحيث تجد الجماعة الرَّمزيَّة نفسها، أقرب الى مثيلاتها دينيًّا خارج البلاد التي تنمو فيها، منها الى الجماعات المختلفة عنها دينيًّا وتجاورها في قلب البلاد. هذا وما كان لدور الدِّين في بنيان هذه الجماعة، كان هو نفسه في مسألة بنيان الجماعات الدِّينيَّة الأخرى. كذلك من الصُّعوبة بمكان أن تتعايش جماعاتٌ مختلفة دينياً في وطن واحد، من دون أن يكون النِّظام السِّياسي الذي ينظِّم هذا التَّعايش، قد أخذ بعين الإعتبار مفاعيل كلِّ دين ودوره في بنيان هويَّة المجتمعات وتحريكها سياسيًّا.

لذا ترى الجامعة دورها التربويَّ التثقيفيَّ بين لُحْمَةِ هذه المبادئ وسُداها فتضع الانسان في مقام الاطِّلاع على سائر الدِّيانات في الإطار الانتربولوجي البعيد عن التَّبشير، انطلاقًا من كون الانسان عدو ما يجهل، كما ترى في دورها الأخلاقي عاملاً أَساسيًّا وفعَّالاً في نشر فضائل التَّسامح وقبول التَّنوُّع وحقِّ الاختلاف وبثِّ روح الحوار ممَّا يجعل إِمكانيَّة التَّلاقي مقبولة وواردة. والهدف من كلِّ هذا في الوطن الواحد، تسهيلُ عمليّة الاندماج وصولًا إلى صَوْغِ قواسم مشتركة بين شرائح المجتمع.

2 – الأرض:

هو النِّداء الذي تُصغي إليه فيدخل قلبك وعقلك ويجري مع همسات الدَّم في أَعراقك، فيناديك وينادي، ولا تعرفُ من أين هو ولا متى يَغفو ولا متى يَطْفو، ولكنَّه يجذبك إِلى حيث كنت وحيث أَنت وحيثُ ستكون، إنَّه نداء التُّراب الذي فيك ومن الأَرض أُخذ. فكيف تجرؤُ على التَّخلِّي عمَّا هو أنت بقدر ما أنتَ هو. هي الأرض التي تبنيها لتبنيك، فإنْ أنت أعطيتها بوعيك فهي تعطيك بلا وعيها، وإنْ انتَ جبلتها بإدراكٍ منك فهي تجبُلك من دون إدراكك. هي أُمُّ كيانك وهويَّتك وانتسابك وعِشقك وهي شعلة الرُّوح في عواطفك وانفعالاتك، ترضى بها قحلًا ومِحلًا وترضى بها خِصبًا وَوَحْلًا وصخرًا وسهلًا. عنها تموت ولها تحيا وكأنَّ الرَّابط بينكما أَقوى من حبِّ الحياة وأحلى.

– الأرض مخزن الذَّاكرة:

تحمل الأَرض في حنايا صخورها وامتداد شعابها وسُهوبها ما يختبئ في لفائف الذَّاكرة من عمرك المتّصل بالذين سبقوك وبالذين يلحقون بك، فيها شقاوة الطفولة وملاعب الصِّبا، وفيها تعبُ الرُّجولة ومنبتُ الأحلام. على ترابها وفي أفياء أشجارها جلسوا وجلسْتَ وأحبُّوا وأحببْتَ وكبُروا وشاخوا ورحلوا وأنتَ انت لأنَّك طربتَ لحفيف ورق الشَّجر وخرير ماء النَّهر وانسياب عطر الزَّهر. ولأنَّك دندنت تراتيلك وأُغنياتك مع حنينِ القَصَبِ وعصيرِ العِنَبِ والزَّيت الذَّهب. أنتَ أنتَ لأنّك سمعتَ هدهدات أُمِّكَ واختبأت في كَنَفِ جدَّتك وهربت أحيانًا من صوت أبيك لتعودَ إِليه تشمُ رائحة التُّراب والطَّيُّون وتعبث معه تحت مواسم الزَّيتون. أنتَ أنتَ لأنَّ الباقي في ذاكرتك مجبولٌ كما العجين بين كفَّي تلك التي لو لم تَرَكَ عزيزًا على قلبها لمَّا نادتك قائلة يا رزقاتي. فأين أّنتَ اليوم وأين عبقُ الحَبَق من طفحةِ المازوت؟ وأين عبيرُ التَّعب من تهافُتِ الصَّيارفة وعجقة البورصة وهدير المعامل وعزلة المكاتب. أنتَ أنتَ لأنَّ الأرض تحفر في كيانك ما يجعلك أنت، وتكبر فيها كما تكبر فيك. هي اسمُكَ وعمرُكَ ولونُكَ وتعابيرُكَ وأحلامُكَ ودينُكَ ودُنياك، فكيف تجرؤُ على التخلِّي عن كلِّ هذه وتدَّعي أنَّك أنت؟

مسكينٌ من لم يأكلْ خبزًا من قمح بَيْدره ولا شربَ خمرًا من عصير كرمه. مسكين من ينقطع عن جذوره ظانًّا أنَّ رِفْعَته بكيسٍ من المال يحمله ويمشي صامًّا أُذُنيه عن نداء الحجر والشجر مغلِّفًا وجهه بابتسامة خشبيَّة، ليستر حزنًا دفينًا هو لطعم اليُتم أقرب. فالضَّياع والغفلة وانقطاع الرُبُط وطمس المعالم ومحو الذَّاكرة، تشكِّل قطارًا يظنُّ الرَّاكب فيه أَنَّه يصل إلى حيثُ يَصْبو، بينما هو في الواقع رهين محطّة السَّراب. ويسير القطار ولا يترك لك إلّا نفثات الدُّخان تُدمع عينيك ندمًا حين تستفيق.3

تُرى هل وصلَتْ بنا حضارة الاِستهلاك التي غَزَت قُرانا ومدنَنَا وعقولنا وميولنا، إلى أن نرضى بأن نصبح شعبًا هائمًا في الدُّنيا غريبًا على أرض كانت موردَ رزقه ومرتعَ صباه، منقطعًا عن جذوره غافلًا عن ثوابته، همُّه من الدُّنيا متعةٌ آنيَّة يسعى خلفها من بلد الى آخر حاملًا بيته كالسُّلحفاة حصاةً على ظهره، فلا أَمْسُهُ يعنيه ولا أملُهُ يُبكيه ولا طرَبُهُ يُثنيه، مُهمَلًا مذعورًا لا يعرف من ذكرياته إلَّا ما ترميه عليه الأرصفة، وما علِقَ على قوائم الطيور العابرة.

