كلود أبو شقرا
في تناولها لتاريخ مصر منذ ثورة 1919 مروراً بثورة 1923 وثورة يوليو 1952 ونصر أكتوبر 1973 حتى ثورة 25 يناير 2011، جسدت السينما المصرية الوحدة الوطنية بين المسلمين والأقباط، وتعددت النماذج القبطية على الشاشة، كذلك طرحت غالبية الأعمال التي قدّمت في السنوات الأخيرة العلاقة بين المسلمين والأقباط بشكل مباشر وركزت على فكرة التعايش السلمي في المجتمع المصري.
ارتبطت الشخصية القبطية في السينما المصرية بمساحة الحرية الموجودة في كل عصر، ففي عهد الملكية ولغاية بداية عصر أنور السادات لم تكن ثمة حساسية في العلاقة بين المسلمين والأقباط ولم تكن ظاهرة إلا في بعض الأفلام التي كانت طبيعتها تتطلّب ذلك، في ما بعد حاول أنور السادات استخدام تيارات دينية سياسية لمواجهة تيارات يسارية، ما أفرز مدًا متطرفًا انعكس على الأقباط فظهرت شخصية القبطي على الشاشة مشوّشة يتنازعها الخوف والقلق.
في السنوات الـ 15 الأولى من عهد الرئيس حسني مبارك تناولت السينما شخصية القبطي بشكل مثالي والتأكيد على أنّه نسيج واحد وأنّه ليس دخيلا على المجتمع. أما السنوات الأخيرة من عهد مبارك وصولاً إلى مرحلة الثورة وما بعدها فشهدت حساسية نسبية في التعامل مع الأقباط لعدم الاستقرار في العلاقة ونشوب فتنة طائفية، وقد تبنى التلفزيون المصري مبادرات لكتابة أعمال درامية عن الجو الودي والإخاء في العلاقة بين المسلمين والأقباط.
سيطرة اليهود
في بداياتها الصامتة تناولت السينما المصرية شخصية المسيحي في “برسوم أفندي يبحث عن وظيفة” (1923) وهو فيلم كوميدي صامت قصير، يدلّ اسم البطل برسوم على ديانته، كذلك صورة السيدة العذراء التي يعلقها على حائط منزله طوال الفيلم، له صديق مسلم يشاركة في كفاحة في البحث عن وظيفة.
تجاهلت سينما الثلاثينيات والأربعيينات المسيحي ربما لأنها كانت في بدايتها أو لسيطرة اليهود على صناعة السينما أو ربما لأنها فترة لم يكن فيها فرق بين الديانات السماوية الثلاث، فيما في الخمسينيات طفت على السطح بوضوح العلاقة الاجتماعية بين المسلمين والأقباط وردات فعلهم حول الزواج المختلط أبرزها:
“الشيخ حسن” (1951) الذي أثار ضجة لدى طرحه في الصالات ومنع من العرض، لكنّه عرض عام 1954 بأمر شخصي من الرئيس جمال عبد الناصر، وهو من إخراج حسين صدقي وإنتاجه وبطولته، تدور قصته حول زواج الشيخ حسن بلويزا المسيحية ولرفض الذي قوبل به من الجميع، فرزقا بطفل، وعندما تتوفى لويزا من جراء وقوعها من أعالي السلالم، يسلم خالها الطفل إلى والده ليربيه عاكساً بذلك رمز التسامح المسيحي. وفي عام 1954 أنتجت السينما الفيلم الكوميدي “حسن ومرقص وكوهين” ولكن شخصية المسيحى فيه لم تكن محورية.
كلاسيكيات ضخمة
شهدت الستينيات من القرن العشرين ظهور أفلام ضخمة اندرجت ضمن كلاسيكيات السينما المصرية برزت فيها الشخصية القبطية بوضوح في عاداتها وتقاليدها وتمحورت حولها الأفلام من أبرزها:
“شفيقة القبطية” (1962) يرسم السيرة الذاتية لشفيقة القبطية أشهر عوالم مصر في عشرينيات القرن الماضي، وعلاقتها برجالات وباشاوات مصر من المسلمين، ويلقي الضوء علي علاقة ابنها عزيز (المسيحي) بصديقه عارف (المسلم)، وعلى علاقته بابنة الباشا التي تدخل الدير عندما تصلها أخبار كاذبة عن وفاته.
