احتشد الآلاف في صافيتا لتحية البطريرك يوحنا العاشر، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس الذي يستكمل جولته الكنسية الرعوية للقسم السوري من أبرشية عكار. كان في طليعة مستقبلي السيد البطريرك وزير الموارد المائية السورية بسام حنا، محافظ طرطوس نزار موسى، أمين فرع حزب البعث غسان أسعد، وأعضاء قيادة الفرع ولفيف من الإكليروس والعلماء والمشايخ.
ولدى وصول موكب البطريرك إلى كنيسة القديسين قزما وداميانوس، صدح المستقبلون بالنشيد الوطني السوري، فدخل الكنيسة التي غصت بالمؤمنين، وترأس صلاة الشكر بحضور المطارنة باسيليوس (عكار)، جاورجيوس (حمص)، إغناطيوس (فرنسا)، والأساقفة موسى الخوري، ديمتري شربك، أثناسيوس فهد وأفرام معلولي الوكيل البطريركي.
كذلك حضر سلوان نعمة مطران حمص للسريان الأرثوذكس والياس سليمان مطران اللاذقية للموارنة. وفي ختام صلاة الشكر القى المطران باسيليوس كلمة ترحيبية بالبطريرك، فأكد على أهمية الزيارة وما تحمل من تعزية لأبناء الأبرشية. ومن ثم كانت لغبطته كلمة اعتبر فيها “فيء زيتوننا أكثر دفءً من مواقد الغربة”.
القداس الإلهي
احتفل البطريرك يوحنّا العاشر يازجي بالقداس الالهي في كنيسة مار مخائيل في برج صافيتا، شاركه الخدمة المطارنة باسيليوس (عكار)، جاورجيوس (حمص)، إغناطيوس (فرنسا)، والأساقفة موسى الخوري، غطاس هزيم، أثناسيوس فهد، إيليا طعمة، ديمتري شربك وأفرام معلولي. وقد القى عظة، اهم ما جاء فيها:
“المجد لله على كل شيء. المجد له لأنه خلق الإنسان من أديم هذه الأرض ونفخ فيه من روحه الإلهي. المجد له لأنه أعطانا فرصة اللقاء بأحبتنا رغم قساوة الزمن الحاضر. له المجد لأنه علمنا أن ننفخ رماد التجارب فنتبين وجهه القدوس. المجد له لأنه علمنا أن التجارب، على بالغ مرارتها، تصقل معادن الناس وتزيدهم التصاقاً إلى صدر الرب المعزي. له المجد والشكران لأنه أعطانا فرصة لقائكم، هنا في صافيتا، في مشتى المحبة، جارة طرطوس، لؤلؤة أبرشية عكار وعروس ساحل سوريا…”.
ثمّ أقتبس عن سلفه البطريرك إغناطيوس ما يلي:
” أنتم هياكل الله الحية! الكنيسة هي أنتم. والكنيسة هي كل واحدٍ منكم. الكنيسة في قلب كل واحد منكم، وهي ليست في مكانٍ ما مهما تراكمت الحجارة ومهما اتسعت الأبنية. فاذكروا أن الرب لم يبن بناية واحدة… عندما صممت أن آتي إلى هذه البقعة المقدسة وسائر بقاعنا فإني قصدت أن أواجه الكنيسة الحية، قصدت ألا تكون الكنيسة الأرثوذكسية كلمة فارغة، قصدت ألا تكون كلمة الشعب المؤمن كلمةً مطلقةً في الهواء بل واقعاً…لقياكم هي الغاية من رحلتي. تقولون هذا يغنيكم ويقويكم، أترك لكم أن تقولوه، ولكني أؤكد لكم أن لقياكم تقويني وأن لقياكم تغنيني”.