وهل وصلت بنا سذاجة استجداء القروش إلى الإستخفاف بِتَعَبِ آبائنا وأجدادنا الذين تركوا لنا الميراث بركة والرزق سندًا والبيت مستقرًّا؟ وإذا استخفَّينا بعَرَقِهم وقهرِهم، فهل نصل الى الاِستهانة بأرواحهم التي بذلوها دفاعًا عن أرضهم؟ وهل يهونُ علينا تُرابهم الذي امتزج بترابِ الأرضِ فقدّسها شهادةً وطيَّبها عِبادة؟

هنا تقف الجامعة لتواجه التَّهجير الفكريَّ ساعية الى ربط المكان وما يحملُهُ بالزَّمان وما يؤمِّله، فتجعلُ عقلَ الشبابِ ينشطُ بأحلامِ المستقبلِ والرِّزق المأمول، واضعة أمامه حقيقةً تقول: إنَّ الخير الذي حلمَ به السابقون، لا يجوز أن يقع فريسة استهتارٍ عبثيٍّ لأنَّ الأرض عامل أساسيٌّ وأوليٌّ من عوامل البقاء. فإذا ما ذهبت اقتُلِعَ الانْسانُ وبات سهلًا على الرِّياح أَن تحمله حيث لا يريد.

– الأرض أرضان:

غالباً ما تكون الأرضُ أرضين، واحدة للمنشأ وأخرى للملجأ. واحدة للاضطهاد والتَّهديد بإزالة الذَّاتيَّة الكيانيَّة وبالتَّالي إزالة الحقِّ بالوجود كجماعة، وأخرى تكون للحريَّة واستمرار نموِّ الذَّاتيَّة، غير أنَّ هجرة أرضٍ ودخولَ أخرى، لا يمكن أن تتمَّ لولا وعي الجماعة لذاتيَّتها المختلفة عن خصوصيَّات الجماعات الأخرى. أمَّا قيام هذه الذَّاتيَّةِ على أرضٍ محدَّدة في مكان معيَّن يتميَّز عن البلدان المحيطةِ شكلاً وربَّما مناخاً وتضاريس، يدلُّ على أنَّ الأرض تعني للجماعة، المكانَ الحافظَ للهويَّة التي لم يكن بمقدورها التأقلمُ في ما يجري بأرض الإضطهاد، فأتت لتبني عالمها الخاص الذي يشكِّل مجال تحرُّكها ونموِّها وتحقيق ذاتيَّتها، بينما يبقى كل ما هو خارج حدودها غريباً أو عدوًّا يستدعي الحذر بالتَّعاطي وبناء العلاقات. من هنا نستنتج أنَّ الأرضَ قادرةٌ على رَسْمِ الحدود الذاتيَّة وتشكيل المجال الحيوي، الذي لا تشعُر فيه الجماعة بالغربة، وإذا ما حصل هذا التَّمايز، يشعر الدَّخيل أنَّه غريب، وما عليه، سوى الرُّضوخ لطريقة عيش الجماعة واحترام مقاييسها، وإمَّا الرَّحيل. قد يكون للأرض دورها الفعَّال في عمليَّة اكتساب الهويَّة لميزات جديدة عبر مراحل نموِّها، تماماً كما لتداخل الثقافات، غير أنَّ الجماعة الرَّمزيَّة تبني جدراناً ثقافيَّة بينها وبين الجماعات الأخرى، تشكِّل حاجزاً لمن يريد الخروج، وسدًّا لمن يريد الدُّخول.

لذلك نرى في معظم الأحيان تزاوجًا روحيًا بين الجماعة وبين أرض الحرِّيَّة التي ترسَّخت فيها ورَسَمَتْ حدودها. وهكذا تأخذ الجماعة اسم الأرض وتأخذ الأرض اسمَ الجماعة. فيتداخل الأمران، أي ذاتيَّة الجماعة والأرض التي تقيم عليها، بحيث يصبح صعباً على الغريب التَّمييز بين الجماعة وأرضها تمييزاً واضحاً. ويصل الأمرُ عند بعض الجماعات الى كتابة تاريخها ليس في كُتُبٍ من ورق إنمَّا في كتاب أرضها، فتُخضِعُ الأرضَ لحاجاتها وتَجعَلُها أرض عطاء ومكان عبادة، وتسْكُنُ تشعُّباتها بطريقة يسهُل فيها الدِّفاع عن الجماعة، وهكذا لا تعود الأرضُ تراباً وشجراً وصخوراً وينابيع، بل تتحوَّل الى تعبيرٍ عن روح الاستقلاليَّة عند الجماعة ومجالاً ذاتياً أساسياً في سلوكها الحضاريِّ.

من كلِّ هذا جاءت الصُّعوبة القاسية في إمكانيَّة استبدال أرض الحريَّة التي جعلتها الجماعة مقرًّا، بينما سهل عليها استبدال أرض الاضطهاد واعتبرتها ممرًّا. وإذا ما كان هذا الواقع آتيًّا من الماضي فإنَّه ينسحب كذلك على المستقبل، وبالتالي يبدوا خطيراً لا بل مستحيلاً في معظم الأحيان، أن تلغى هويَّة جماعة قبل أن تبعدها عن أرضها التي بنت فيها هذه الهويَّة. والأصعب من اقتلاع الجماعة، إعادة بنيان الهويَّة من جديد، إذا ما ضاعت هذه بين هويَّات الجماعات الأخرى، لذلك تدعو جميعُ الجماعاتِ إلى التشبُّث بالأرض حيث رَبي الفرد وربَّى، حيث زرع وأكل، وصلَّى وصامَ، وفرحَ وحزنَ، وشارك الآخرين همومَهم وحمل وإيَّاهم أثقال الحياة، فعُرِف بهم وعرفوا به، وجميعهُم انتسب الى الأرض التي حُدِّدت عاطفيًّا ورمزيًّا بالاِنتماء إِليهم كجماعة. وبما أنَّ أرض حطِّ الرِّحال وبنيان الهويَّة، كانت، والحلم أن تبقى، أرضَ الحريَّة، تنمو عليها جماعة حرَّة، كان لا بدَّ أن تأتي إليها جماعةٌ قريبةٌ منها تتعايش معها وتلتصق فيها الى حدِّ الوحدة، ممَّا يعني أنَّ الأرضَ كما الجماعة ليست مُقْفَلةً الى حدِّ الرَّفض، بل هي واحة مفتوحة للشبيه قلباً وقالباً، بخاصَّة لمن ينزعون نزعة الحريَّة ويؤمنون بديمقراطيَّة العقل والقلب، قبل ديمقراطيَّةِ النِّظام والتَّشريع.

