البحر المتوسّط في حضاراته وصراعاته

د. أحمد حلواني*

“البحر المتوسّط” موضوع متلاطم الأمواج، خاضته كلّ الشعوب، فكتبت تاريخ هذا البحر، بالطريقة التي تخدم تاريخها، وتُثبِت حضورَها فيه. بَيْدَ أن العلّامة الليبي والمترجم logo fikrالفذّ خليفة التليسي يتساءل في مقدمة الكتاب الذي ترجمه من الإنجليزية، وهو بعنوان: “البحر المتوسّط: حضاراته وصراعاته” (صادر في العاصمة الليبية طرابلس الغرب)، ومن تأليف “إرنل برادفورد” “Ernle Bradford”، يتساءل عن أسباب عزوف المؤلفين العرب عن دراسة هذا البحر، والتأليف في هذا الموضوع، وتصحيح الآراء المغلوطة والمدسوسة حوله؟

خليفة التلّيسي علّامة من ليبيا عُرف بثقافته الكبيرة وأدبه الجمّ وغزارة إنتاجه وذوقه الفنّي والأدبي الرفيع وفصاحة لسانه المتعدّد اللغات، إلى جانب لغته العربية الأم. فإلى جانب الإيطالية، التي وضع فيها قواميس متنوّعة، ترجم عن الفرنسية والإنكليزية الكثير ممّا أعجبه ورغب في نقله إلى مواطنيه العرب، من ضمن مسيرته التثقيفية في إطار طموحه النهضوي العربي وخطّة عمله الثقافي.

انشغل في أواخر عمره في تنشيط “الدار العربية للكتاب” (الليبية – التونسية)، حيث أشرف على نشاطها، وقدّمت إنتاجاً ثقافياً عربياً مهمّاً أكّدت فيه الإمكانات الثقافية الليبية التونسية بخاصة، والعربية بعامة. وقد شكّل رحيل التلّيسي فراغاً أدبياً وثقافياً كبيراً وخسارة لليبيا والأمة العربية والثقافة العالمية.

يقول في مقدمة ترجمته لكتاب “البحر المتوسّط حضاراته وصراعاته” الذي ألّفه بالإنكليزية “إرنل برادفورد” “Ernle Bradford”، وصدر في طرابلس- ليبيا: “لقد كتبت كلّ شعوب البحر المتوسّط تاريخه بالطريقة التي تراها، وحرصت على إبراز وجهة نظرها الخاصة، وحاولت أن تؤكّد حضورها فيه”. ثم يتساءل عن أسباب عزوف المؤلّفين العرب عن التأليف ودراسة هذا البحر وتصحيح الآراء المدسوسة ضدّ العرب، مستغرباً ضعف الشعور نحو هذا البحر الحضاري العظيم، على الرغم من إشرافهم المنفرد على ساحليه الشرقي والجنوبي وتاريخهم الطويل معه. الأمر الذي حفّزه على ترجمة كتاب برادفورد لأنه أقرب إلى الموضوعية، بحيث تشكّل ترجمته حافزاً للباحثين المختصّين من العرب، على دراسته والبحث في مضامينه، فلعلّ مؤرخاً عربياً يُخرج لنا التاريخ النزيه الدقيق الوثيق لهذا البحر، الذي تحتاجه شعوبه اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، لإبراز سيرته الحضارية، والدور العربي الكبير في تاريخه، واعتمادها قاعدة لعلاقات إنسانية حضارية تفاعلية جديدة، مستشهداً بما قال ابن خلدون في لحظةِ وعيٍ بكيانه التاريخي الجغرافي الشامل: “حين ملك العرب المسلمون غالبيته وعظمت صولتهم وسلطانهم وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم، فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح والغنائم. فملكوا سائر جزائره المتقطعة من “ميورقه” في غربه، إلى قبرص في شرقه، مروراً بسائر ممالك الروم والإفرنج”.Khalifa_Tillisi

يذكّر التلّيسي بأن الموسوعة البريطانية تأخذ بتقسيم الفترات الحضارية للبحر المتوسّط، إلى ثلاث مراحل هي: مرحلة ما قبل العهد الروماني، ثم مرحلة البحر الرومي (بحرنا Mare Nostrum)، فالثالثة وهي السيادة العربية الإسلامية التي تطمسها الموسوعة، على الرغم من أنها الأطول، فتسمّيها مرحلة انقسامguilaf bahr moutawaset

الإمبراطورية الرومانية.

