بقلم: د.ناتالي الخوري غريب
بين فوضى الحريّة وقيود الالتزام، يغرق الإنسان في هوّة التسآل لتحديد صوابيّة الخيارات المتاحة بين ما يرضي الذات والحفاظ في الوقتِ عينه على تقدير الآخرين، فيقع في فخّالازدواجيّة بين ما هو كائن وما يريد أن يكون، وإذا كانت حريّة تحديد خياراته متاحة على الصعيد الفردي، فإنّ نتائج الممارسة المنطقيّة لتلك الحريّة في بعض المجتمعات الريفية لا بُدَّ من أن تواجه رفضًا وقمعًا بسبب وجود اتّجاهٍ محافظٍ لا نزاعَ فيه، تمليه العائلة والتقاليد والصيت والحسن، ليبقى الأمر الحاسم في اتّخاذ القرار قدرة المرء على استيعاب ماهيّة اختياراته،والإبقاء على رضى الذات، من دون التأثر بكلّ ما يحاك من المحيط، في ظلّ المتغيّرات المتسارعة في المجتمع الذي يعيش فيه.
ورواية”ربيع المطلّقات”، الصادرة حديثًا عن دار سائر المشرق، التي كتبها الثنائي: الدكتورة”نضال الأميوني دكاش” والشاعر الدكتور “نزار دندنش”، 2012، تطرح أكثر الموضوعاتإشكالية وجدلًا في عالمنا المعاصر، وهي حريّة اتخاذ القرارات مع الحفاظ على رضى الذات، لأنّ الموضوع الذي تعالجه الرواية أبعد من الطلاق وآليّاته في ظلّ أنظمة بين محليّة ودوليّة،وأوضاع المطلّقات وحالتهنّ النفسيّة وتقبّل المجتمع لهنّ، وقضيّة نفقتهنّ، على الرغم من أنّ الكاتبين آثرا الانطلاق منه، والإطار العام الذي وضعت فيه الرواية، هو صدمة الازدواجيةوالانتقال التي تعانيها الشخصيّة بين ما ترّبت عليها في المجتمعات الضيّقة المحافظة(الريف أي المجتمعات العربية) وما أتت به رياح التجديد من باب العولمة، (المدينة أي المجتمعات الغربية) التي تختلف اختلافا بنيويًا، وقد صوّر الكاتبان صدمة الانتقال هذه، وتفاصيل حريّة الشكّ في الموافقة الآليّة على تقاليد الماضي، كما عند الأهل، أو السبب الملحّ لتغيير أساليب العيش كما عند الأبناء.
تطرح الرواية قضيّة ثلاث أخوات تطلّقن، مع صديقات لهنّ، والأهم من عرض أسباب طلاقهنّ وآلياته، أسباب زواجهنّ، أو طريقة اختيار شركائهنّ في الحياة، لتكون القدرة على معالجة الموضوع عند الروائيين من هذا الباب.
فالكبرى (زينة بطلة الرواية وعميدة المطلّقات والمدافعة عن حقوقهنّ)، تطلّقت مرتين، وستتزوّج للمرّة الثالثة، لكّنها تطرح أزمة الفتاة الريفية التي فتحت بابها لرياح التغيير والتجديد، فتزوّجت في المرة الأولى انبهارًا بالجديد الآتي من المدينة، لتعاني الخضوع والذلّ والقهر بسبب تربية والدتها الأرملة، فانتُهكت حريّتها بناء على طغيان الالتزام، في ظلّ تربية محافظة، وعدم الاستقلال المادي، إضافة إلى عدم تمتّعها بشهادة جامعية تقيها عوز الأيام والجور، قبل أن تقرّر أن تعود مطلّقة إلى منزل والدتها، بعد أن دفعت شبابها ومالها ثمنًا لطلاقها، بسببتحكّم الرجل بهذه القضايا، فتتحمّل مجدّدا ازدواجيات جديدة، “هي بنت القرية وبنت المدينة في آن واحد، هي أصيلة في عاداتها القروية لكنها تحمل ثقافة المدينة…مع أنّها لم تعد “أمضت سنة في منزل أهلها وتستعجل الرجوع إلى المدينة التي تعتبرها المكان الطبيعي لممارسة نشاطاتها الحياتية والمكان الصالح لتحقيق قناعاتها كلّ حريّة”(ص33)، أمّا طلاقها الثاني فقد تمّ بناء على زواج أُريد له أن ينسي الناس صورة المطلقة، وصور الخبرة المؤلمة السابقة، لكنّه طلاق انتهى بطريقة حضارية بناء على اتفاق الطرفين، لتكمل مسيرتها التعليميّة وتتتسلّح بالعلم، ما يؤمن لها استقلاليّة مادية ورضى عن الذات كما مساحة من الحريّة أكبر.
