منيرة مصباح
كل نتاج انساني هو تعبير عن لحظة لم تعلم بعد، او مازالت غير معلومة. انها رمز للخيال او الوهم الذي يحدث المرء به قبل ان يعيه وعيا واضحا.
وبما ان اللغة هي أفضل تعبير عن لحظة الخيال، فهي تأتي من جو ذهني معاصر وموغل في التجربة الانسانية المعقدة والواقعية.
وإذا اخذنا الواقع على انه فكرة تعبر عن سيل من العناصر المتداخلة التي يعجز الذهن احيانا عن الامساك بها، حيث ان وظيفته ليست عملية استحضار الاشياء للعقل لكي يجيد فهمها، بل هي استحضارها على نحو يمكّن الانسان من الفعل عليها بنجاح.
من هذا المنطلق تتجه فلسفة هنري برغسون في اللغة والشعر حيث ينسف سلطان الذهن ويقول: في عقلنا ميل لا يقاوم الى اعتبار أن اوضح الفكر اكثره فائدة له. لذلك فهو يرى أن المعرفة الذهنية عديمة الدقة، مضللة، مرتبطة بضرورة الفعل، وعاجزة عن معالجة سيل من الاشياء دائمة التغير.
لكن ايمان برغسون بان حاجة الانسان الأولى هي الفعل، تجعلنا نضع الشعر في مرتبة الحدس الذي يؤدي بالتالي الى المعرفة والى ادراك الواقع الذي يتميز به الشاعر أو الفنان عن غيره، حيث يدخل عملية البحث عن لغة الواقع التي تغتسل بشفافية الرؤيا الغنائية، لتصبح القصيدة لديه مدخلا الى العالم.
ويدفعنا الشعر الى التساؤل: من اين ينبع الشعر؟ من الواقع ام من الخيال؟ أم منهما معا؟
إن الشعر يكتب باللغة، لذلك فهو عبارة عن منابع للغات. وبما ان اللغة نتاج اجتماعي وأداة يتواصل بها الناس، ويقنع بعضه بعضا بها، فإن دراسة تلك المنابع ضرورية، ولا تنفصل عن دراسة المجتمع الذي تنشأ فيه. من هنا يحاول كريستوفر كودويل استنباط نظرية فنية في النقد الادبي ترتكز على ايديولوجية فكرية سياسية، بسبب من ارتباط الكاتب الفعلي في النشاط السياسي.
لكن كون الشعر واحدا من أقدم النشاطات الجمالية للعقل البشري، فهو يأخذ جزءا من الحدس الانساني التواق للغنائية، وللّحظة الشعرية كحركة حلم يستجمع الواقع ليعيد صياغته من جديد دون السقوط في برودة الكلمات المباشرة. “لكن كودويل يرفض هذا المنطق للحظة الشعرية، فهو يعتقد ان الشعر لا يعيش مستقلا عن بقية الفنون الادبية، لتطابقه مع الأدب المبكر للشعوب.
ان الشعر الذي وجد كنتاج مستقل في الفنون كان ايضا اداة مشتركة لنقل التاريخ والقانون. فكل ادب قديم محفوظ لآي شعب متحضر، لا بد ان يكون باكمله ذا شكل شعري يحمل اوزانا وايقاعا. وهذا ما نلاحظه عند الشعوب اليونانية واللاتينية والصينية والهندية والمصرية وغيرها.
لكن هذا الشعر القديم ليس شعرا محضا بالمعنى المعاصر للكلمة، ربما يكون شكلا مجددا من الغناء العادي، لأنه يظهر كبنية شكلية، الوزن والقافية والسجع، وذلك لا يجيز لنا ان نعتبره بالضرورة شعرا على نحو جوهري.
