الباحث خالد غزال
في كتابه «الأخلاقيات والحرب، هل يمكن أن تكون الحرب عادلة في القرن الحادي والعشرين»؟، (الصادر عن سلسلة عالم المعرفة بترجمة عماد عواد) يقدم ديفيد فيشر بحثاً حول الحرب والممارسات التي ترافقها والنظريات التي أفرزتها حتى الآن، وصولاً إلى سؤال تشكيكي حول إمكان أن تكون هناك علاقة بين الحرب والأخلاق؟ سؤال قديم راهن ومستقبلي، يؤكد التاريخ فيه على انعدام الصلة بين الحرب والأخلاق.
ما تسعى إليه الدول هو مصالحها الاستراتيجية والسعي وراء ثروات اقتصادية، لذا يتركز الاهتمام على تحقيق هذه الأهداف، من دون أي اهتمام بنتائجها على الصعيد البشري والأخلاقي. من يقرأ التاريخ البشري، قديمه وحديثه، لا يقع إلا على حروب اتسمت بأقصى الهمجية وقتل الناس من دون رحمة.
لعل القرن العشرين، بحربيه العالميتين وبالحروب المحلية وبالمجازر المرتكبة داخل الدول نفسها وما يرافقها من تطهير طائفي أو عرقي أو اثني، هذا القرن أجبر العالم على التساؤل عما إذا كان بالإمكان تحكيم بعض القيم الأخلاقية في الحروب تساعد على التقليل من وحشيتها ومآسيها البشرية. أما الهمجية الأكبر فكانت استخدام السلاح النووي في الحرب العالمية الثانية، وهو سلاح لا يزال يلقي بظله على المجتمع الدولي لأن أخطار استخدامه لا تزال قائمة، إما من الدول، أو من خلال الإرهاب الواسع على أيدي منظمات عالمية.
من النظريات التي نجمت عن الحروب ما يعرف بـ”الحرب الـــعادلة” وكيف تطور هذا المفهوم وما ترجمته العملية في القرن الحادي والعـــشرين.
فمقولة الحرب العادلة سبق وأن طرحت في القرن الســـادس عشر وكان لها طابع لاهوتي خصوصاً على يد توما الأكويني. لكن المفهوم حالياً ابتعد عن منــــظومته اللاهوتية، واتخذ منحى سياسياً صرفاً. يشير الكاتب إلى التشكيك الأخلاقي في الحرب العادلة قائلاً: «يمثل التشكيك الأخلاقي تحدياً مباشراً وحالاً للتفكير المتصل بالحرب العادلة. حيث أنه إذا ما كنا متشككين أخلاقياً في مجالات أخرى لتفكيرنا، فكيف لنا أن نكون عقلانيين أخلاقياً عندما نفكر في الحرب؟ فإذا لم تكن هناك قاعدة عقلانية ثابتة للمبادئ الأخلاقية بشكل عام، فانه يحق لنا أن نتشكك في أن توجد مثل هذه القاعدة بالنسبة إلى مبادئ الحرب العادلة على وجه الخصوص».
هل يمكن نشر مفاهيم تثقيفية وتنويرية حول الحرب العادلة؟ سؤال يضعه الكاتب في رسم القادة السياسيين والعسكريين، ويمثل واحداً من التحديات الكبرى للممارسة على الأرض ومدى التقيد بالمبادئ الأخلاقية والإنسانية تجاه العدو الذي يحاربه الجنود.
هل من ضمان لتنفيذ هذا النوع من التوجهات؟ إن تجارب الدول في حروبها تظهر انفصاماً بين توجهات عامة حول قوانين الحروب والإغاثة الإنسانية ومعاملة الأسرى وغيرها من القواعد، هذه الممارسة بدت جلية على الأرض، فما من حرب جرت إلا وكانت الوحشية مرشدها وقائدها. فلا التزام بمقاييس أخلاقية أو إنسانية، بل استثارة لغرائز العنف التي تطبع السلوك البشري في الأصل، وتصل ذروتها في التطبيق في حالات الحروب والمعارك الدائرة. هذه الممارسات لا علاقة لها بتمنيات الكاتب بأن «كل أولئك المنخرطين في قرارات تتصل بالسلم والحرب – سواء تعلق الأمر بالسياسيين أو الجنرالات أو العاملين المدنيين في أعلى المستويات نزولاً إلى الجندي العادي أو البحار أو الطيار رجالاً ونساء – يحتاجون إلى أن يكونوا قد دربوا على مواجهة التحديات الأخلاقية التي يواجهونها وهم مسلحون بالمعتقدات والرغبات والمشاعر المناسبة، وأن يكونوا قد تعودوا على التفكير السليم في ما يتصل بالأمور العملية. وفضلاً عن ذلك فانهم يحتاجون إلى أن يكونوا قد تدربوا في إطار من الطهارة ما يجعل من السلوك الأخلاقي طبيعة ثانية راسخة لهم بعمق، شأنها في ذلك شأن العادات المتصلة بالتفكير والأداء أو تلك المتصلة بالتدريب العسكري للجنود على استخدام أسلحتهم».