– الأَرضُ تُراثٌ وحضارة:

تُعلِّمُ الجامعةُ وتؤمن أنَّ الأَرض ميراثٌ وليست سلعةً تجاريَّة، نأخذها بما فيها عن آبائنا وبمن فيها. نملكها وتملكنا، تملك أحلامنا ورؤانا ورؤيتنا. منها نستلهم ونستوحي لنُبدعَ عِمارةً وفنًّا ورسمًا وموسيقى. تُغْنينا ونُغْنيها لنسلِّمها لأولادنا ذِكرًا وذِخرًا. لقد ساهمت في بقائنا وعلينا أن نحرص على بقائها. هي أرض العطاء والعيش الكريم. زرعناها، سقيناها، احتمينا في حناياها وجبالها، تآخينا مع وعرها وصخرها، فاستطعنا أن نقاوم ونصمد في وجه الاضطهادات والغزوات والحملات، أأتت من النَّاس أم من الطَّبيعة. على تقلُّب فصولها ومواسمها رسمنا خطوط حياتنا وكرّسنا أعيادنا. فهذه سيّدة الزُّروع وتلك سيِّدة الحقلة، وسيِّدة التَّلَّة، وسيِّدة البحر، وسيِّدة الحصن وإلى ما هنالك من أعياد ارتبط اسمها باسم الأرض التي نحيا عليها ونعيش فيها، زرعنا كلَّ ما له صلة بعباداتنا وطقوسنا وممارساتنا واحتفالاتنا. فالقمح لخبز التَّقدمة، والزَّيتون للميرون بكلِّ ما فيه من عطر وطيب، والعنب رفيق القدَّاس. ومن صخورها بنينا بيوتنا ومعابدَنا، ومن عطاياها سكبنا صلواتنا ورفعنا تقدماتنا. ويكفي ان نتأمَّل في أمثال الإنجيل المقدَّس لنُدرك عمقَ الارض في فهمنا لدِيننا، فهنا زارعٌ خرج ليزرع وهناك كنزٌ مخفيٌّ في حقل، وبين هذا وذاك، تأتي ورقة التِّين لتدلّنا على قدوم الرّبيع، وكيف ننسى أنَّ الحصاد كثير والفعلة قليلون. لهذه الأَرض غنَّينا ونظمنا المواويل والقصدان، وبكينا على فراقها حين هاجرنا وهجرناها، ولها رقصنا وطربنا فرحًا حين عُدنا ورأيناها. فإذا بلبنان يغدو قطعة سما، “وجبلنا بدمنا ترابو جبلنا”، وإذا ما أمطرت السماء فلكيْ “يزيد موسمنا ويحلى”.

على أرضنا في لبنان زرعنا في كلِّ قرية كنيسة أو معبدًا، وزيَّنا أعيادها بأغصان الزيتون سلامًا ننشره بين كلِّ من عاشوا معنا وعاشرونا إلى أيِّ دين أو مذهب انتموا. حملنا رسالة المحبَّة في أقسى أزمنة المحن والصعوبات إيمانًا منَّا بأنَّ الاخوَّة الإنسانيَّة تجمع ولا تفرِّق، وأنَّ الأَديان إنَّما أُنزلت هداية للنَّاس وليس تضليلًا.1

ومن الأرض أتت حكمة الأجيال والتَّجربة الطَّويلة، بالأمثال الشائعة التي تنمُّ عن خبرة عمليَّة وعلاقة وثيقة بكلِّ ما له علاقة بالتُّراب، فقُلْنَا “الحَجَر مطرحو قنطار”، وقلنا “الأَرض اللي ما بتِتْربَّى وبتربِّي فيها ما في شي بيرْبطك فيها”. “والأرض الما هي ببلدك لا إلك ولا لولدك”.

فهل نغنِّي اليوم لسطوحِ الباطون وللشُّرفات المقفلة بالزُّجاج؟ وهل نَطْربُ لهدير المولِّدات وعجيج الشَّاحنات؟

لقد جعلنا من أرضٍ أحببْناها مهد رسالةٍ نبعها الانجيل وغايتها ملكوت المحبَّة والسَّعادة. فقَلَبْنا العداوة صداقة والبُعدَ تقاربًا والبغضاءَ محبَّة والخصومة سلامًا. همّنا في كلِّ هذا أن نعيشَ حضارة التآخي عملًا بقولِ معلِّمنا: سلامي أُعطيكم، ليس كما يُعطي العالم أُعطيكم أنا.

3 – التَّاريخ:

من أهمِّ أسباب نشوء هويَّة الجماعة ونموِّها وثباتها، بعدَ الدِّين والأرض، هو الوجدان التَّاريخيُّ كما يقول المطران موراني، وهو بذلك منسجمٌ مع الدّْويهي، الذي بحث في الوجدان التَّاريخي وجعله عنصراً متكاملاً، معه يدرك الفرد وبالتَّالي الجماعة الأصولَ المشتركة، فيعرف كلُّ واحدٍ ذاتَه وحدودها ويحدِّد بشكلٍ واضحٍ ما يميِّزه عن غيره وما يجمعُهُ بمثيلِه.

