أيّها الأنواريّون الأعزّاء
ليس من السّهل، عندنا، أن نجد مسؤولاً عن صفحة ثقافيّة في جريدة غير مصاب بعقدة نوع أدبيّ معيّن تصل إلى حدّ العنصريّة في عالم الإبداع الذي لا يحتمل إطلاقًا “الداعشيّة” الأدبيّة.
لا أخفي عنكم، يا أصدقاء “الأنوار” قراءة وكتابة، أنّ الأديب جورج طرابلسي يرميني كلّ يوم إلى قعر محبرتي باحثًا عن السمك الصغير، الغريب، السابح أبدًا في ماء الدهشة الذي لا يتّسع صدره للملح.
نعم، أيّها الأنواريّون، إنّ جورج يحرّضني على ذاتي لأتسلّقها معلَّقًا على حبال الحبر، متلقّيًا عَصْفَ بالي الذي يزنّرني بالريح فلا أصل إلى رأسي إلاّ وأنا أرتدي عَرَقي تحت ثيابي.
ضحكة جورج المشغولة على نَوْل القلب – ومَن قلبه اليوم يتقن هذه الصناعة؟! – تَمون على مزاج قلمي، فأستيقظ كلّ صباح وعلى كتف القلم فكرة لي بين جناحيها مؤونة نهاري، وهل أجمل من أن يعطينا الله حِبْرَنا كفاف يومنا؟!
تعليق جورج، الخالي من الهدر اللغويّ، الأنيق كربطة عنق خضراء ترتاح على صدر السّهل البنّيّ، يجعلني لا أقبل التنازل في الكتابة، فتحلو لي المكابرة مع خاطري، فلا آخذ منه إلاّ البضاعة المتعوب عليها والتي أرغب في أن تكون من الباب الأوّل.
يصل نصّي إلى جورج، فيجد اللوحة المناسبة التي تصلح عنوانًا له جاهزةً. بيني وبين هذا الرجل توأمة كتابيّة، كأنّ بعضًا منّي وبعضًا منه طالعان من رحم امرأة واحدة. إنّني أسرقه سرقةً حلالاً، أي: أنهب رأسه لا كتابًا له مطبوعًا. على غير علم منّي، أجد نفسي متجوّلاً فيه، متسوِّقًا، مالئًا ألف سلّة وسلّة.
وجورج ليس كرمًا على درب، إنّه أرزة تحت جفن جبل. والذي تغريه نفسه بسرقته قد يستعين بعصفور ليأتيه منه بما يريد.
وحدث أن كتبت عن الورد باقة من النصوص القصيرة جدًّا، وكان منها نصّ قد سبقني إليه صاحبي، منذ عشر سنوات، أو عشرة مواسم ورد إذا شئتم. وقال لي: “في مكانها وردة… في يدك جثّة”. يا إلهي، ماذا أقول؟! لقد قطف وردة من ورداتي منذ عشرة نيسانات! لا، لقد سبقني إلى الحديقة، حفَّ وجهه على وردة، حَمَل عطرها على وجهه وعاد إلى بيته دون أن يحمل دمها في رقبته.
جورج طرابلسي لا يقتل وردة، لكنّه يقتلني كلّ يوم. يقتلني ثمّ يحييني، ثمّ يقتلني، ثمّ يحييني… إلى أن أرى على بياض الورق قليلاً من سواد يبيّض الوجه.
ويا أخي جورج، قبلك تعوّدت على قتلي وإحيائي آلاف المرّات السيّدة فيفيان صليبا داغر التي كلّما تركت قبلة على جبينها ازداد طولي شبرًا. هذه المرأة، وسحابة ثلاث عشرة سنة في مجلّة “المسيرة”، دلّتني على أماكن قصيّة فيّ لم أكن أعرفها. عرّفتني على جُزُري وبحيراتي. وعلّمتني أنّ البحّار الأصيل لا يوقّع معاهدة صلح مع الريح..
أيّها الأنواريّون، أنا أحبّ الرجل الذي لا يقتل وردة ويقتلني كلّ يوم. أعدكم بأنّني سوف أواصل نَهْبَه حتّى الثمالة. وحين يحتاج إلى شيء من ذاته غدًا، فليقصدني، وهو محفوظ عندي، من الهمزة فوق ألِفه إلى النقطتين تحت يائه، في ذاكرة القلب.
ويا جلالة الصديق جورج، لا أستطيع أن أحسم إذا كانت السعادة في أن نلتقي بأنفسنا في الآخرين، أم في أن نلتقي بالآخرين في أنفسنا.
أخوك قزحيا ساسين
********
أخي قزحيا
ذكّرتني رسالتك هذه بالملكة ماري أنطوانيت ومقولتها الشهيرة: “إذا لم يكن لدى الفقراء خبز… فليأكلوا بسكويتا”. وهي في ذلك معذورة، لأنها كانت تظن ان الجميع يتمتعون بالنعم ذاتها، المتوافرة –آنذاك- في البلاط الملكي، فيما كان الشعب يتضور جوعا، ودموع ثورة تموز تغلي في الكوز.
لماذا ذكّرتني بالملكة الفرنسية؟
لأنك –بكل بساطة- تملك إهراءات من النثر والشعر، وتظن ان الجميع مثلك، يعانون من التخمة الفكرية، ويكدّسون في خزائنهم جواهر الكلمات/الملكات، فيما “المظنون بهم” يتدافعون أمام بوابة قصرك، متسوّلين، وشاحذين فتات قصيدة، رشّة فكر، أو نقطة حبر…
أخي قزحيا
بإسم كل “الانواريين”…
أبعد عني “كأس الممدوحين” (غير المستحقين)، نجني من تجربة “السكّر والطحين”، لا تحرمني نعمة تزعّم الشحّاذين (الذين أحلامهم قوت “المثقفين”)… وأنا لك من الشاكرين، حتى دهر الداهرين…
آمين…
جورج طرابلسي
بالاشتلاراك مع aleph- lam
www.georgetraboulsi.wordpress.com