ومن الامثلة على ذلك التأملات الميتافيزيقية للجنس الآري في الهند، فهي قد صيغت شعرا، كذلك علم الفلك والنظرية المصرية في نشأة الكون كتبت ايضا بشكل شعري، كما ان الطقوس باشكالها المختلفة والتي كانت تمارس قديما، كانت تخضع للايقاع وللون الشعري، حتى انها تحولت لدى الاغريق لتصبح التراجيديا والكوميديا الاثينية، الى ان وصلت الى شكل المسرح الشعري المعاصر باختلافاته. ومن غير المحتمل للعقل البشري ان يلغي الشعر المتطور والمواكب لحركة تقدم اللغة والادب والفن، لانه ليس نقيضا للعلم انما هو حقل آخر من حقول الفكر والخيال واللغة.
ان سبب ديمومة الشعر هو حاجة الانسان للخروج من محيطه المادي وتحليقه عاليا في سماء الفكر والحدس والخيال واللغة، فالإنسان ليس آلة تؤدي وظائفها فقط، انه يمتلك العقل والفكر وهما مصدر للابداع الذي يشكل علما وادبا وشعرا وفنا، وبدون عملية الابداع هذه الخاصة بالفرد، لا وجود للإنسان ككائن متميز عن بقية الكائنات.
كما ان الشعر هو الوعي الذاتي للانسان، ليس كفرد بل كمشارك للآخرين في عالم كامل من التفاعل المشترك، لكنه يحمل لدى كل فرد هدفا مختلفا.
وهذا المفهوم او الموضوعية الاجتماعية لدى الانسان تختلط بالموضوعية المادية عند كودويل فهو يربط موضوع الشعر بالتطور الاقتصادي ليحمله وظيفته ومضمونه الاجتماعي. فالشعر برأيه وعبر كل العصور، قد اختلف عن الطقوس الدينية، وذلك لانه منتج ومتغير، وهو بالتالي قابل للتطور. فشعر عصر من العصور لا يرضي عصرا آخر، وكل جيل جديد رغم اعجابه بالشعر القديم، إلا انه يطالب بالتحديث الشكلي والمضموني ليصبح الشعر تعبيرا خاصا ومتمايزا لمشاكله وطموحاته. وبهذه المطالب للتحديث يتشكل جيل متواصل من الأغاني والقصص والأساطير والملاحم والروايات التي تميز الحياة الشعرية، ليظهر الفن كزهرة على نبته اجتماعية تنمو وتتطور معها ككل، فهي تمتص النسغ نفسه وتمارس مهمتها في نمو نبتة المجتمع.
هنا تظهر قضية الحدس كأمر وهمي لدى كولدويل، لأن امكانية التغير المتواصل في الفن الشعري، يجعل متذوقه يقبل على الحدس كأنه تعبير عن الواقع الموضوعي، والشعر يجب ان يكون جزءا من العالم الواقعي، ويجب ان تمسح عنه صفة الحدس.
وبرأيي ان كل نشاط ذهني ينبع من الخيال والواقع المحيط بالانسان، مع اختلاف الانسان نفسه، وحسب تجليات الفكر لدى كل فرد. وبدون المدركات الحسية هذه والنابعة من المحيط، لن يوجد الفن ولا اي شيء آخر.
هنا يقول كريستوفر كودويل في نقطة اتفق فيها معه، “انه لا يمكن فصل الشعر عن المجتمع الذي يفرز نشاطه الانساني على وجه التخصيص.
أن تلك الاشكال من النشاط الانساني الاشد تغيرا والاقل اعتمادا على الغريزة، هي الاكثر سموا وانسانية والتناقض القائم ما بين الانسان الفرد او الطبيعي، والانسان المندمج المتمدن، هو الذي يجعل الشعر ضروريا، ويمنحه معناه وحقيقته. ومن المستحيل اللجوء الى التقييم الذاتي البدائي، لان النقد لا يمكن ان يوجد بين البدائيين غير الحاملين للوعي الذاتي”.