أطلقت هجمات 11 أيلول (سبتمبر) عام 2001، على الولايات المتحدة الأميركية، مفاهيم جديدة حول الحرب العادلة، عنوانها «الحروب الاستباقية دفاعاً عن النفس». تحت حجة محاربة الإرهاب، اندفعت الإدارة الأميركية، مستندة إلى تنظيرات المحافظين الجدد، إلى اعتبار أن خير وسيلة للدفاع عن الأمن القومي الأميركي، تقوم في اللحاق بالعدو في عقر داره وشن حرب استباقية عليه قبل أن ينقل حربه إلى الأرض الأميركية. سبق لدولة إسرائيل أن مارست عملياً هذه الحرب، سواء في علاقتها مع العرب والفلسطينيين حيث كانت تتخذ أي ذريعة ولو بسيطة لشن حرب تعتبرها ضرورية لأمنها ومنعاً لاستفحال ما تراه «إرهاباً» من الجانب العربي. وقد شكل الهجوم الإسرائيلي على المفاعل النووي العراقي وتدميره في مطلع ثمانينات القرن الماضي أهم تطبيق لهذه الحرب الاستباقية، في وقت لم يكن العراق في حرب مع إسرائيل ولا يقوم بتنفيذ أعمال عسكرية ضدها.
أسبغت الولايات المتحدة فلسفة على حربها العادلة الاستباقية ضد من تراه عدوها. تراوحت التنظيرات من أن الحرب العادلة هي «حرب حضارات» وفق مفاهيم برنارد لويس وصموئيل هانتنغتون، لأنها تدور بين الحضارة الغربية المتطورة والمتقدمة، وبين حضارات شرقية تتبنى الإرهاب وتمارسه. وتوسعت رقعة العدو المباشر للولايات المتحدة والغرب، فبعد أن كانت الشيوعية العدو المركزي، باتت التنظيمات الأصولية هي العدو الجديد الذي يتوجب على الولايات المتحدة مطاردته. استناداً إلى هذه المقولة، خاضت الولايات المتحدة الحرب في أفغانستان فأسقطت نظام طالبان وأحلت محله نظاماً موالياً لها. وفي عام 2003، واستناداً إلى حجج غير صحيحة بامتلاك العراق أسلحة دمار شامل، قامت الولايات المتحدة ومعها بريطانيا باحتلال دولة العراق وإسقاط نظام صدام حسين وإحلال نظام سياسي جديد، بعد أن حلت الجيش والمؤسسات الأمنية فيه ونشرت الفوضى في أرجاء البلد.
ما يستدعي المناقشة هنا، هو أن الولايات المتحدة قرنت نظريتها في الحرب الاستباقية العادلة على أفغانستان والعراق بشحنة أخلاقية وسياسية، تقول بموجبها أنها آتية إلى هذين البلدين لتقيم فيهما الديموقراطية، وتنقذ الشعبين من ظلم الديكتاتورية. يشير الكاتب إلى التناقض الفاضح بين التبشير الأميركي وبين الممارسة العملية. لعل أفضح تعبير في الممارسة تجلى في عمليات التعذيب الرهيبة التي مورست ضد الأفغان وضد العراقيين، في معسكر غوانتنامو بالنسبة إلى الأفغان وفي سجن أبو غريب بالنسبة للعراقيين. شكلت الاعترافات الميدانية وتقارير لضباط أميركيين في كلا المعتقلين وصمة عار أخلاقية ضد السلطات الأميركية ومسؤوليها العسكريين في البلدين. فحجم التعذيب والطرق التي استخدمت في إذلال وقتل المعتقلين لم تكن تقل وحشية عن الممارسات التي مورست على يد الأنظمة النازية والفاشية خلال الحرب العالمية الثانية.
لقد حسمت الحرب الاستباقية بلا عدالتها ولا أخلاقيتها، ووضعت حدا للمفاهيم والممارســات الإنـــسانية خلال الحروب. لا تترافق الأخلاق مع الحرب، بل هي المناقض المباشر لها. من أجل إنقاذ الأخلاق، لا بد من وضع حد للحروب، فهل يمكن للبشرية أن تصل إلى هذا الحلم الخيالي