هذا ويؤكد المطران موراني على أنَّ بقاء الوجدان التَّاريخي، وتفاعله مع المتغيِّرات من دون أن يتلاشى في تحوُّلات التَّاريخ الواسع، ويضيع في مسافات الزَّمن، هو العنصرُ الفعَّال في شروط فهم الذَّات وحدودِها، وهو الذي يسمح بالتَّحرُّك نحو كلِّ مُمكنٍ. به تبدو الجماعة أشبهَ بالنَّهر الغزير المياه، الذي تصبُّ فيه روافد حضاريَّةٌ متعدِّدةٌ، فيبتلعها ويتابع سَيْرَه محافظاً على اسمه ومجراه وكيانه، الى أن يَصُبَّ في محيط البشريَّة جمعاء، تاركاً خلفه مساحات طويلةً ثابتةً لا تقوى على محوها مؤثِّراتُ التَّواريخ الخاصَّةِ للجماعات الأخرى. هكذا يكون الوجدان التَّاريخيُّ للجماعة حافظاً لماضيها، بانياً حاضرها وممهِّداً لمستقبلِهَا.

فالوجدان التَّاريخي، كما يراه موراني، مشروط ومحدود، ويعتبره وجوداً أكثر منه وجداناً، مستنداً بذلك الى غادامير Gadamer  الذي يُدْخِل في التاريخ ليس ما نفعلُ أو لا نفعلُ فقط، بل ما يحصلُ معَنَا وهو خارجٌ عن إرادتنا. لأنَّ فهم أحداث التَّاريخ وعيشها أحياناً، لا يُعْتبرُ بانياً للذَّاتيَّة الوجدانيَّة المكوِّنة للهويَّة، بل دخول ما يجري من أحداث وتقاليد، تجمع في بعض الأحيان ماضي الجماعات المتعدِّدة مع حاضر جماعات أُخرى، ممَّا يشكِّل تفاعلاً مستمراً يؤثِّر الى حدٍّ قليلٍ أو كبير، في الوجدانيَّة الذَّاتيَّة لشعبٍ من الشُّعوب.

أمَّا جماعة فلسفة الأنوار الأوروبيَّة عامة والفرنسيَّة خاصَّة، فتعلِّم أنَّ الإنسانَ قادرٌ على التَّحرُّر من جميع المؤثِّرات السَّابقة لبناء ذاته الفرديَّة التي تنعكس على الجماعة، علماً أنَّ جماعة الأنوار لا يؤمنون بالهويَّة الجماعيَّة، ويشدِّدون على أنَّ الفرد هو أساس المجتمع وأنَّ العلاقات هي نتيجة عقود بين أفراد عقلاء وأحرار، وبالتَّالي بإمكان كلِّ واحد منهم، حلّ هذه العقود ليعود ويرتبط بعقود جديدة، قد تكون متضاربة مع تلك التي تخلّص منها، ما يجعل كلَّ واحد وكلَّ شعب، يقبل بالاختيارات الجديدة وبالاختيارات التي تدخل صلب تكوين ثقافته وتنضمُّ الى دائرة هويَّته، ذاك أنَّ الهويَّة تُبنى مع الزَّمن وتنمو في أحداث التَّاريخ وتتحوَّل وتتلاشى في الزَّمن الأَرحب. وهذا الأمر منافٍ لبنيان الهويَّة الجماعيَّة أو الذَّاكرة المشتركة التي تُظهر بوضوح حدودَ الجماعة وتميِّزها عن غيرها.2

لذلك نستطيع القوْلَ إنَّ الفرقَ شاسعٌ بين الهويَّة وبين الجنسيَّة، لأنَّ هذه الأخيرة تُكْتَسَبُ أحياناً بمجهود شخصي خاضع لقوانين محدَّدة، أمَّا الهويَّة فهي تيَّارٌ نولد فيه وننمِّي ذاتنا في معطياته، كسائر الأفراد الذين يشكِّلون هذا التَّيار، دون أن يفقد الإنسان ذاته التي تعبِّر عن فرادة الشخص البشريِّ، وهي التي تسمحُ بعضَ الأحيانِ بكسرِ أطواقِ الثَّقافة الجماعيَّة للتَّحرُّر ودخولِ المجتمع البشريِّ العام، الى زمنٍ يعود فيه الشخص لكسب ما يجعلُهُ من جديد، من هذه الجماعة وليس من تلك.

من كلِّ هذا نُدركُ أنَّ هناك فاعليَّة خفيَّة تحمل الأحداث البارزة وتعطيها معناها الحقيقيَّ، الذي غالباً ما يكون غير المعنى الظَّاهر. وإذا توصَّل الإنسانُ الى اكتشاف هذه القوَّة الخفيَّة يصبح قادراً على تجاوز الأحداث وتخطِّي الجمود، ليعود من جديد الى مرحلة الحركة الجماعيَّة التي تخلُق أُطراً شبيهةً الى حدٍّ كبير، بتلكَ التي أوجدَتْها أحداث التَّاريخ السابقة، فتعود معها الجماعة الى البروز بفعاليَّة، وتُثبت أنَّ كلّ المتغيِّرات أعجز من أن تمحو ذاكرة الشعوب.

هذا وبالعودة إلى هيغل Hegel حين تحدَّث عن التَّقليد «الجوهر»، نرى أنَّ وجود الجماعة ونموَّها وتطوُّرها وبقاءَها تلك الجماعة الثقافيَّة التي تَمحورَت حول الدَّين والأرض، تستند الى التَّاريخ الذي يعنيها مباشرة ويحدِّد سلوكها الذَّاتيَّ الدَّاخليَّ والخارجيَّ، بالتَّعاطي مع الجماعات الأخرى. وهذا يُخالفُ فلسفة الأنوار والمثاليَّة (الإيدياليَّة) الألمانيَّة، التي تعتبر أنَّنا نستطيع أن نضع ذاتنا في التَّاريخ الذي بنيناه ونبقى فيه مستعيدين من الماضي ما يرسِّخ هويَّتنا في الحاضر، بينما يتوافق مع غادامير Gadamer في هذا الموضوع حين عبَّر عن أنَّ فعل التَّاريخ محدودٌ ومشروط.