أما طلاق الأخت الثانية،(مروى) فهو طرح لمسألة الحاجة إلى المحافظة الثقافية باستمرار الالتصاق بنظم حياة محافظة للناس الذين لا يقترن انتقالهم الجغرافي دائمًا بتكيّف ثقافي، فأراد الكاتبان أن يوصلا عبر قضيّتها عقلية الشاب الشرقي الذي تغرّب طويلًا(إلى استراليا)، “جسده ولد في استراليا لكن فكره ولد في الشرق. إنّ الثقافة الشرقية متغلغلة في جيناته ومترعرعة في تفاصيل خريطته الوراثية”(ص78). وما زال يختزل احترامه لعروسه بعذريتها، وبما أنّ الطلاق تمّ على الأراضي الاسترالية، فستخضع شروط الانفصال لغير الأنظمة الظالمة بحق المرأة، وبذلك، “ستعوّض عن خسارتها المعنويّة بمكتسبات ماديّة”، وامّا كونها مطلقة كثرت عروض الزواج منها في بلدها الأم، فلأنها تحمل الجنسية الاسترالية(ص106).
في أسباب طلاق (فدوى) الأخت الصغرى، طرح لموضوع الطلاق وما يرافقه من إشكاليّة حضانة الأطفال، مع تفصيل طريقة زواج تعبّر عن فئة كبيرة من فتيات القرى الطموحاتالمتعلّمات اللواتي يعتقدن أنّهن لن “يدخلن أنفسهنّ في لعبة المواقف”(ص83)”ويتركن الحظ يقرّر مصيرهن، ويتزوجن بلبناني مغترب آت من غرب أفريقيا”حيث يأتي الأهل برفقة ابنهم الأعزب فيدورون معه من ضيعة إلى ضيعة لكي يختار لنفسه عروسًا من أوّل نظرة، ثم يذهب بها إلى أفريقيا حيث تشاركها فيه الأفريقيات هناك”(ص102). وبعد الزواج والسفر، يكون الوضع بما”لا تحتمله إلا اللواتي يسافرن في اتجاه واحد ويقطع عليهن طريق العودة. من حيث ظروفهن بأن يكنّ أميّات تخيفهنّ ظروف ما بعد الطلاق أو يمنعهنّ الأهل من مجرّد التفكير في خيار الطلاق والعودة، خوفًا من ألسنة الناس و”الجرصة”.ومنهن من يفرحن بنموذج العيش حيث البيوت الفخمة والخدم والحراس والسيارات والاموال.”(ص202)”فالرجل في النهاية رجل، فإذا خرج في اول السهرة فانه سيعود في آخرها من دون ان ينقصه شيء.”(ص210).والقضاء على الرغم فعاليته وإعطاء حق الحضانة للمرأة في تلك الدول، يبقى للتلاعبوالالتفاف على القوانين الدور الفعّال بعدم تسجيل اللبناني زواجه هناك، والعودة إلى المحاكم الشرعية اللبنانية.
