الباحث حنّا عبّود
على الرغم من كثرة النتاج الفكري الذي ظهر مؤخّراً والذي تناول مفهوم اقتصاد المعرفة عرضاً وتحليلاً، في أبحاث ودراسات شتى.. وعلى الرغم من أن هذا المفهوم الذي تبلور وكثر استخدامه في الأدبيات الاقتصادية والمعرفية الحديثة.. كان ماثلاً في فكر الفلاسفة والمفكرين في العصور الماضية، فإن الغموض ما زال يلفّه.. فما هو كنه هذا المفهوم؟ وما هو قوامه؟ وكيف تطوّر؟
يرى كثيرون أن أعظم من تابع تاريخ المعرفة البشرية في اقتصاداتها المختلفة هو فريدريك هيغل. ففي كلّ كتبه عن الحقّ والفلسفة والعلوم والسياسة والفنّ والقانون وعلم الجمال والأخلاق والتاريخ… يؤرّخ لتطوّر اقتصاد المعرفة البشرية عبر الزمن، وكيف تتفاعل المعرفة مع الواقع للوصول إلى الصورة الأمثل لآلية الانسجام والاستمرار.
وعرضه التاريخي لاقتصاد المعرفة يعكس رؤيته لمصير البشرية في المستقبل. وقد استنتج قانوناً يحكم المعرفة، وهو أن كلّ معرفة تصطدم بالواقع، ومن صراعهما ينشأ تركيب يصبح بدوره معرفة جديدة تفرز نقيضها الذي في صراعه يسرّع في ولادة تركيب جديد.. وهكذا. أمّا ميشيل فوكو فقد نحّى هذا القانون إذ رأى أن السلطة- بأنواعها- هي التي تنتج المعرفة لمصلحتها وتفرضها، وعندما تتغيّر الظروف تعدّل أو تغيّر وفقاً لمصلحتها.
ينطلق هيغل أصلاً من نظرية المقابلة بين العقل المطلق والعالم. وحتى يدرك العقل المطلق ذاته يتفاعل مع العالم، ومن هذا التفاعل ينتج التقدّم، إلى أن يدرك العقل المطلق ذاته، أي يصل إلى المرحلة التي يتطابق فيها العقل مع الواقع، بحيث يكون “كلّ ما هو عقلي واقعي وكلّ ما هو واقعي عقلي”. وبهذا يكون هيغل من أعظم الفلاسفة الذين أولوا المعرفة هذا الإنتاج الهائل. فقد عزا إليها كلّ هذا التقدّم البشري، ولا نعرف مكافئاً له.
هيغل والتقدّم
لاحظ هيغل أن المعرفة – والمقصود بها العقل المطلق وليس العقل الفردي – في حالة دائمة من التفاعل مع الواقع، بحسب قوانين نعرض أهمّها هنا:
1 – غزارة الإنتاج: فأغزر إنتاج في العالم هو إنتاج المعرفة، فهي تولد في كلّ لحظة، ويمارسها الأفراد والتجمّعات، ويتفاعل العقل الفردي مع العقل الجمعي، ومن تفاعل الطرفين مع الواقع يينشأ لدينا كمّيات هائلة من المعلومات، يصعب رصدها بدقّة، ولذلك نجد أن تاريخ المعرفة يقتصر على العام والمشهور فقط، أو ما يسمّى روح العصر. وما روح العصر؟ هو العقل المطلق في سعيه لإدراك ذاته، بتغيير العالم وتغيير نفسه حتى يزول التناقض بينهما. فهناك نشاط شديد، أو حياة كاملة تعيشها المعرفة في تفاعلها مع العالم. والمعرفة التي لا تستطيع أن تغيّر العالم ليتطابق مع العقل المطلق، تتراجع وتندثر، وإن ذَكَرَها التاريخ. وقد وصلت غزارة إنتاج المعرفة في الثورة الثالثة، أو ما نسمّيه ثورة الاتصالات، حدّاً مذهلاً لا يكاد المرء يتصوّره ولا يسعه أن يرصده.
2 – الصراع: لا توجد فكرة عائمة هكذا. كانت الأفكار غيبيّة في القديم، وهذا في رأي هيغل اغتراب إنساني، إذ يخلق البشر عالماً سعيداً هادئاً ولكنّه موهوم لا علاقة له بالواقع الإنساني، وبالتالي فإن هذا الاغتراب يخلق نقيضه فتظهر معرفة أقرب إلى الواقع من المعرفة المطروحة سابقاً، وتكون النتيجة تركيباً جديداً، فتنتصر عناصر المعرفة الأشدّ تطابقاً مع الواقع العقلي أو العقل الواقعي.