في العام نفسه أنتج فيلم “الناصر صلاح الدين” وفيه عيسى العوام المسيحي قيادي في جيش صلاح الدين الأيوبى المسلم لتحرير القدس من الصلبيبن، والذراع اليمنى له، ويقع في حب لويزا قائدة “الهوسبيتلين” وهم أوروبيون يعملون في مجال الطب وأتوا مع الحملات الصليبية.
“بين القصرين” (1964) سيناريو يوسف جوهر عن الجزء الأول من ثلاثية نجيب محفوظ (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) يسلط الضوء على العلاقة الأزلية بين المسلمين والأقباط ، والهتاف المدوي: “يحيا الهلال مع الصليب” انطلق من حناجر المصريين في أحداث ثورة 1919 وسقوط مئات من المسلمين والمسيحيين برصاص الإنكليز الذي لم يفرق بين مسلم ومسيحي.
فيلم “الراهبة” (1965) يصور علاقة حب بين شاب مسلم يعمل كمرشد سياحي وفتاة مسيحية باهرة الجمال تعمل مضيفة في أحد الكازينوهات وتتطور العلاقة بينهما، ولكن تفاجأ الفتاة بأن أختها الصغري تحب حبيبها المرشد السياحي، فتقرر التضحية بحبها لأختها الصغري وتتجه إلي الرقص والغناء ولكنها في النهاية تعتزل الدنيا وتصبح راهبة في أحد الأديرة في لبنان.
السبعينيات
في السبعينيات، كان اتّجاه الأفلام نحو بطولات وانتصارات أكتوبر التي ظهر فيها المسيحي جندياً في الجبهة جنباً إلى جنب مع الجندي المسلم، في أفلام: “الرصاصة لا تزال في جيبي”، “أبناء الصمت”، “أغنية ع الممر”، وثمة مشهد في فيلم “المواطن مصري” حين يذهب الجنود لصلاة المغرب ما عدا واحد وقف بعيداً ليؤدّي صلاة المسيحيين.
فيلم “الرصاصة لا تزال في جيبي” مأخوذ عن رواية إحسان عبد القدوس، يتناول التلاحم بين المسلمين والأقباط في الجيش المصري قبل حرب أكتوبر وخلالها، خصوصاً بين محمد (محمود ي ياسين) ووجيه المسيحي ( صلاح السعدني) الذي يستشهد أثناء الحرب وتختلط دماؤه بدماء إخوانه من الشهداء المسلمين.
بعد الحرب اتجهت السينما إلى القصص الرومنسية، ففي العام 1976 أُنتج فيلم “لقاء هناك” وفيه يغرم شاب مسلم ملحد بفتاة مسيحية تبادله الحب نفسه، إلا أن اسرتيهما ترفضان فكرة زواجهما فتدخل الفتاة الدير ويتزوج قريبته التي تتعثر في أثناء الولادة، عندها يتساءل كيف يعجز العلم بكل تطوراته عن حل مشكلة ولادة زوجته، وتعرّفه هذه الحادثة إلى الطريق إلى الله.
التسعينيات
في التسعينيات فرضت السينما المصرية مساحة واسعة للشخصية القبطية، ففي فيلم “أمريكا شيكا بيكا” يقع مجموعة من المصريين ضحية لنصّاب ويتوهون في البراري الأوروبية، وعندما يموت أحدهم يصلون عليه صلاة الجنازة عدا شاب يصلي صلاة المسيحيين.
يتناول “الإرهابي” (1994) حياة أسرة مسيحية بالكامل بأدق تفاصيلها، زوجة متعصبة وزوج متسامح وعلاقتهما بجيرانهما المسلمين الذين يخبئون الإرهابي من دون أن يعلموا حقيقته. أحدث الفيلم فور عرضه وقتها ضجة، وهدد الإسلاميون الفنان عادل إمام (الإرهابي) لأن الأرهاب أرهق المجتمع المصري وهدد استقراره.
“التحويلة” (1996 ) تدور قصته حول عامل التحويلة في السكة الحديد حلمي عبد السيد، ويتضح من اسمه ديانته المسيحية، سجنه الضابط ظلماً بعد هروب أحد المساجين ، وفي السجن يتعرف إلى الضابط عمر، وينتهى الفيلم بمشهد مأساوي بمقتل حلمي وعمر واختلاط دمهما على شكل نهر النيل. كذك في فيلم “أرض أرض” (1998) تغرم فتاة مسيحية جميلة بشاب مسلم.