ثمة مرحلة رابعة وهي المرحلة الصليبية، التي شهدت، على الرغم من صراعاتها، علاقاتٍ تجاريةً بين الموانئ الإيطالية والعربية، فانتشرت البضائع الإفريقية من طريق طرابلس وتونس، والبضائع الواردة من أقصى الشرق من طريق الموانئ السورية (الشامية) والمصرية، وصحب هذا التعادل التجاري علاقات ثقافية نفذ منها الأثر الحضاري العربي إلى الثقافة الغربية، ما ساعد على التعجيل بالنهضة الأوروبية، لاسيّما أن إيطاليا كانت في مقدمة الدول المتأثرة، وبالتالي الفاعلة في حركة النهضة الأوروبية كما هو معروف.

البحر الفريد

أما المؤلف الإنكليزي، فيتحدث عن اكتشافاته لمدن البحر المتوسّط، بدءاً من الإسكندرية إلى برشلونة وحتى إسطنبول؛ هذه المدن التي تتميّز بجماليات معمارية وألوان وأضواء وتدافعٍ بشري حيّ، لا يشبه ما رآه في عالمه السابق. فالبياض وروائح الغاردينيا التي تنبعث في المساء مع خبوّ حرارة النهار، وهبوب نسائم ناعمة رطبة، وهواء الصيف الذي يهبّ من الشمال ليُنعش الحياة، وأنت تمشي فجراً وقد اصطبغ الأفق بلون المشمش، وروائح المدينة تتلاشى في الطراوة، وصوت المؤذّن يمجّد الكمال الإلهي، الواحد الخالد القادر على كلّ شيء. فذلك كلّه يُشعِر المؤلف بحالة من حالات الكشف التي يمكنها أن تغيّر الحياة بكاملها.

ويقول المؤلف: “لقد انجذبت إلى هذا البحر، فليس هناك بحر في هذا العالم يضارعه في عدد الثقافات والحضارات التي تنبع من شواطئه، أو عبرت مياهه لتلقّح الواحدة منها الأخرى، وتخصبها”. “إنه يستمدّ غناه بشكل واسع من إحاطة ثلاث قارات به، هيّأت تفاعلاً بين مختلف الأجناس التي تسكنه، إضافة إلى الصراعات القائمة من أجله وتنازع النفوذ فيه؛ فهو يُخفي باستمرار الوجود الإنساني فيه، من تفاعل بشري وهجرات وتدفقات لجوءٍ وهروبٍ ومعايشة، حيث الصيّاد ما يزال يُرخي شباكه وصنّارته، كما لو كانت أساطيل الرومان والقرطاجيّين ما تزال تتنازع السيادة فيه.aliskandaria

بهذه السلاسة يسير المؤلف والمترجم مع أمواج البحر المتوسّط الهادئة والقوية في آن معاً، بشراع مركبٍ يواجه الريح والنسيم، ويستنشق روائح الشواطئ والتاريخ المليء بعناصر التبادل والتثاقف والصراع والقرصنة، متنقّلاً من خلال فصول الكتاب الأربعة بين الإغريق والفينيقيين والرومان والقرطاجيّين وروما والقسطنطينية، والفايكنغ، وصولاً إلى العصر العربي وصراع العرب مع أبناء الشمال النورمانيين، ثم مع الصليبيين، بمن فيهم فرسان القديس يوحنا، وما أعقب ذلك من سقوط القسطنطينية وقيام الجمهوريات البحرية، ثم السيادة العثمانية على المتوسّط، معرّجاً على دور القراصنة وصراعهم مع الإنكليز والهولنديين، مبرِزاً دور مضيق جبل طارق، وإشكالية بقائه تحت الحكم الإنكليزي، والدخول الفرنسي، ثم التحوّل بعد العهد الفيكتوري، أو ما يسمّيه المؤلف بالتحوّل العظيم، بدخول السفن التجارية مع العصر الصناعي، والتحوّل من الشراع إلى المحركات والمنارات، ودخول قرن آخر فيه السلم والحرب، والإعلام بإشكاله المختلفة.