تأجير الأرحام
ويعالج الكاتبان أيضًا إشكاليّة تطرح نفسها في معرض الحداثة والعولمة، وسبّبت جدلًا إعلاميًّا وشرعيًّا؛ وهي قضيّة تأجير الأرحام الحاضنة ولها تسميات عدة منها: الرحم المستأجرة والأم بالوكالة والبطن المستأجرة والرحم الظئر والمضيفة والأم الكاذبة وشتل الجنين والأم المستأجرة والرحم المستعار والأم بالإنابة؛ أما الأم البديلة والرحم المستأجر فهي التسميات الأكثر شيوعا ،والرحم المستأجر أطلق من باب التغليب، لأن الأغلب في مثل هذه العمليات أن تكون بعوض(1).وقد تناول الكاتبان هذا الموضوع بين العبثية والتجارة غير المشروعة وضرورة القبول بقضاء الله وقدره، أو العطاء بلا حدود، وهنا لا بدّ لنا من أن نذكر رأي بعض العلماء القائلين بأنّ هذا فخّ نصبته العولمة والفضائيات المفتوحة لتحقيق أهداف خبيثة في مقدّمتها محو الخصوصيّة الحضاريّة والدينيّة لبعض المجتمعات وخلخلة قدسيّة الأسرة” لكنّ براعة الكاتبين تجّسدت في إظهار البعد الإنساني للمسألة من دون أن تتزعزع قيمة الأمومة، مظهرين ضرورة الانفتاح على العلم والعقل، مع الحفاظ على الغطاء الشرعي من إحدى المرجعيات الدينيىة المتقدّمة الرؤية والرؤيا، لكنّهما تلافيا الجدل الحاصل في هذه الإشكالية حول إمكانية اختلاط الأنساب ، (لأنّ زينة في الأصل مطلّقة ولا ولد لديها أو زوج). أمّا سوء الظن بها فتلافته بالسكوت عن وضعها وقضاء الأشهر الأخيرة من حملها عند أختها في استراليا. لكنّ الرواية تطرح كيف تكون الأم الحاضنة نافذة لطفلها وتتوطّد علاقتها به، كذا الأم (صاحبة البويضة) التي تهتم بطعامها وصحتها ولكن تبقى للكلمة المبنية على الثقة ضمانة بين الطرفين، طالما أنّها في هذه الرواية كانت لهدف إنساني-وجداني بحت، وتقديرًا لتكوين أسرة متماسكة وليس هدمها، بحثًا وعرضا لكلّ الأسباب والمسبّبات بين الحظر والإباحة.
يبقى أن نقول أنّ هذه الرواية تطرح ثقافة التَّطلُّع للارتقاء بواقع المرأة “فهي ليست النصف الأضعف في المجتمع، بل النصف الاكثر عطاء”(ص218)، ما يتطلّب الصمود في مرحلته الانتقالية عبر وضع معايير أكثر انفتاحًا وتقديرًا للحريّة الإنسانيّة على المستوى الاجتماعيّ، وضرورة التأقلم مع الوضع الجديد، حتى لو جوبه في بداياته برفض المجتمع، والعائلة والزملاء،فطلاق الأخت الأولى كان الأصعب عليها وعلى عائلتها، كذلك اختيارها لتكون أمًّا بديلة، وهي عملية شاقَّة لها مُتطلبات، لعلّ أبسطَها وأصعبَها في الوقت نفسه، الانسلاخُ الكامل من الوضع القديم، والاندماج العضويّ في متطلّبات التحدّيات والسلوكيَّات المستجدّة من دون أن تتناقض مع المبادئ والقيَم، من هنا كان إطلاق مطعم بخور”، في نهاية الرواية كمكان يجمع حركة نسائية تطالب بالمساواة وإعادة النظر في جور بعض الأحكام، فتتلاقى فيها مطلّقات من كلّ الطوائف ومن كلّ المستويات العلمية؛ وما كلمة “بخور”إلّا تعبير عن عطر السمعة الطيبة المرتبطة بقداسة حقّ النساء في حريّتهنّ الإنسانية وامتلاك قرارهنّ بتحديد مسارات توصلهنّ إلى حياة أرقى وأكثر اطمئنانًا واستقرارًا..
وبما أنّ المجتمعات تخضع لمنظومة حركيّة متغيّرة ، تلفت هذه الرواية إلى ضرورة الحدّ من التعاطي في أمور حقوق المرأة من منظور التقاليد الراسخة المقيّدة لدورها وحصرها في سياقات تاريخية واجتماعية محدودة مضى عليها الزمن، بل تدعو إلى تشريع الأبواب أمام كلّ ما يرقّي المجتمعات من دون التفلّت من القيم والمبادئ والوقوع في فخّ الفوضى، وهذا ما يساهم في بناء أسرة متضامنة وتاليًا مجتمع معافى من كلّ تفكّك ودونيّة لأحد أهمّ مؤسّسيه .
1 )قضايا طبية معاصرة ، سليمان الاشقر وآخرون/806
كلام اصور
1- د. ناتالي الخوري غريب
2- د. نضال الأيوبي دكاش
3- غلاف الكتاب