3 – التقدّم: كما ترتقي الأحياء بالانتخاب الطبيعي كذلك ترتقي المعرفة بالصراع. والمنتصر من أنواع المعرفة ما استطاع الإمساك بالواقع. قد تحدث هناك فترات تسود فيها أفكار رجعية تنادي بالعودة إلى أفكار الماضي التي لم تعد متلائمة مع الواقع، ولكنّها فترات موقوتة وعابرة، فالخطّ العام للمعرفة هو التقدّم. ولم يشدّد مفكّر في التاريخ مثلما شدّد هيغل على هذه النقطة، التي استغلّتها الماركسية فيما بعد استغلالاً كبيراً، حتى صارت مقياساً للجودة، فكلّ تقدّمي، في أيّ ميدان هو الأجود، في حين يرى هيغل أن تقدّمية التقدّمي تظلّ ناقصة دائماً حتى يصل العقل المطلق إلى المطابقة التامة مع الواقع. ومن هذا الصراع تتولّد الليبرالية الكفيلة بإدارة الأفكار لتتطابق مع الواقع.
يرى هيغل أن التاريخ ينتهي هنا، لأن كلّ معرفة غير واقعية تزول، وكلّ واقع يخالف المعرفة يُغيّر حتى يتطابق مع المعرفة التي هي من العقل المطلق. وقد انطلق فوكوياما من هذه النقطة في كتابه التاريخ ونهاية الإنسان وذهب إلى أن الليبرالية هي التي ستسود وتصل بالتاريخ إلى نهايته. ومنذ تسعينيات القرن الماضي شاعت كلمة “ليبرالية” وحقّقت سمعة جيدة، بعدما كانت سبّة في الأدبيات الماركسية.
فيورباخ المشاكس
لودفيغ فيورباخ تلميذ هيغل المخلص، تبنّى كلّ أفكاره وطريقته الجدلية، ولكنّه قلب الموازين، فجعل المادي سابقاً على المثالي، وهذا ما سوف يتلقّاه تلميذا فيورباخ إنجلز وماركس فصارا فيورباخيّين.
اعترف فيورباخ بعبقرية أستاذه، ولكنه رأى أن المعرفة (من دين وحقوق وفلسفة وفنّ… باختصار المعرفة في كلّ الميادين) ليست هي الأساس، فهي نتاج، قبل أن تقوم هي بالإنتاج. ومعنى ذلك أن المشكلة في الإنسان الذي ينتجها، وليس في العقل المطلق ولا في الطبيعة ولا في أيّ شيء آخر. “الأنتروبولوجي” هو الأساس، أي الإنسان. فهو الذي يُنتج المنطق الأعوج والمنطق السليم، والمعرفة البانية والمعرفة الهادمة… إلخ. ومن هنا أطلق على فلسفته صفة “الإنسانية” بمعنى أن أساس كلّ شيء هو الإنسان، فلا بدّ من أن يكون إنتاج المعرفة لما فيه مصلحة الإنسان. ولكن ما هي مصلحة الإنسان؟.. إنها الحاجات المادية، أما الدين وبقية الأنساق الفوقية فإنها الرغبة في الذات المثالية. ولا تكون الذات مثالية إلا من طريق معالجة الحاجات المادية. وعندما أنتج الفكر الديني المعرفة في العصور القديمة والوسطى، أثبت بؤس الإنسان الواقعي الذي لم يجد صيغة مناسبة لحياته.
اقتصاد المعرفة الحديث
نحن أمام منهجين في معالجة اقتصاد المعرفة، هيغلي يقوم على أن الأفكار تهندس المعرفة والعالم، وفيورباخي يقوم على أن الحاجات المادية وحدها تحدّد “فلسفة المستقبل”. وثورة المعرفة في هذه الأيام جاءت مؤيّدة للمنهجين، مع رجحان للفيورباخي، فهناك مواقع تنتج المعرفة يومياً من دون أن يكون لها أيّ صلة بالواقع، وهناك مواقع تنتج المعرفة العملية من رياضة الصباح حتى المشروعات الكبرى من دون أن يكون لها صلة بإنتاج المعرفة المجرّدة.