أَمَّا البطريرك الدويهي  فيرى كما أسلافه ومن أتى بعده أنَّ التَّاريخ ذاكرة الحياة، كونه مدفونًا في عمق أعماق الجماعة وأفرادها. فهو بالتَّالي ليس تاريخاً جامداً متحجِّراً وميتاً، بل هو اختبارٌ دائمٌ واختمار تأمليٌّ لِمَا كان وما قد يكون. هذا التَّاريخ لم ينتهِ مرَّة ولم يبدأ مرَّة، إنَّما هو بدايات ونهايات متعدِّدة، تتخلَّى فيه الجماعةُ في كلِّ مرَّة عمَّا يموتُ ويُميتُها، لتعودَ وتنطلقَ وتستمرَّ. وغالباً ما يكون الجانب المائت من التَّاريخ هو ذاك الزَّمن التي تتداخلُ فيه رغبات الأغراب، الذين هم من خارج الجماعة، مع الحراك الخاصِّ بهذه الجماعة، فيخلقون مناخاً من الإشكالات أكثر ممَّا يسعون الى إيجاد وسائل للحلول. وقد يخلق هذا التدخُّل عيوباً في قادة الجماعة وشرائحها، فيقعون بسياسة الإرتجال وعدم التنسيق والمصالح الفرديَّة. وهذا ما يجبُ إصلاحه في كلِّ مرَّة على ضوء التَّاريخ والأرض والدِّين والحسِّ المشترك.

4 – الإضطهاد:

يعتبر المؤرِّخون أنَّ الإضطهاد فاصلة من فواصل التَّاريخ وهذا صحيح، إلاَّ أنَّ بعض الانتربولوجييِّن يرغبون في أن يفرزوا للإضطهاد مكاناً مميَّزاً في هذا التَّاريخ، لأنَّه يشكِّل بحدِّ ذاته مِهمازاً نافراً ليقظة الجماعة والتشبُّث بهوَّيتها، خاصَّة إذا أصاب هذا المهماز دينها أو أرضها أو عرضها. فالإضطهاد حين يشْتدُّ ويأتي من خارج الجماعة بالطَّبع، أي من الجماعات الأخرى المتميِّزة هي أيضاً، أرضاً وتاريخاً وديناً، يهدف الى زوال هذه الجماعة كلِّيًّا، وذلك بالوسائل القهريَّة التي تتطوَّرُ وتَشتدُّ، كلَّما تشبَّثتِ الجماعة بذاتيَّتها. لذلك يشكِّل الإضطهاد عاملاً من عوامل الذَّوبان إمَّا عبر التَّهجير والهجرة، وإمَّا عبر الإرتداد عن الدِّين ودخول دين المضطهِدِين القادمين، وإمَّا عبر التَّزاوُج القسريِّ، فينتهي الأمر بالجماعة المغلوبة إنحلالاً وانصهاراً.

يمكن القول إنَّ الحدود الفاصلة اجتماعيَّا، بين جماعة رمزيَّة وأخرى، ليست نتيجة التَّوالد أي ليست طَبَعيَّة في كلِّ جماعةٍ، بل مكتسبة من خلال العلاقات الاجتماعيَّة، فهي تقوى وتشتدّ في كلِّ مرَّة تتعرَّض الجماعة الرَّمزيَّة لخطر الزَّوال أو الذَّوبان، وهذا ما يجعلها تحافظ على رمزيّتها ومادِّيَّة كيانها، كلَّما تعرَّض وجودها للاهتزاز أو التَّهديد أو الإنحلال. من هنا نستنتج أنَّ لحدود الجماعة الرمزيَّة تأثيرًا كبيرًا بل أساسيًّا على علاقات هذه الجماعة مع الجماعات الأخرى، وهي بالتَّالي كما الهويَّة، تُعْرَفُ أكثر وتبرزُ بوضوح، في أزمنة الشِّدَّة.5

أمَّا إذا اشتدَّ ساعدُ الجماعة المُستَهْدَفَةِ وصمدت أو تغلَّبت على الجماعات الأخرى، فيزداد بروزها كجماعةٍ محصَّنة مستقلَّة ذات صفاتٍ متميِّزة، وتفرزُ ذاتيتَّها عن الذَّاتيَّات الأخرى، ممَّا يسمح لها بالعيش طويلاً وبالثَّبات في وجه التَّحوُّلات التَّاريخيَّة الخطيرة، كما جرى للجماعة الدِّينيَّة المسيحيَّة بعد الاحتلال العربي وانتشار الدَّعوة الإسلاميَّة باللين حيناً وبالشِّدَّة أحياناً. أو كما حصل مع الجماعات البلقانيَّة التي عاشت مراحل طمس الهويَّة أو التَّذويب العرقيِّ تحت ضغط النِّظام السوفياتيِّ، وما لبثت أن ظهرت كلُّها بعد انهيار هذا النِّظام، وعادت الى الحالة المجتمعيَّة ذات الهويَّات المتعدِّدة والعرقيَّات المختلفة التي كانت قبل خضوعها للنُّفوذ الرُّوسيِّ والسوفياتيِّ. وإذا شئنا تعداد الأمثال الكثيرة المطابقة لهذا النَّمط، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، أقباط مصر، مسيحيِّي جنوب السُّودان قبل الانفصال، الإسبان تحت الإحتلال العربي، تيمور الشرقية في أندونسيا، مسلمو الشيشان والى ما هناك من الأمثلة على مساحة الكرة الأرضيَّة.

الى جانب التشبُّث بالهويَّة يخلُقُ الاِضطهادُ روحَ العنفوان ويشيعُ نَفَساً من الحرِّيَّة، يجعل الجماعةَ التي تقوى على الإضطهادات المتكرِّرة والمتنوِّعة، مَلْجأً لجميع طالبي الحريَّة في محيطها، وسنداً لجميع الجماعاتِ التي تتعرَّضُ لمثل ما تعرَّضت له الجماعة الفائزة. ويزيد هذا العنفوانُ من محاولات إثبات الوجود عسكريًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، فتشكِّل الجماعة توازناً، ما كان ليكون لولا محاولات اضطهادها الَّتي باءت بالفشل عبر التاريخ.

إنَّ الجماعة التي زاد الاِضطهاد تحصينَها وغدت ملجأً لطالبي الحرِّيَّة، تقبلُ جميع الدَّاخلين إليها، شرط ألَّا يخرجها هؤلاء الدَّاخلون عن ثوابتها، لأنَّها ترفض عن وعي أو من دون وعي، كلَّ ما يشكِّل خطراً على ذاتيَّتها الموحَّدة، ممَّا يوحِّد توحيداً شبه كامل، بين الجماعة وبين تاريخها وهويَّتها. هذه الوحدة تجعل من الدُّخلاء يذوبون أفراداً وجماعاتٍ في الحالة الرَّمزيَّة لهذه الجماعة، فيغدوا أبطالُها أبطالَ كلِّ الدَّاخلين وكذلك معتقداتها الأساسيَّة، حتَّى أنَّ بعض الدَّاخلين إليها يحوكون الأساطيرَ حول ثوابتها، فتزدادُ مِنعةً بهؤلاء كما يزداد هؤلاء حماية بها.