اما اذا نظرنا للعصر الاغريقي فنرى ان كل المفاهيم التي سادت ذلك العصر عن الشعر والتي جاءت على لسان افلاطون لا تختلف كثيرا عن مفاهيم عصرنا، حيث ان افلاطون عرفه بانه شيئ يختلف عن فن الخطابة الواعية او فن الاقناع الذي يمكن تعلمه. ومن المستحيل ان نفهم الشعر المعاصر، ما لم نفهمه تاريخيا، لذلك علينا ان نمر على العصور الشعرية العديدة التي ارتبطت بالتحول الاجتماعي، وفي هذا السياق يدخلنا “كريستوفر كودويل” في العصر الاليزابيثي وعصر النبلاء الى ان نصل الى مرحلة الثورة، حيث يذكر مجموعة من الشعراء المتحررين، منهم “ماتيو ارنولد، شارلز سوينبر، الفريد تنيسون”، هؤلاء الذين قد مثلوا حركة الثورة في المرحلة المأساوية من تاريخها. حيث حاول تنسون التوفيق ما بين عالم الجمال والعالم الواقعي الذي هو عالم البؤس، وعكست قصائده بنجاح المشاكل المعاصرة بلغة مجتمعه المعاصر.
لكن من جهة اخرى نرى ان “فريدريك انغلز” يطرح هذا بطريقة أقدم واكثر شيوعا، تمكننا من رؤية اصل وهدف الانتاج الفكري، حيث نرى القصيدة في مثل هذا المجتمع، تستمد قيمتها من مظهرها الجماعي، ومن التأثير الذي تمارسه على قلوب سامعيها.
فالشعر هو تاريخ انساني يبرز صراع الانسان مع الطبيعة، حتى يحدد “انسانيته”.
ومن يقول ان الشعر مادي ورمزي في نفس الوقت، فهذا نوع من التوافق الصحيح، لأن المادية ليست ضد الرمزية، فكل منها يكمل الاخر ويعطي مفهومه للآخر، وقد تكون اللغة الرمزية أقرب الى المادية عن طريق رفضها.
ففي علم الحساب نرى انه أكثر مادية من الجبر لأن رموزه اقل تعميما. ان الشعر ينظم المواقف الذاتية باكثر الطرق عمومية، والعكس صحيح، فهو يضع الواقع الخارجي كله في وعيه. فالشعر مادي ومخصص كما الحجة العلمية مادية ومخصصة، رغم ان هذه المادية والعمومية تشيران الى حقلين مختلفين من حقول الواقع.
والحقيقة لا يمكن الا ان تنطبق على الواقع، على الحياة المادية الواقعية، ومعنى ذلك ان العلم والشعر كلاهما صحيح وحقيقي لوجود تلك العلاقة الجدلية والنشطة بينهما.
وكما قال “برتراند راسل” ان معيار الرياضيات ليس الحقيقة بل الاتساق، ومعيار الموسيقى هو الجمال بالطريقة نفسها.
ان اللغة في كل نتاجاتها الشعرية والادبية والعلمية، تحتوي على مزيج من كلا الامرين. هذه الحقيقة تعود الى ان الانسان في حياته الفعلية، يكافح دائما وبنشاط، ليحقق البيئة التي تتوافق مع مجتمعه، وليحقق الاتساق مع الجمال، وكل ذلك ليعيش حريته. لذلك تاتي اللغة مطبوعة بالطابع الانساني، فياتي الاتساق ليكون فضيلة العلم، والجمال فضيلة الشعر، وكلاهما لا يستطيعا ان يكونا اتساقا محضا، او جمالا محضا، وبالتالي يكون ذلك الصراع الذي يدفع لتحقيق تطورها ونموها للأمام.
أما الشعر وهو الذي يهمنا هنا، فيتميز بمشاعر مكثفة، وهي مشاعر جمالية بالطبع، تختلف عن مشاعر ردود الفعل الانفعالية تجاه المعاني.