بقلم: راجح نعيم
“العقل لا الغرائز، الوطن لا الطوائف”، كتاب جديد للمفكر اللبناني الدكتور محمد شيا، هو مجموعة مقالات ودراسات مختارة، جمعها ونسقها فجاءت مترابطة مرتكزة على ثلاثة محاور، هي: الوطن، والعقل، والديموقراطية. ثلاثة مفاهيم أساسية وضرورية لتقدم لبنان والعرب، فلبنان كان وما يزال، منذ عهد الاستقلال عصيّاً على الأطباء والطبابة، يجترُّ أمراضه السياسية والاجتماعية في ذاته من دون حلّ، فهو يحتاج اليوم أكثر من أي يوم مضى، إلى كلمة حق، وإلى أقلام رصينة، عاقلة ومتزنة، يتقدم فيها العقل على الغريزة، والاعتدال على الغلو والتطرف، إذ من غير العقل والاعتدال والاتزان لا يبقى وطن، فكيف بتطوره وازدهاره؟
مرتكزات مترابطة
لم يخطئ المؤرخ، وعالم الاجتماع العربي الكبير ابن خلدون، حين وصف العرب، قومه، قبل 600 سنة، بأنهم أهل ارتجال، لا أهل تدبر وصبر وطول أناة، وترجمة هذا الكلام، أن العرب أهل عاطفة وانفعال لا أهل تدبر، أي أهل فكر وعمل! ومن الطبيعي بناء على هذا القول أن تولِّد مجتمعاتنا جمهوراً متعصباً، متشدداً، شوفينياً حتى درجة العنصرية، جامداً، معادياً لكل تغيير أو تجديد حقيقي، وحين لا نقبل التجديد، ولا التنوع، ولا الآخر، في المبدأ، لا يبقى مكان للتسامح في سلوكنا، فغياب التسامح مع الآخر سرعان ما ينقلب إلى تشدد، لا ضد الآخر فقط، بل ضد الذات كذلك، فهل نسأل، بعد هذا، عن التشدد ضد الحرية، وضد المرأة، وضد الأبناء وغيرهم، فكأنما هي رغبة بالانتحار، لا بل الانتحار نفسه.
الكتاب في مجمل فصوله يدافع عن ثلاث مقولات، رتَّبها المؤلف وفقاً لأهميتها: الوطن، والعقل، والديموقراطية. ثلاثة مرتكزات مترابطة إلى أقصى حدود الترابط، يدعو فيها إلى الإصرار على خياراتنا الوطنية، العقلانية، الديموقراطية، الواحدة، والمتنوعة في آن معاً، وإلى الخروج نهائياً وإلى الأبد من كل خيار غير وطني، وغير عقلاني، تقسيمي، مُفَتِّتٍ، أياً يكن عنوانه، أو توهم المبررات فيه.
لقد آن أوان الانتقال، يقول الدكتور شيّا، من لبنان الغرائز إلى لبنان العقل، ومن لبنان الطوائف إلى لبنان الوطن. إن الطائفية هي غريزة لا أكثر، ولا يمكن أن تكون ميزةُ الإنسان هي الغريزة. ميزة الإنسان مُذْ غادر الدوحة الحيوانية هي العقل، لذلك هو إنسان، أي يأنس لسواه لا لقتل سواه، فضلاً عن أن الغريزة لا تبني وطناً بل تهدم وطناً أو أوطاناً، ما يبني الوطن هو البناء على العقل، وجعل العقل هادياً وإماماً في كل صغيرة وكبيرة.
ويتساءل المؤلف بعنوان عريض عن فحوى الطائفية. هل هي جماعة دينية أم جماعة سياسية؟ هل هي نعمةٌ كما يراها بعض حسنيي النية من اللبنانيين، أم نقمة ومجلبةٌ لكل أنواع الفساد والشرور؟
في إخضاعها للتحليل يغدو ممكناً منهجياً وواقعياً التمييز بين ما هو لا اعتراض عليه مبدئياً في الطائفة، وما يجب الاعتراض عليه ونقده وهي (الطائفية). إن الاشتراك في متحد طائفي (ديني) هو حق طبيعي، وبديهي، ودستوري للأفراد والجماعات، وفوق النقاش من حيث المبدأ. لكن تجاوز الطائفة، وبالممارسة الطائفية لهذا الحق (الديني) أو الانحراف عنه، أو الخروج عن أصوله، بفتح الباب لممارسات وتجاوزات وانتهاكات تجعل الطائفة والممارسة الطائفية في موقع التناقض والمواجهة مع نصوص ومضامين إعلان حقوق الإنسان، بدل أن تكون متطابقة معها، وكذلك التناقض الخطير في طبيعة الطائفة والظاهرة الطائفية، بين ما هي عليه وما تدعيه، فتجعل الطائفة تشكيلاً أيديولوجياً، سياسياً، يستخدم الشعارات والرموز الدينية لا لهدف ديني، وإنما لتحقيق أهداف ومصالح محددة في المجتمع، اجتماعية وسياسية وربما اقتصادية أيضاً.