أمَّا الفرق بين التَّاريخ كزمن مليءٍ بالأحداث، وبين الاِضطهاد بالذَّات، فيظهر في أنَّ الاِضطهاد يفترض العيش والمشاهدة والمشاركة ومعرفة العادات واللغة والمعتقدات، بينما يبقى التَّاريخ في كثير من فواصله بعيداً عن هذه الأمور الحياتيَّة. لذلك نَقول: لا يستطيع أن يكتشفَ معنى التَّاريخ الحقيقيِّ إلاَّ أبناؤه، تماماً كما المؤرِّخ الصادق هو الذي يعيش الحدث قلباً وعقلاً وإِحساساً، وليس من يقرأ عنه أو يحفُرُ في مقالع الأرض ليجد الدَّلائل على أحداثه.

هكذا يكون الاِضطهاد فاعلاً يتكرَّر في مراحل هيكلة الهويَّة، وإن كان هذا الأمر بحاجة الى تحليل شامل من أجل إيضاح السُّبل المؤدِّيَة الى هذه الهيكلة في الاِضطهاد وخارجاً عنه، لأنَّ مثل هذه المراحل القاسية تدفع بالجماعة، ليس الى تجريد جزئيَّات محسوسة ومُعاشة في أحداث التَّاريخ، إنَّما الى إيجاد نوع من الكلِّيَّة المجرَّدة التي تجمع في كيانها جميع الجزئيَّات المعبَّر عنها بالأحداث. وهكذا تكون الكلِّيَّة المجرَّدة نوعاً من تجلِّي الرُّوح بحسب التَّعبير الهيغلياني، لأنَّها ليست كلِّيَّة بمعنى الإتِّساع والشُّمول، بقدر ما هي دخولٌ نحو العمق الأعمق، الذي لا يُستخلَصُ من الجزئيَّات أو الأحداث، وإن شئتَ قُل ما يتحقَّق فيها ويتجسَّد. عبر هذا التَّجريد تصل الجماعة الى وَهَج الذَّاتيَّة الجماعيَّة التي هي أوسع من الحدث وأقوى من الأفراد وأبقى من التَّحوُّلات، ومع هذا الوهج تبلغ الجماعة مرحلة عدم الوجود كمجموعةٍ من الأفراد، بل يكون وجودُها حضاريًّا له مقوِّماتٌ مميَّزة تُعْرَف بروحِ الشَّعب. لذلك قلت إنَّ الأَمر أقرب إلى فكرة تجلِّي الرُّوح عند هيغل.

5 – التَّنظيم الإجتماعيُّ:

إِنَّ جميع مكوِّنات الهويَّة التي تولِّدها وتنميها وتستمرُّ بها، تسقط إذا لم تتحصَّن بتنظيم اجتماعي راسخ ومبني على أُسس أقوى من الأمور العابرة المتغيِّرة، وأحد أهمِّ سُبُلِ التَّنظيم هو ذاك المبنيُّ على حقائق الإيمان، لأنَّها تتجاوز التَّحوُّلات وتتخطَّى الأرضيَّات لتصل الى العالم الآخر. أَقولُ هذا من دون أن أُنكر دور النُّظم السِّياسيَّة المتعدِّدة، مهما كان توجُّهها. غير أنَّ هذه النُظم تتبدَّلُ ويُحْصَر عمرها بالزَّمن مهما طال. والدَّليل تلك الأمبراطوريات التي عاشت مئات السِّنين، والدِّيمقراطيَّة التي كادت تقطع الرُّبُط بنشأتها، والشيوعيَّة والليبراليَّة وما الى هنالك من نُظُمٍ تتحوَّل وتتبدَّل وتزول، وتبقى الهويَّة، خاصَّة تلك الناتجة عن الدِّين والتَّاريخ المشترك المرتبط بالمعتقدات الإيمانيَّة.

وإذا ما كان التَّنظيم الاِجتماعيُّ ضروريًّا لاستمرار الجماعة وحفظ الهويَّة، فلأنَّ الدَّلائل التَّاريخيَّة على انهيار الأمبراطوريَّات وتفكُّك الجماعات وذوبانها في محيطها الواسع، غالباً أو دائماً ما كان نتيجةً لخللٍ في التنظيم الاِجتماعي، أو الاضطراب في أسس هذا التَّنظيم. وإذا كان التَّنظيم القائم عن المعتقدات الإيمانيَّة والهيكليَّة البنيانيَّة للمؤسَّسات الرُّوحيَّة، هو الأبقى، فلأَنَّ الوعود التي تَعِدُ بها العقائد الآتية من نتاج العقل البشريِّ وحدَهُ بمعزلٍ عن الثَّوابت الدِّينيَّة، غالباً ما تؤدِّي الى الفشل، أو تنتهي بانتهاء مطلقيها، أو لا تعمِّر طويلاً بسَببِ ظهور قوى تقاومها أو نظريَّات جديدة تتأقلم معها الجماعات فترفض سابقاتها.8

أمَّا الوعودُ التي تعطيها المعتقدات الإيمانيَّة القائمة على مرتكزات دينيَّة راسخة في ضمير الجماعة وقلبها وعقلها، فتتجاوز حدود الأرض والزَّمن المعروف الى ما بعد هذا العالم المرئيِّ وغير المرئيِّ. ناهيك عن أنَّ معظم هذه المعتقدات والممارسات تنتقل بالوراثة والتَّربية البيتيَّة من الآباء الى الأبناء، قبل أن تصل الى مرتبة القناعة العقليَّة، إذا كان لهذه دورٌ واضحٌ في هذا الميدان.