الألفية الثانية
تميزت الأفلام في الألفية الثالثة بإبراز المصير المشترك بين الأقباط والمسلمين ودقت ناقوس خطر الفتنة الطائفية التي هي بمثابة نار تحت الهشيم. يتمحور “كلام في الممنوع” (2000) حول شخصيتين غاية في الصداقة والإخلاص لضابطين صديقين أحدهما مسلم والآخر مسيحي، يدخل أحدهما السجن ويحاول الآخر إيجاد دليل لبراءته. في العام نفسه كان “فيلم ثقافي”، وفيه مشهد كوميدي لأم محمود التي تحضر جنازة أبو بطرس الذي يعمق الوحدة الوطنية في دقائق معدودة، وفي “فيلم هندي” (2003) ترسيخ الوحدة الوطنية من خلال صديقين مسلم ومسيحي يضحي كل منهما بحبيبته من أجل صديقه وأجمل ما في الفيلم أنه قدم العلاقة بشكل غير روتيني وواقعى. وفي السنة نفسها عرض فيلم “الرهينة” الذي يقدّم رسالة سامية أنّ المسلمين والمسيحيين العرب أخوة، ويريد أعداء العرب إحداث فرقة بينهم.
عام 2004 قدمت السينما المصرية “بحبّ السيما” الفيلم الذي رفضتة الكنيسة المصرية وهو صناعة مسيحية خالصة من تأليف وإخراج هاني وأسامة فوزي، يتمحور حول تفاصيل الأسرة المسيحية وتدور أحداثه في فترة الستينيات حول طفل يعشق الذهاب إلى السينما، إلا أن والده المتزمت يحرم السينما والفن… وقد شكلت الرقابة لجنة من النقاد المسيحيين لمشاهدة الفيلم والحكم عليه. أما فيلم “عمارة يعقوبيان” (2006) فيسلط الضوء على نماذج مسيحية أقرب إلى الشر إلى درجة تتفوه فيه هند صبري بعبارة “أنت مش قبطي أنت شيطان متخفي وسط القبط”.
كثيرًا ما تؤدِّي الأزمات بين الطوائف في مصر إلى أعمال عنف، وهذه التوترات بالذات ركز عليها “حسن ومرقص” (2008)، وهو فيلم جريء يتناول العلاقة بين المسلمين والمسيحين بوضوح، والمصير الواحد الذي يجمعهم، ويكمن سر نجاحه التطرق بمهارة إلى موضوع يهدد بالانفجار. أخيراً فيلم “واحد صفر” (2009) والذي تناول إشكالية الطلاق عند الأقباط المصريين.
لكن ما يهمنا هنا أن السينما عندما طرحت قضايا المصريين في القرن الواحد والعشرين كشفت أن الجميع لهم نفس المعاناة، أو يعيشون حكايات متشابهة.
مخرجون أقباط
تزخر صناعة السينما المصرية بمخرجين أقباط ومنتجين وممثلين عملوا علي ازدهار السينما، وأيضاً مؤسسات قبطية، مثل المركز الكاثوليكي الذي يضم أكبر أرشيف منظم لهذه السينما، أشرف علي تأسيسه باحث دؤوب هو فريد المزاوي، وهو غني بمراجع باللغتين العربية والفرنسية، لا تتوفر في المؤسسات الرسمية لوزارة الثقافة.
في نظرة إلي النص السينمائي، أي الحكايات التي تظهر على الشاشة يبدو أنها الشخصيات القبطية، موجودة في الحكايات مثل وجودها في الحياة، تتباين قصصها مع بعضها البعض ومع المسلمين مثلما هي قائمة في أي مجتمع، والأقباط في تلك الحالات هم مواطنون عاديون، لكن سرعان ما تتدخل مسألة الدين إذا حدث ما يبين هذا الفارق بين الطرفين، مثل أن تتولد قصة حب بين طرفين، ينتج عنها تغيير مصائر أشخاص كثيرين..
أغلب هذه القصص السينمائية مستوحي من نصوص أدبية مصرية، كتبها أدباء يؤمنون بحرية العقيدة وقدمها سينمائيون مسلمون تحمسوا للتعامل مع طوائف الشعب كوحدة واحدة، من هؤلاء الأدباء: نجيب محفوظ ، إحسان عبد القدوس، ثروت أباظة ومن بين السينمائيين: حسن الإمام، رأفت الميهي، أحمد ضياء الدين وحسين صدقي…
كلام الصور
1- ملصق شفيقة القبطية
2- ملصق الناصر صلاح الدين
3- مشهد من فيلم الراهبة
4- ملصق بحب السيما
5- ملصق حسن ومرقص