بقلم: د. عبدالله بو حبيب
أشار البيان الرئاسي لمجلس الأمن إلى «قلقه العميق من كل الانتهاكات لسيادة لبنان»، ودعا «كل الأطراف إلى أن يحترموا تماماً سيادة لبنان وسلامته الإقليمية ووحدته واستقلاله السياسي ضمن الحدود المعترف بها دولياً».
استند البيان الرئاسي إلى موافقة الدول الـ15 الأعضاء في مجلس الأمن، ومنها الدول الخمس الدائمة العضوية، والأعضاء العشرة المنتخبون من الجمعية العامة كل عامين. بيان كهذا يعني الكثير. انه يعني ان المجتمع الدولي خائف على سيادة لبنان واستقلاله ووحدته، وحرية اللبنانيين وأمنهم ونظامهم. ويعني أيضاً أن المجتمع الدولي يحرص على احترام حدود لبنان المعترف بها دولياً.
لكن البيان لم يشر إلى كيفية تحقيق هذه الأهداف ولا إلى الوسائل التي يجب أن تتبع لتنفيذها، وهذا ما يقلق العديد من اللبنانيين الذين يعتقد معظمهم أن على المجتمع الدولي تحقيق هذه الأهداف، إن كان يعني ما يقول. هذا مفهوم شائع عند اللبنانيين، فلم تستطع التغيرات الدولية ان تمحو الاعتماد على القوى الدولية الكبرى الذي بدأ في القرن التاسع عشر حين قررت ست دول (بريطانيا، فرنسا، روسيا، النمسا، بروسيا (المانيا اليوم) والسلطنة العثمانية) إنشاء متصرفية جبل لبنان التي استمرت حتى العام 1915.
أذكر مرة وخلال زيارات بعض الوفود اللبنانية لواشنطن في ثمانينيات القرن الماضي حين كنت سفيراً للبنان في العاصمة الأميركية، ان العديد منهم كان يطالبني بأن أضغط على الإدارة الأميركية لأن تترجم فعلياً ما يردده الناطقون الرسميون باسمها من انها مع «سيادة لبنان واستقلاله ووحدته». واقتنعت بالطلب. وفي أول زيارة لي للخارجية الأميركية للاجتماع بمساعد الوزير لشؤون الشرق الأوسط، السفير ريتشارد مورفي، طرحت مسألة ترجمة الولايات المتحدة ما تردده دائماً عن هدفها الرئيسي في لبنان. فما كان من السفيرة ابريل غلاسبي، التي كانت تحضر الاجتماع، إلا ان قالت: «هل تريدنا ان نقول إننا غير معنيين باستقلال لبنان وسيادته ووحدته». كان ذلك كافياً لإسكاتي.
يكفي في معظم الأحيان للدول الكبرى ان تعلن موقفها الإيجابي نحو دولة صغيرة حتى تحد من طموح الدول الإقليمية الأقوى. لقد وصفتُ السياسة الأميركية نحو لبنان، بعد انتهاء مهماتي الديبلوماسية، بأنها تراوحت بين «متفرج مهتم ومتورط غير ملتزم. وباستثناء فترة قصيرة فصل فيها الأميركيون مأساة لبنان عن قضية المنطقة (1982 ـ 1983)، اعتبرت واشنطن ان القضية اللبنانية رهينة لمشاكل المنطقة لأن اللبنانيين قبلوا باستعمال وطنهم مسرحاً لحرب الآخرين واستقدموا قوى خارجية لتصفية حسابات داخلية». (انظر كتاب «الضوء الأصفر: السياسة الأميركية تجاه لبنان»).
بكلام آخر، استخلصتُ من تجربتي في سفارة لبنان في واشنطن (1983 ـ 1990)، ان السياسة الأميركية نحو لبنان تتمسك في المدى الطويل باستعادة لبنان سيادته واستقلاله ووحدته، وفي المدى القصير كانت واشنطن تتمنى على اللبنانيين ان يتناسوا آمالهم وأمانيهم وحقهم في السيادة والاستقلال ووحدة بلدهم. لقد وصفتُ يوم ذاك هذه السياسة بـ«الضوء الأصفر». أي ان الولايات المتحدة تتغاضى عن استعمال القوى الإقليمية لبنان، لكنها لا تسمح لهذه القوى بابتلاع لبنان أو جزء منه.
ماذا تغير بين الأمس واليوم؟ لا شيء. بعد حوالي ربع قرن من انتهاء الحرب في العام 1990، ما زال اللبنانيون يراهنون على قوى أو تطورات خارجية لتساعدهم على خصومهم في الداخل، وما زالوا يجرّون بعناد وتصميم بلدهم إلى الصراعات الإقليمية، كأنهم «يفتقدون» وجود الصراعات الإقليمية والدولية على أرضهم و«يغارون» من الأرض السورية «الحاضنة» حالياً لهذه الصراعات.
ونعود إلى بيانات مجلس الأمن وقراراته وتصريحات مسؤولي الدول الكبرى. على اللبنانيين ان يترجموا هذه المواقف كإنذار للحالة السيئة التي وصل إليها بلدهم، ومن ثم عليهم الحوار والاتفاق على «خطة طريق» تعطي لبنان الاستقرار وصيانة السيادة والاستقلال والوحدة، فتكون مواقف مجلس الأمن وتصريحات الدول الكبرى دعماً لموقفهم. يخطئ من يعتقد أن تلك المواقف الخارجية هي خطوة أولى لهذه القوى الكبيرة لانتشال اللبنانيين من ورطتهم. فلا مجلس الأمن ولا واشنطن ولا غيرهما تستطيع ان تفرض على لبنان واللبنانيين الوحدة لدرء المصائب التي يبلون أنفسهم بها.
يذكّرني الوهم اللبناني بالاعتماد على الخارج بما كتبه البروفسور اللبناني والمصري الأصل، شارلز عيساوي، أستاذ الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت وبعدها في جامعة برنستون الأميركية، في مؤتمر عقد في «جامعة شيكاغو» العام 1964:
«إن البروز الجلي للبنان ونجاحه في مجالي الديموقراطية السياسية والاقتصاد الحر، حالا دون التسامح معه في منطقة أدارت ظهرها لكلا النظامين. قد يدّعي البعض ان هذه المخاوف غير موجودة وأن ضمير العالم لن يسمح بأن يحل الأذى ببلد مسالم كلبنان، وبأن جواره لا يريد أقلية متمردة في أوساطة، ومن مصلحته ان يحافظ على لبنان كنافذة على بلاد الغرب. لكن الذي يتابع مسلك السياسة الوطنية والدولية في السنوات الخمسين الأخيرة، يرى ان هذا المنطق هو محض هراء. هناك أقليات قد صُفيت، ونوافذ قد أُغلقت بعنف مدوٍّ، ونادراً ما أحدثت موجة صغيرة في ضمير العالم».
(*) السفير الخميس 25 تموز 2013