بقلم: المونسنيور كميل مبارك
هو النداء الذي تصغي إليه فيدخل قلبك وعقلك ويجري مع همسات الدم في أعراقك، فيناديك وينادي، ولا تعرف من أين هو ولا متى يغفو ولا متى يطفو، ولكنه يجذبك إلى حيث كنت وحيث أنت وحيث ستكون، إنه نداء التراب الذي فيك ومن الأرض أخذ. فكيف تجرؤ على التخلي عما هو أنت بقدر ما أنت هو. هي الأرض التي تبنيها لتبنيك، فإن أنت أعطيتها بوعيك فهي تعطيك بلا وعيها، وإن أنت جبلتها بإدراك منك فهي تجبلك من دون إدراكك. هي أُمُّ كيانك وهويتك وانتسابك وعشقك، وهي شعلة الرّوح في عواطفك وانفعالاتك، ترضى بها قحلا ومِحلا وترضى بها خصبًا ووحلا وضخرًا وسهلا. عنها تموت ولها تحيا وكأن الرابط بينكما أقوى من حب الحياة وأحلى.
تحمل الأرص في حنايا صخورها وامتداد شعابها وسُهوبها ما يختبئ في لفائف الذاكرة من عمرك المتّصل بالذين سبقوك وبالذين يلحقون بك، فيها شقاوة الطفولة وملاعب الصبا، وفيها تعب الرجولة ومنبت الأحلام. على ترابها وفي أفياء أشجارها جلسوا وجلست وأحبوا وأحببْتَ وكبروا وشاخوا ورحلوا وأنتَ أنتَ لأنك طربت لحفيف ورق الشجر وخرير ماء النهر وانسياب عطر الزهر. ولأنك دندنت تراتيلك وأغنياتك مع حنين القصب وعصير العنب والزيت الذهب.
أنت أنت لأنك سمعت هدهدات أمك واختبأت في كنف جدتك وهربت أحيانًا من صوت أبيك لتعود إليه تشمّ التراب والطيّون وتعبث معه تحت مواسم الزيتون. أنت أنت لأن الباقي في ذاكرتك مجبول كما العجين بين كفي تلك التي لو لم ترك عزيزًا على قلبها لما نادتك قائلة يا رزقاتي. فأين أنت اليوم وأين عبق الحبق في طفحة المازوت؟ وأين عبير التعب من تهافتِ الصيارفة وعجقة البورصة وهدير المعامل وعزلة المكاتب؟ أنت أنت لأن لأرض تحفر في كيانك ما يجعلك أنت، وتكبر فيك. هي اسمك وعمرك ولونك وتعابيرك وأحلامك ودينك ودنياك، فكيف تجرؤ على التخلي عن كل هذه وتدّعي أنك أنت؟
مسكين من لم يأكل خبزًا من قمح بيدره ولا شرب خمرًا من عصير كرمه. مسكين من ينقطع عن جذوره، ظانًا أن رفعته بكيس من المال يحمله ويمشي صامًّا أذنيه عن نداء الحجر والشجر مُغلقًا وجهه بايتسامة خشبيّة، ليستر حزنًا دفينًا هو لطعم اليُتم أقرب. فالضياع والغفلة وانقطاع الربط وطمس المعالم ومحو الذاكرة، تشكل قطارًا يظنّ الرّاكب فيه أنه يصل إلى حيث يصبو، بينما هو في الواقع رهين محطة السّراب، ويسير القطار ولا يترك لك إلا نفثات الدّخان تُدمع عينيك ندمًا حين تستفيق.
ترى هل وصلت بنا حضارة الاستهلاك التي غزت قرانَا ومُدُننا وعقولنا وميولنا، إلى أن نرضى بأن نصبح شعبًا هائمًا في الدنيا، غريبًا على أرض كانت مورد رِزقِه ومرتع صباه، منقطعًا عن جذوره غافلا عن ثوابته، همه من الدنيا متعة آنيّة يسعى خلفها من بلد إلى آخر، حاملا بيته كسلحفاة حصاةً على ظهره، فلا أمسه يعنيه ولا أمله يبكيه ولا طربه يثنيه، مهملا مذعورًا لا يعرف ذكرياته إلا ما ترميه عليه الأرصفة، وما علِق على قوائم الطيور العابرة.
هل وصلت بنا سذاجة استجداء القروش إلى الاستخفاف بتعب أبائنا وأجدادنا الذين تركوا لنا الميراث بركة والرزق سندًا والبيت مستقرًا؟ وإذا استخفينا بعرقِهم وقهرِهم، فهل نصل إلى الاستهانة بأرواحهم التي بذلوها دفاعًا عن أرضهم، وهل يهون علينا ترابهم الذي امتزج بها فقدّسها شهادة وطيَّبها عبادة؟