د. جــودت هوشـيار
بين ليلة وضحاها أصبح أقليم كردستان محط اهتمام العالم وشاغل أنظاره ، وقد يبدو الأمر للوهلة الأولى استثنائيا ، ونادر الحدوث ، حيث لم يحدث قط منذ الحرب العالمية الثانية اجماع اقليمي ودولي حول قضية أو بلد ما مثل ما يحدث هذه الأيام من تأييد المجتمع الدولي بأسره لأقليم كردستان في تصديه لأرهابيي تنظيم ( داعش )، أقوى وأغنى وأخطر تنظيم ارهابي في العالم . ولكن لهذا الأهتمام أسباب موضوعية تتعلق بأمن واستقرار الشرق الأوسط ومصالح الدول الغربية والقيم التي يؤمن بها المجتمعات المتحضرة .
لا يخفي على المتتبع لتطور إقليم كردستان في كافة مجالات الحياة الإنسانية وتحديث المجتمع الكردستاني في السنوات الأخيرة ، ملاحظة قيم التسامح العرقي والديني والمذهبي المتجذرة في الثقافة الكردية، وهذا ما أشار اليه الرئيس أوباما في كلمته التأريخية عندما أجاز تقديم المساعدة العسكرية العاجلة لقوات البيشمركة لصد قطعان ( داعش ) وردعهم عن المساس بأمن وحرية كردستان .
صحيح أن التراجيديا الإنسانية الكبرى التي تعرض لها الأيزيدييون الكرد في مدينة سنجار والحصار الذي فرضه ارهابيي داعش على النازحين إلى المنطقة الجبلية القريبة منها، كان أحد العوامل الأساسية التي دفعت البيت الأبيض إلى اتخاذ قرار عاجل بتوجيه ضربات جوية فعالة الى مواقع الأرهابيين بعد أقل من 36 ساعة من هجوم مسلحي ( داعش ) على حدود الأقليم، ودون انتظار قرار من مجلس الأمن الدولي، كما كان الأمر في بعض المناطق الساخنة الأخرى في العالم التي تدخلت فيها الولايات المتحدة الأميركية عسكريا ( البوسنة ، ليبيا )، ثم اتخذ الرئيس أوباما قرارات لاحقة بمد البيشمركة بالأسلحة الحديثة وزيادة عدد المستشارين الأميركيين في أربيل، والقاء المياه والطعام الجاهز إلى العالقين في جبل سنجار .
وحذت دول الأتحاد الأوروبي حذو الولايات المتحدة الأميركية في تقديم الدعم العسكري المباشر لقوات البيشمركة والمساعدة الإنسانية العاجلة لمنكوبي سنجار، وأبدت دول كثيرة تأييدها ومساندتها للإقليم في تصديها لعدوان دولة داعش الأرهابية نيابة عن العالم بأسره .
ولكن ثمة عوامل أخرى فرضت نفسها على البيت الأبيض في اتخاذ القرار التأريخي بمساندة الكرد ، ويمكن تلخيصها فيما يلي :
1- دفعت الولايات المتحدة الأميركية ثمناً غاليا للأخطاء التي ارتكبتها إدارة الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش، حيث بلغت خسائرها البشرية حوالي ( 5000 ) ضابط وجندي واصيب أكثر من ( 35000 ) آخرين بإعاقات دائمة، وأنفقت مئات المليارات من الدولارات على المجهود الحربي ، لتترك العراق بعد انسحاب قواتها منه، في نهاية عام 2011، في وضع لا يحسد عليه . أي ان كل الجهود الأميركية ذهبت هباءً ، ما عدا استثناء واحد هو أقليم كردستان المستقر أمنيا والمزدهر اقتصادياً.
التجربة الديمقراطية والتنمية المتسارعة في الأقليم نموذج ناجح، حيث أثبت الكرد أنهم أقرب شعوب الشرق الأوسط إلى القيم الديمقراطية والأخلاقية والثقافية للحضارة الغربية، وأكثر استعدادا وكفاءة لتحديث مجتمعهم من أي مكون آخر من مكونات العراق. لقد أصبح إقليم كردستان واحة للأمن والأمان المادي والديني والسياسي في العراق المضطرب وفي الشرق الأوسط عموماً، وسوقا واعدة ذات بيئة استثمارية جاذبة للشركات العالمية، وملاذا لكل العراقيين النازحين والمضطهدين .
هل يوجد في الدنيا بأسرها كيان آخر بحجم اقليم كردستان وبعدد نفوسه يحتضن أكثر من مليون وربع المليون لاجيء من مناطق العراق الأخرى المتوترة ومن شتى الأعراق والأديان والمذاهب ، إضافة إلى حوالى ربع مليون لاجئ سوري معظمهم من الكرد .