الدين والطائفية
الدين حقيقة ثابتة، فيما الطائفية ظنون وأوهام وأطماع مادية وسياسية متغيرة وزائلة. فكفى إذاً خلطاً بين الطائفية والدين، وبين الطائفي والديني، وآن أوان الخيارات الجريئة المسؤولة أمام اللبنانيين حيال لبنان الراهن المتخبط بأزماته الكثيرة، آن أوان الاختيار بين لبنان الفتنة الطائفية والمذهبية المستمرة، ولبنان المحصن سياسياً واجتماعياً ونفسياً ضد الفتن، وليس هناك إلا الدولة المدنية الديموقراطية، التعددية، بديلاً للدولة الطائفية الحالية، وذلك في إطار عقد سياسي وطني جديد يحل محل اتفاق الطائف الذي لم يكن العلاج الشافي لأدواء اللبنانيين من أزماتهم طوال ثلاث وعشرين سنة حتى الآن، ولن يكون كذلك في المستقبل. إن الدولة الطائفية في لبنان التي هي عصب النظام السياسي فيه قد فشلت في كل ما هو شأن عام، وهي على وجه التحديد:
قد فشلت في إقامة مجتمع متماسك موحد. وفشلت في بلورة قيم مشتركة جامعة، وفشلت في تقديم دولة / عقلانية أعلى من المجتمع، ومحركة وقائدة له، وفشلت في بناء مواطن حديث، مواطن فرد، عقلاني، مدني وليس رقماً في جماعة، وفشلت في بناء المواطنة، أي الرابط العقلاني المدني، وليس المتحد الغريزي، وفشلت في توفير أولى وظائف الحكم والحكومة في العقد السياسي وهو الأمن، فتاريخ الدولة الطائفية على مدى أكثر من مئة عام هو تاريخ الحروب الطائفية التي صارت روتينية من كثرة تكرارها كل نصف جيل تقريباً. وفشلت في بناء الدولة القوية، أي أقوى من الجماعات المكونة لها، وفشلت في تشكيل فضاء داخلي رحب، متسامح، يشجع على تبادل الفهم والتقدير والحوار الخلاق، وفشلت في إطلاق عجلة اقتصاد حقيقي كبير، نشط، يستوعب طموحات الأجيال الجديدة، فلا يهجرون الوطن جيلاً بعد جيل آسفين.
وفشلت أخيراً في إبراز مجتمع مدني غير طائفي ومتحرر من الضغوط على اختلافها، داخلية وخارجية.
ألا يجب بعد هذا، محاكمة هذه الدولة الطائفية – محاكمة عادلة – فيترك لمنظريها أن يشرحوا اللبنانيين، لماذا فشل المجتمع اللبناني المليء بالكفاءات والثروات في أن يبني في قرن ونصف، دولة تقدم لمواطنيها الأمن والاستقرار، وفرص العمل في الداخل، وهوية وطنية فوق أية هوية أخرى؟
لا وطن يبنى أو يرجى إذا كان الداخل إليه أو المقيم فيه ملزماً بأن يمر في الطائفة والطائفية صباحاً ومساءً، وفي كل صغيرة وكبيرة. الداخل إلى الطائفة لا يخرج إلا إلى الطائفية، فالطوائف لا تخرِّج مواطنين.
عصبيات وشوفينيات
مذ حلّت الطائفية قاعدة للحكم في لبنان، خرج الوطن إلى غير رجعة، وغابت معه الوحدة الوطنية، التي كنا ومازلنا ننشدها على غير طائل. من المستحيل أن نبني يوماً دولة حقيقية، حديثة ومتطورة من دون وحدة وطنية حقيقية، أساسها العقل، وسداها ولحمتها الحرية والديموقراطية إذ لا تقدم ولا تطور لفرد أو جماعة أو وطن من دونهما مجتمعتين، فهما صنوان، تؤديان معناهما معاً والغاية منهما متكاملتين، كما في تجارب الأمم والشعوب المتقدمة. لقد بنينا تاريخنا الحديث كله في لبنان على رمال متحركة، أي على عصبيات وشوفينيات، فلم نبن دولةً، ولم نربح وطناً، وها هي دولتنا المزعومة تذوب أمام أعيننا لتمسي طوائفيات متناقضة ومتحاربة. هل ننعى لبناننا الواحد كما عرفناه يوماً وكما نريده أن يكون حقاً، بلداً حضارياً نهضوياً وإنسانياً، هل نتركه يسير كما هو سائر إلى الانحلال والتفكك؟ من ينقذ لبنان من أسر حكامه الممعنين فيه شرذمة وارتهاناً، قبل فوات الأوان؟ لا حَلَّ إلا عند ذوي الإخلاص والعقل، فهل يتحركون؟
أُنَادي ذَوي الإِخلاصِ والعَقْلِ |
هَلُمُّوا إِلى إِنْقاذِ لُبْنَانِ |
|
فَأَنْتُمْ بما تَحْوُونَ من فِكْرٍ |
جَديرونَ في عَدْلٍ وَبُنْيانِ |
|
لَقَدْ سَادَ في لُبْنَانِنا جَمْعٌ |
خَلِيطٌ من الحُكَّامِ حِيتانِ |
|
تَمَادَوا فَلَمْ يُوقِفْهُمُ حَدٌّ |
فَعاثُوا فَساداً ما لَهُ ثاني |
|
نِظامٌ سِياسِيٌّ بلا أُفْقٍ |
عَقِيمٌ، ظَلُومٌ، غَيْرُ إِنساني |
|
فإن لم تَصُونُوهُ قضى غَمّاً |
وَعَسْفاً بِحُكْمٍ جائرٍ جاني |
|
حَرَامٌ عَلَيْكُمْ… إِفْعَلُوا شيئاً |
لَهُ قَبْلَ أنْ يُمْنى بِطُوفانِ |
|
فلا تَتْرُكُوهُ ذاهباً حتماً |
إِلى هَدْمِ أَرْكَانٍ وإِنْسَانِ |
|
أَعِيدُوا له ما كانَ من عِزٍّ |
وَزَهْوٍ بِوَضْعٍ آمنٍ هاني |
|
أقوا، فما من غَفْلَةٍ إِلاَّ |
لها صَحْوَةٌ يَوماً بِوِجْدانِ
|