هذه المرتكزات التَّنظيميَّة تجعل من الحفاظ على الدَّيمومة والاِستمرار عند الجماعة، هاجسها الدَّائم، وإذا ما استمرَّ هذا الهاجس، يتفرَّع في خطوط الصمود الأساسيَّة، كالوحدة والقوَّة مادِّيًّا وروحيًّا، والتَّمايز الواضح عن سائر المجموعات، لأنَّ عدم التَّمايز، وعدم وجود الحدود الواضحة، يكون سبباً للتَّفاعل العشوائي وبالتَّالي لاكتساب عاداتٍ ومعتقداتٍ بعيدةٍ عن الأصالة، وربَّما أدَّى ذلك الى تشعُّب الجماعة، وانخراط شُعَبٍ منها في الجماعات الأخرى، للسَّبب الذي ذكرناه ولأسباب أخرى منها النُّفوذ والسُّلطة والحركة الاِقتصاديَّة، وأهمُّ هذه الأسباب التَّراخي في سُلَّم القيم الموروثة والاِبتعاد عن هذه الوحدات الأخلاقيَّة السُّلوكيَّة، التي تسهِّل عمليَّة مرور كلِّ غريبٍ دخيلٍ من المُكتسبات المفكِّكة للهويَّة. وخيرُ وسيلة دفاعٍ ضدَّ هذا الخطر هو التَّنظيم الاجتماعيُّ الراسخ والقاسي والذي يغربلُ كلَّ طارئة ويراقب كلَّ تسرُّب حضاريٍّ.

هنا يأتي دور الجامعة في مسألة التَّثقيف الدِّيني، لِتُصلِّت الضَّوء على القيم والفضائل التي تنادي بها الدِّيانات، ليستنير العقل بها وينعكس نُضجه على سلوكه مع نفسه ومع الآخرين، مدركًا أنَّ الاختلاف حقٌّ، وأنَّ التنوُّعَ غنىً، وأنَّ الدِّيانات تهدف الى رقيِّ الفكر الانسانيِّ وانفتاحه، وتبعِدُه عن الانغلاق والتَّقوقع، وكلُّ سلوكٍ يتعارض مع هذا الرُّقيِّ الفكريِّ، يتعارض كذلك مع أصالة الدِّين وأهدافه. وإذا أسْهَمَ هذا السُّلوك المتعارض مع أهداف الدِّين السَّامية، في ترسيخِ تنظيم الجماعة، فلا بدَّ أن يؤدِّي بِها الى الخراب.

6 – المصيرُ المشترَك:

لمَّا كان للأرض في ثوابت تكوين الهويَّة مكانُها المميِّز، حتَّى لو حصل تشتُّتٌ للجماعة في أصقاع العالم، فإنَّ المصير المشترك وإرادة الحياة مرتبطان بهذه الأرض الأم، التي تأخذ مكانها في التَّاريخ فتُعْرَف بالجماعة كما تُعْرَف الجماعة بها. فالمصير المشترك هو الشُّعور بأنَّ كلَّ فرد من هذه الجماعة مرتبط كيانيًّا بجميع الأفراد الآخرين، دون أن تصبح الجماعة مجموعة أفراد، لأنَّها المرجع لكلِّ واحد. فالفرد بذاته غير موجود من دون وجود الجماعة وجوداً تاريخيَّاً. لا شكَّ أنَّ وجوده كشخص بشريٍّ يولدُ وينمو ويتزوَّج وينجب ويموت، هو أمر حاصل. غير أنَّ الوجود الشخصيَّ لا يمكن أن يتفاعل بشكل وجوديٍّ وانتمائيٍّ، فاعل في التَّاريخ، إلاَّ إذا كان وجوداً جماعيًّا.

هذا ما يُنادي به أصحاب المذهب الجماعيِّ Communautariste أمثال ميشال صانديل، الذين يعتبرون أنَّ الفرد يتلاشى إذا حذفنا عنه المكوِّنات الأساسيَّة والفرعيَّة لوجوده العلاقاتي. فلو حذفنا اسمَهُ واسم عائلته وبلدته ودينه ولغته وسلالته الدَّمويَّة وأحداث التَّاريخ التي تعني كلَّ هذه الإضافات، لما بقي من الشَّخص إلاَّ الكائن الوهميُّ على حدِّ قول هيغل. إنَّ المصير المشترك هو تلك الخيوط التي تربط أفراد الجماعة بعضهم بالبعض الآخر، وتربطهم جميعاً الى الأرض الأُم، التي يجب أن تبقى مكان الحج الأوحد الذي يجمع الشَّتات من كلِّ أصقاع الأرض. إنَّه مولِّد الحَنين الى الأرضِ التي تجمع تراكم الماضي الى رجاء المستقبل.

أمَّا الليبراليُّون فيعتبرون أنّ كلَّ الإضافات الثقافيَّة على الفرد، إنَّما هي عرضة للتَّحوُّل والتَّغيُّر والزَّوال، لأنَّها ليست من كيان الفرد. وما الجماعة إلاَّ نتيجة عقود بين أفراد، تجتمع اليوم لتنفصل غداً. وهذا المفهوم الليبراليُّ المرفوض من هيغل، مرفوض كذلك مِن الجماعات التي تُركِّز على الأرض الأم فتُحوِّلها من جبالٍ ووديانٍ وصخورٍ وتراب ٍوأنهارٍ وأشجارٍ، الى مقرِّ الطَّمأنينة والرَّاحة الذي يحلم به الفرد أينما كان في الدُّنيا، ويرغب، حتى بعد الموت أن يرقد فيه.

أمَّا السَّند الموحى به لما نقوله في الأرض والمصير المشترك، فهو ما ورد في الكتاب المقدَّس على لسان النبي أشعيا حين خاطب الأرض قائلاً: إرفعي طَرْفَكِ الى ما حولك وانظري. كلُّهم قد اجتمعوا وأتوا إليكِ. بنوك من بعيد يأتون، وتحملين بناتك في حضنك. حينئذٍ تنظرين وتتهلَّلين ويخفق قلبك وَيَرْحُب. هكذا يخفق قلبُ الأرض بلقاء بنيها، ويخفق قلب الجماعة باحتضان أفرادها، ويخفق قلب الفرد للإثنين معاً.