الكثير من اللاجئين ينتشرون في العديد من بلدات الأقليم كضيوف أعزاء يحميهم القانون وتقاليد الضيافة الكردية، التي أشاد بها المستشرقون كثيراً في الماضي وكل من زار الإقليم في السنوات الأخيرة من العرب والأجانب .
2- يتمتع أقليم كردستان الغني بالموارد الطبيعية – كالنفط والغاز اضافة الى المعادن الثمينة التي لم تستثمر بعد – بقيمة جيوستراتيجية كبيرة هامة على المستوى الأقليمي والدولي لوقوعه في قلب الشرق الأوسط ، وهو اليوم ، كما كان الأمر في الماضي ممر بالغ الأهمية للتجارة بين بلدان المنطقة. إن وصول داعش إلى داخل إقليم كردستان كان سيؤدي إلى عدم الاستقرار في العراق ومنطقة الشرق الأوسط، ويشكل خطرا على تركيا – العضو في حلف الأطلسي – وإيران وعلى الشرق الأوسط عموماً .
3- لعبت وسائل الأعلام الأميركية والرأي العام الأميركي دوراً ضاغطاً على البيت الأبيض، وفي لفت الأنظار إلى مأساة الأيزيديين والأهمية القصوى لأقليم كردستان، كحجر أساس لاستقرار الشرق الأوسط ، وطالب العشرات من أعضاء الكونغرس ومجلس الشيوخ الأميركي بنجدة الكرد ومد قوات البشمركة بالأسلحة الثقيلة الحديثة اللازمة، لدحر داعش وتطهير كردستان والعراق من رجس هذا التنظيم المتوحش، المجرد من كل القيم الأخلاقية والدينية والأنسانية.
ويقول الصحافي الأميركي البارز فريد زكريا في آخر مقال له إن الشعب الكردي قوة ديمقراطية في الشرق الأوسط وصديق موثوق للولايات المتحدة الأميركية .
وخلال كتابة هذا المقال اتصل بي صديق مسيحي عزيز، هاجر الى الولايات المتحدة قبل حوالي ( 40 ) عاماً ، وهو اليوم يحمل الجنسية الأميركية ورجل أعمال ناجح وعضو بارز في الحزب الجمهوري الأميركي. نقل لي هذا الصديق آراء ومشاعر المواطن الأميركي العادي إزاء اقليم كردستان .
قال إنه استطلع آراء عدد كبير من أعضاء الحزب الجمهوري الذين أبدوا إعجابهم بالتقدم المتسارع في الأقليم الذي تحول خلال سنوات قليلة إلى بلد يسعي للحاق بالحضارة العالمية، وأصبح واحة للأمن والاستقرار والازدهار . وان الولايات المتحدة لن تسمح أبداً لأحد كائناً من يكون، المساس بهذا النموذج الناجح . كما أشاد الأميركيون بشجاعة البيشمركة وصمودهم البطولي أمام الهجمة البربرية لقطعان داعش .
4- انتهجت القيادة الكردية سياسة متوازنة مدروسة ومرنة في التعامل مع الجارتين الكبيرتين تركيا وإيران، حيث استطاعت تأسيس علاقات حسن الجوار والاحترام المتبادل والحرص على المصالح المشتركة معهما في آن واحد ، مع الحفاظ على استقلالية القرار الكردي. وهو انجاز بارز لسياسة الأقليم الخارجية ، إذا علمنا أن تركيا وإيران كانتا على مدى مئات السنين وما زالتا تتنافسان لبسط نفوذهما على كردستان والعراق .
كما نجحت القيادة الكردية في التعريف بالقضية الكردية وكسب كثير من الأصدقاء للشعب الكردي والمناصرين للقضية الكردية في أوساط النخب السياسية المؤثرة في الغرب، واجتذاب الاهتمام الدولي المتزايد بإقليم كردستان الناهض، ولا أدل على ذلك من وجود أكثر من ( 30) ممثلية دبلوماسية في العاصمة أربيل . ولدى الأقليم اليوم علاقات متعددة الجوانب مع عدد كبير من دول العالم.
كل هذه العوامل مجتمعة جعلت التجربة الديمقراطية في أقليم كردستان والاستقرار الذي ينعم به نموذجا يحتذى في وسط منطقة مضطربة وبالغة الأهمية بالنسبة إلى المجتمع الدولي، وجعلت الدول الديمقراطية العريقة تسارع إلى نجدة الشعب الكردي وقواته المسلحة في صراعه الدامي مع دولة الارهاب الداعشية ، هذا الصراع الذي يتوقف على نتيجته مصير الشرق الأوسط بأسره.