كما تحدّث عن النفوذ البريطاني في المنطقة العربية بعد انسلاخها عن الدولة العثمانية وخذلان بريطانيا للعرب وإخلالها بوعودها لهم. في حين أنه ما كان للإنكليز أن يحققوا أيّ انتصار، من دون العرب. وذكّر بوعد بلفور الذي قدّمته بريطانيا من أجل كسب عطف اليهود، بحيث أخذت على نفسها أن تسير بعكس ما خطّه المرسوم الروماني، الذي تمّ إلغاؤه بمرسوم إمبراطوري إنكليزي، الأمر الذي أدخل الإنكليز في زاوية من البحر المتوسّط تشبه اللعب مع عقرب الصحراء، التي ذكرها الكولونيل لورانس في كتابه “أعمدة الحكمة السبعة”.barcelone

في فصليه الآخرين، “سلم وحرب من جديد” و”الزمن والمحيط”، يتحدّث عن نوعية التغيّرات والتحوّلات التي حصلت في المنطقة المتوسّطية، وقد أخذت مياهها تصفو تدريجياً، متوقفاً عند الحربين العالميّتين الأولى والثانية والأعوام المضطربة بينهما، مبرزاً مرحلة الخلاص من حمى الحروب بملامح ظهور ظاهرة محبّبة وجديدة تتمثّل في دخول عالم السياحة، مكتشفين فيها روعة طقس المتوسّط وشمسه، ورمال بحره، وتنوّع مأكولاته، وتراثه الأسطوري، من فنون وتقاليد وحميميّة الناس، معدّداً القصص والروايات وأسماء الفنّانين والرسّامين الذين كتبوا ورسموا وتغنّوا بهذا البحر، معرّجاً بالنهاية على بدء الاهتمام الروسي بالبحر المتوسّط، استكمالاً لما بدأوه في عهد بطرس الأكبر في القرن السابع عشر، موضّحاً أن مستقبل إسرائيل ما يزال في الميزان بسبب نموّ الوعي القومي العربي وشعور العرب بالظلم واغتصاب حقوقهم.

إن رحلة الكاتب مع البحر المتوسّط في سفره الكبير يفتح الآفاق واسعة أمام الدارسين العرب للتوسّع بحثاً وتخطيطاً للاستفادة من هذا البحر العظيم، بحكم موقع العرب منه، وتاريخهم الطويل واستراتيجيتهم ذات البعد الحضاري الإنساني العميق.istamboul

إن البحر المتوسّط والأراضي المحيطة به يكشفان عن نفسيهما، ومن السهل قراءتهما، على الرغم من الصمت الذي يكمن في الريح، لأن الموج الذي يخفق فيه يجعل منه صمتاً يلامس أرفع ذرى الوَجْد، حيث يصبح الإنسان شبه وسيط روحي، يحقّق رغبته في طموحه الحضاري المتناغم مع موجات البحر الطويلة في تساميها على صخب العالم وضجيجه.

وتلك هي إحدى روائع البحر المتوسّط بإشراقته العربية التي عرفها التاريخ ومازال ينتظر.

(*) باحث وسفير سابق- سوريا

كلام الصور

1- خليفة التلّيسي

2- غلاف كتاب “البحر المتوسّط: حضاراته وصراعاته”

3- الاسكندرية

4- برشلونة

5- اسطنبول

اترك رد