وتابع:”رحم الله البطريرك إغناطيوس الذي نقول له من هذه الكنيسة: “إن الكرمة التي افتقدتها في ذلك الزمان في صافيتا، نزورها اليوم ونغتني بها ونتقوى بغيرة أبنائها ومحبتهم.. إن الكنيسة هي مشتل قيمٍ ومحبةٍ متبادلة بين أعضائها ومع جيرتها. وهي أبعد ما تكون عن الفئوية. والكنيسة تبني بمنطق إنجيلها الوطن والإنسان. نحن لا نهوى الكلام في السياسة، إذ نتركه لأهله. لكننا نريد أن يخرج كلامنا كالنار عندما يتعلق الأمر بمستقبل أولادنا وأطفالنا وبحال هذا الوطن. نحن هنا لنقول ونعيد الصرخة من جديد. سوريا غصن زيتون ولن ييبس زيتون سلامها. سوريا أذان تسامح وأجراس محبة، ولغة التكفير والإرهاب والخطف غريبة عن واقعها. سوريا الدولة الواحدة لن تقتلعها أشباه دويلات تقوم على أرضها. سوريا مدعوة بمنطق المصالحة ووقف تدخل الخارج إلى الخروج من أزمتها بالحوار والحل السياسي السلمي…
كفانا قتلاً وتهجيراً وامتطاءً لشعارات رنانة واستيراداً لهمجيةٍ لم نعرف لها مثيلاً. خُطف المطارنة والكهنة وهجر الملايين والعالم يتغنى بحقوق الإنسان. نحن نريد أن تحترم حقوق الإنسان في كل بقاع الدنيا ولكننا نرفض أن تجير هذه الحقوق وتمتطى للتدخل في الأوطان ولتعكير صفو أمنها. وإن خطف المطرانين يوحنا وبولس والكهنة وقتل رجال الدين والسكوت عن كل هذا لهو لطخة عار في جبين المتشدقين بحقوق الإنسان زوراً وبهتاناً.
لنا الحق أن نتوق إلى أيام سلامنا وأماننا في سوريا. ولنا الحق أن نقول للدنيا أن سوريا، وريثةَ أوغاريت وحاضنة تدمر وأم أنطاكية، صدرت للدنيا ثقافة التلاقي وتلاقح الحضارات وأعطت للعالم الحرف الأول”.
ثمّ توجه الى المجتمع الدولي بالقول: “نقول للمجتمع الدولي ولكل ذوي القرار في هذا العالم، كفى تكفيراً وإرهاباً وتزييفاً لحقائق الأمور وكفى تصديراً لهمجياتٍ وامتطاء للشعارات. كفانا تصريحات مزيفة تدعو لاستقبال المسيحيين. إن خير ما يفعله العالم لخير المسيحيين والمسلمين هو نشر ثقافة الحوار في مشرقنا، ومحو ثقافة السيف. إن قطرة دم إنسانٍ بريء تراق هي أقدس من كل شعارات الدنيا. اقطعوا عن بلادنا يد الإرهاب وأوقفوا سيل السلاح وردوا سفنكم إلى موانئها. نحن لا نُحمى بسفن الحرب ولا بسفن التهجير. نحن نُحمى بغرس السلام في ربوعنا. نحن مغروسون هنا منذ ألفي عام، هنا ولدنا وهنا عشنا ونعيش وهنا نموت. نقولها رغم مرارة ألمنا وغصات قلوبنا، وبكل فخرٍ وإيمان وثقة بالله: فيْءُ زيتوننا أكثر دفءً من مواقد الغربة…”.
وختم كلامه: “وأختم كلامي متوجهاً إلى أبنائن في سوريا بشكل خاص وأقول: نحن مدعوون أن نجبل بالرجاء، وأن نحوز إلى جانب رجائنا إيماناً بالله واتكالاً عليه وعلى قوتنا به. وأسمح لنفسي أن أتلو على مسامعكم هذه الكلمات القليلة التي خطتها يراع أحد كتاب هذا المشرق وذلك قبل حوالي مائة سنة من الآن، وهي ما اعتدنا أن نسميها أيام السفربرلك، في الوقت الذي كانت فيه سوريا والمشرق كله يعتصر ألماً وموتاً وجوعاً وقهراً من سطوة تلك الأيام. أتلوه على مسامعكم، ناقلاً إياه بتصرفٍ، لتروا أي تصميم وإيمانٍ وأية قوةٍ كانت لأجدادنا وأية محبة حازوا تجاه ديارهم رغم شظف أيامها:
“إن الأمم كالشجر تنبت وتنمو وتتعالى ثم تبلغ مبلغها فتعطي ثماراً جيدة ورديئة ثم تمر عليها السنون فتشيخ وتجف جذوعها وفروعها ثم تمر بها العواصف فتنيخها إلى الحضيض وتدثرها بأوراق الخريف وثلوج الشتاء. وأما سوريا فكرمةٌ قد نمت قدماً أمام وجه الشمس وأعطت عنباً لذيذاً تمجدت بطعمه الحضارات وعَتْقاً سحرياً شربته الإنسانية فانتشت ولم تصح بعد من نشوة حضارتها. واليوم وبعد أن ديس بعض سياجها يمر عابر الطريق فيجدها قد أورقت ثانية واهتزت قضبانها مرتعشة بمرور نُسيمات الفجر…”.
وقدم الأسقف ديمتري، اسقف المحلة، لغبطته أنغولبيون (أيقونة صدر) باسم كل أهالي صافيتا. وبعد القداس توجه البطريرك إلى دار المطرانية وهناك صافح مستقبليه.