والثورة البروميثية اليوم تنتج المعرفة المجرّدة التي تبحث عن الواقع، كما تنتج المعرفة المادية التي تبحث عن التجريد (لخلق نظرية ذات نسق منظّم). ومهما كانت الأفكار المجرّدة، وبخاصة الأفكار اللاهوتية أو الكهنوتية، غزيرة، فإن الاتجاه يميل إلى الأفكار العملية، التي يطلق عليها بعضهم “المعرفة الحياتية”.
ومن جهة ثالثة نجد الصراع الفكري يزداد، بالتوازي مع الصراع المادي، من دون الوصول إلى النتيجة المنشودة التي طالب بها كلّ من هيغل وفيورباخ. فلا الأفكار ولا المعالجة المادية قضت على مظاهر الفساد والضعف والفقر والمرض والحرب والتعصّب.. والملاحظ أن فكرة فيورباخ أثبتت أنها أقرب إلى الواقع، فالإنسان هو الأساس، وتغيير العالم (العلاقات الاجتماعية والإنسانية) لا يكون إلا من طريق الإنسان.
ولكن من جهة أخرى نتساءل: هل يمكن للإنسان العدواني أن ينتج معرفة مسالمة؟ وهل يمكن القضاء على الاستبداد، بشكْلَيه الفردي والجماعي، وكذلك بشكْلَيه الشرقي والغربي، إذا كانت مورثات هذا الاستبداد غالبة في الشيفرة البيولوجية على حدّ قول المتنبي “والظلم من شيم النفوس”؟ وهل يمكن للمريض أن يخترع دواء لنفسه وهو الذي قال فيه المتنبي:
ومن يك ذا فم مرّ مريض يرى مرّاً به الماء الزلالا
وهل يمكن في ظل هذا التنوّع الموروث منذ ملايين السنين، الذي أنبت الطامح والقانع والمغامر والانهزامي والجسور والمتردّد والجشع والزاهد والمنكبّ على العمل والغارق في التأمل، والنشيط والكسول… أن يظهر مشروع إصلاح البشرية؟
من الأنتروبولوجي إلى البيولوجي
وصل اقتصاد المعرفة في الثورة الحديثة إلى درجة تخليق النعجة دوللي، ونَقَلَ إلى الشبكة العنكبوتية صورة البشرية فكراً وعملاً. لكن المعرفة الحديثة أدَّعت أن التحكّم بالمورثات وصل إلى مرحلة متقدّمة حيث يمكن القضاء على جميع الأمراض التي عجزت البشرية عنها. لكن ماذا عن الأمراض النفسيّة الجوّانية كالطمع والجشع والاستبداد والعدوان… والتي ليست أمراضاً فيروسية أو جرثومية؟ وأيّ دواء للجشع سوى الغوص إلى المورثات واقتلاع تلك المورثة اللعينة التي تسبّب هذا المرض الوبيل؟ ألم تفشل كلّ المعالجات المعنوية التي أنتجتها المعرفة البشرية، فخرنا في هذه الأيام؟… مع احترامنا لهيغل.
يقول فيورباخ إن الأساس يكمن في “الأنتروبولوجي” واليوم بعد هذه الثورة البروميثية التي وصلت حتى الخلايا الجذعية، نقول إن أعظم اقتراح لتخليص البشرية من أمراضها هو الاهتمام بـ”البيولوجي”. فمن طريق البيولوجيا وحدها يأتي الخلاص، وعندها تصبح البشرية معافاة، ولكنّها مثل اللباس الموحَّد، فالجميع قانعون هادئون لا يذلّهم مستبدّ ولا يؤرقهم سارق ولا يهمّهم مستقبل… ويصبح العالم مغارة عميان… مع احترامنا لفيورباخ وتلاميذه. يبدو أن البشرية تصرّ أن تظلّ أسوأ المخلوقات وأشدّها ضرراً.
والسؤال الذي يُطرح على المفكِّرَين، بل على كلّ المفكِّرِين، وعلى أرباب صناعة المعرفة في الثورة البروميثية هو: هل هناك مجال هيغلي (فكري) أو فيورباخي (مادي) لا يعبث فيه الخبث البشري، أو الحماقة البشرية، حتى نؤكّد أنّنا سنصل إلى النتيجة المرجوّة؟ فهل نقضي على الحماقة، وإراسموس يصيح إن الحماقة هي التي تحافظ على الجنس البشري؟
*********
(*) مؤسسةة الفكر العربي نشرة افق
قام بإعادة تدوين هذه على فــكـر.