هذا المصير المشترك الذي ينبت في أرضٍ وينمو فيها، يصبح معها علامة لا تُمحى في التَّاريخ الخاص كما في التَّاريخ الرَّحب. لذلك أوَّل ما يتهدَّد في الجماعة، لكي تتشتَّت وتذوب، هو تاريخها المرتبط بمصيرها المشترك. أنَّه محو الذَّاكرة، السِّلاح غير المرئيِّ الذي يجعل الإنسان يتيه في الدُّنيا دون ثوابت تحدِّد كيانه وارتباطه وانتماءه وتطلُّعاته وأحلامه. من هنا نرى في أحداث النِّزاعات بين الجماعات، محاولات دمج تاريخين أو أكثر في تاريخ واحد، أو ابتلاع زمنٍ كبير لزمنٍ آخر. فمن يرضى بدخول جماعة مميَّزة بتاريخه الواسع، يرضى بها جماعة بلا تاريخ وبالتَّالي بلا مستقبل. وعلى هذا الرِّضى أو الرَّفض يرتكز المصير المشترك لجميع مكوِّنات الجماعة البشريَّة والثقافيَّة وأحياناً الدِّينيَّة. فالقضيَّة الأساسيَّة لأفراد الجماعة والجماعة كَمُركَّب اجتماعيٍّ سياسيٍّ، ليس في أن تبقى أو لا تبقى، إنَّما القضيَّة في أن تبقى على أرضها الأم التي تشكِّل معها وحدةً تكوينيَّة راسخة، تكون منطلقاً ومرجعاً، وتشكِّل قوَّةً انتفاضيَّة أمام كلِّ  تحدٍّ يهدِّد الجماعة بالنُّزوح الشَّامل وبالذَّوبان في التَّاريخ والمدى الواسعين.

خاتمة:

صحيحٌ أَن ليس لنا مدينة ثابتة على هذه الأَرض، وصحيح أنَّ الوصيَّة تقول: إذا اضطهدوكم في مدينة فاهربوا الى أُخرى. ذاك أنَّ مدينتنا الثابتة هي أورشليم السَّماويَّة أي الكنيسة، والكنيسة امتداد من الأَرض الى السَّماء برأسها وأبنائها وقربانها وأسرارها. ولأنَّنا هكذا دُعينا إلى الكمال، وبداية الكمال أَن نبيع ما نقتني ونوزِّعه على المساكين ونتبع السيِّد المسيح.

ولكنَّنا نرى اليوم أراضينا التي ورثناها بركةً عن الآباء والأَجداد تُعرض كالسِّلع عند باب الهيكل، لتُباع من دون أن يكون الهدف توزيع ثمنها على المساكين، والأصحُّ أن أقول: مساكين هم أولئك الذين يستبدلون أوراقًا من النقود تحمل لون الجشع وطعمَ الطَّمع، بميراثٍ يحمل حبَّ الآباء للأبناء كما يحمل فعلَ الثَّبات والصُّمود. يبيعون كمن يبيع مجذافه وهو غريق متروك للأمواج، أو يبيع انتسابه لبيتٍ وأسرة وقرية ووطن، ليغدو من لا مكان، يستسهل الضَّياع فلا يبكي سلفًا ولا يحضنُ خَلَفًا.

هذا هو واقع كثيرين من أهلنا اليوم، كلُّ شيئ محلَّلٌ عندهم للبيع، فبعدما وسَّع أجدادهم رقعة انتشارهم في أنطاكية عامةً وسوريا ولبنان خاصة، من شماله حتَّى جنوبه، بالعرق والصَّلاة والدَّم، وملأوها قِبَبًا وجعلوها حدائق غنَّاء، أمَّنت لهم الطَّمأنينة وكرامة العيش. جاء إغراء المادَّة يوقع الكثيرين في ما لم يقعْ فيه نابوتُ اليزراعيلي حين أقسم للملك قائلًا: معاذ الله أن أبيعك ميراثَ آبائي. يبيعون فيقعون في خطيئتين: خطيئةِ التَّنكُّر لذاتيَّتهم التي لم تكن لولا الأرض التي اجتمعوا عليها وأَجمعوا، وخطيئةِ إهمال المسؤوليَّة الوطنيَّة والإجتماعيَّة التي ينتج عنها مَحْوُ تراثٍ وهدمُ ثقافةٍ واستبدالُ شعبٍ وخسارةُ وطن.

وإذا نادينا بعدم بيع كلِّ جماعةٍ لأَرضِها، فذاك انطلاقًا من رسالتنا التي تبدأُ بالعيش المشترك، وأوَّلُ ما يهدِّد هذه المشاركةَ الطَّمَعُ بالشِّراء مهما كانت النَّوايا والطَّمعُ بالقرشِ السَّهلِ مهما زادت السَّذاجة.

وأَختم وفي بالي صورة قداسة البابا الطُّوباوي يوحنَّا بولس الثاني الذي كلَّما زار بلدًا، كان أوَّلُ أمرٍ يقوم به هو تقبيلُ الأَرض التي نزلها لأنَّها مباركةٌ من السَّماء ومقدَّسةٌ بنظرِ أهلها وبنيها. فهلَّا نجرؤ على بيع أرضٍ أرادنا الله عليها، والتنكُّر لرسالةٍ أُوْكِلَتْ إلينا وهذه الصُّورةُ في بالنا؟

♣♣♣

(*) الكلمة التي ألقاها  رئيس جامعة الحكمة المونسينيور كميل مبارك في حفل  تخريج  360 من طلاب العلوم الدينية، الحق القانوني، إدارة الأعمال، الحقوق، العلوم السياسية والعلاقات الدولية، الصحة العامة، إدارة الفنادق، على مستوى الإجازة والماستر التخصّصي، برعاية ولي الحكمة راعي أبرشية  بيروت للموارنة  المطران بولس مطر وحضوره، ونائبي الرئيس، والعمداء، وأعضاء مجلس الجامعة، والمجلس الاستراتيجي، ومجلس الأمناء، والاساتذة والإداريين وذوي الطلاب…

كلام الصور

1-المونسنيور كميل مبارك يلقي كلمته

2- المطران بولس مطر يصافح مجلس الجامعة

3- بداية الاحتفال

4- الخريجون والعمداء

5- المطران مطر والمونسنيور كميل مبارر والدكتور أنطوان سعد (امين عام الجامعة) يسلمون الشهادات

6-  رئيس الجامعة يسلم الشهادات

اترك رد