قصص مختارة من كتاب “أصوات من تيرا أوستراليس” للدكتور جميل الدويهي(3)

 

 

 

بعد كتابه “التأثيرات الشرقيّة في بواكير الشعراء الأستراليّين”، اول دراسة أكاديمية تتناول الأعمال الاولى لثلاثة شعراء أستراليّين قدامى، وكتاب “حكايات جدّة أبورجينيّة” الذي ينقل فيه ٣٧ حكاية من تراث الشعوب الأصلية، يطلق الأديب د. جميل الدويهي كتابًا ثالثًا يهتمّ بتاريخ الأمّة الأستراليّة، “أصوات من تيرا أوستراليس

ويلفت الأديب الدويهي إلى أنّ هذه الأقاصيص ليست أعمالاً مترجمة، بل هي تستند إلى معلومات تاريخيّة، وتعيد صياغتها في قالب قصصيّ وحواريّ. وهذا جزء من التراث الروائيّ للأديب الدويهي، الذي قد يكون ذات يوم موضوعاً مستقلاًّ لدراسات أكاديمية وعلميّة تتناول العطاء الثرّ والمميّز لمشروع الدوبهي أفكار اغترابيّة.

في ما يلي مجموعة من القصص المختارة من الكتاب:

 

 

 

“كنّاس المداخن”

 

عندما نشر المؤرّخ الأستراليّ المعاصر روبرت هولدن كتابه “أيتام التاريخ – الأطفال المنسيّون في الأسطول الأوّل”، لم يخطر في ذهنه أنّ جون هدسون البالغ من العمر تسع سنوات، لديه قصّة مأساويّة، قد يكون صعباً على المؤرّخين أن يكتبوا عنها كاملة، ولا يسقط منها شيء من الوجع.

حكاية مظلمة وقاسية، عن طفل تسوقه الأقدار آلاف الأميال، على متن باخرة مبحرة إلى بلاد مجهولة، من بلاد مجهولة أيضاً، على الأقلّ في نظر جون هدسون، البريء، الخائف من الغد، المضطرب من يومه، والجائع لكسرة خبز.

تافهة هي الدنيا، ولو عاد هدسون إلى الحياة اليوم، لكان وجد بالتأكيد من يقدّم له كسرة خبز، فلا يضطرّ إلى السرقة، وتنظيف المداخن القذرة في لندن.

هو أحد أطفال الثورة الصناعيّة في بريطانيا. وعلى الرغم من أنّه لم يولد في أنبوب، فإنّه لا يعرف من أبوه وأمّه. يتيم لفظته الدنيا في شارع الضباب. وركب على ظهره قدر عملاق، فكاد يحطّم عظامه.

الأطفال جبابرة فعلاً، لأنّ عقولهم الصغيرة ترفض التعب واليأس. فالأطفال لا ينتحرون ولو سكن الموت في وجوههم.

يسأل المؤرّخ هولدن: “عزيزي الله، كيف يمكنهم أن يفعلوا هذا؟ وكيف يمكن أن يكون هذا؟”… وربّما أسئلة إنسانيّة أخرى غصّ بها حلق المؤرّخ، هو يحاول أن يتصوّر كيف عاش هذا الصبيّ هنا؟ وكيف استطاع أن يحافظ على حياته وسط غابة من الذئاب؟ وهل بقي طفلاً حقّاً أم تحوّل إلى رجل صغير، بعد أن تآكل كلّ معنى للطفولة؟

وهل تعرفون ما هي الجريمة الكبرى التي ارتكبها القانون في ذلك العصر؟

إنّها من دون شكّ اعتبار أنّ الأطفال لا يختلفون عن البالغين، فالجميع مدانون ومنفيّون، والعمر ليس له اعتبار، أو يمنح الحقّ في معاملة خاصّة لأصحاب الرؤوس الصغيرة.

وإذا أضفنا حالة اليتم، والنفي، والفقر، إلى حالات أخرى موازية، كالمرض والعمل القسريّ في تنظيف المداخن، يمكننا أن نقدّر أنّ عذابات جون هدسون كانت أكثر من شعر رأسه، لكنّه صبَر على المأساة وابتسم.

ولعلّ الطفل المنفيّ كان محظوظاً، لأنّه نجا من بين عشرات الأطفال اليتامى الذين تضوّروا جوعاً وفاقة، وماتوا في برد الخريف اللندنيّ، أو بسبب الإهمال والمرض، أو نتيجة المعاملة القاسية.

وتعود بنا الذاكرة إلى العام ١٧٨٣، عندما مثل الطفل هدسون أمام القاضي، فسأله الأخير بنبرة حادّة، اهتزّت لها أوصاله:

هل تعرف القراءة والكتابة؟

أجاب بعد تردّد: كلاّ يا سيّدي، فإنّني أمّيّ… لم أدخل إلى مدرسة.

-كم عمرك؟

-تسع سنوات.

-ما هو العمل الذي تعرفه؟

-لا شيء… في بعض الأحيان أكنّس المداخن…

-هل لديك أب أو أمّ؟

-ماتا، وبقيت وحيداً…

-منذ متى؟

-لا أعلم.

-أخبرني بعد عن عملك…

-أنا يا سيّدي أحمل مكنسة سوداء، وحياتي لا تزيد بؤساً عن أقراني. فأغلب الأيتام يعملون في المطاحن والمناجم، لمدّة ١٢ ساعة في اليوم. وبعض هؤلاء الأطفال في سنّ الرابعة… أنا أفضل حالاً منهم.

-هل يقتصر عملك على تنظيف المداخن فقط؟

-لا… فنحن نزيل آثار الحريق عن الأنابيب، ونصلح الشقوق في الطوب. وقبضاتنا الضعيفة تتجرّح من الجهد المتواصل. وبعض الأطفال من أترابي ماتوا بسبب استنشاق الدخان، أو مرضوا. والأمر الأكثر صعوبة هو أن يدفعوا بنا إلى التنظيف من الداخل… أعني من داخل البيت.

-وكيف تفعل أنت ذلك؟

-أضع شمعة بين أسناني، وأتسلّق في داخل المدخنة إلى أعلى نقطة…

-فهمت… فهمت…

لم يتمكّن القاضي من التغلّب على دمعة انهمرت من إحدى عينيه، فأشاح بوجهه قليلاً، وتظاهر بالقسوة. وبعد صمت قصير نطق:

اسمع أيّها الطفل الصغير. لقد بلغني أنّك سرقت أشياء زهيدة… ألم تقتحم منزلاً وتسرق قميصاً من الكتّان بثمن عشرة قروش، وخمسة جوارب من الحرير بقيمة خمسة قروش، ومسدّساً بخمسة قروش أيضاً، ومريلتين بقيمة قرشين؟… إنّ عقوبة هذا التصرّف هي الإعدام. لكن لأنّك صغير جداً، فسأحكم عليك بسبع سنوات في سجن “نيوغايت”. وإذا ضاق السجن بالنزلاء، فسوف تنقل إلى سفينة على نهر التايمز…

بكى الطفل حتّى احمرّت عيناه، بينما كان رجال الشرطة يقتادونه من المحكمة إلى السجن الرهيب. وكان المدّعي العام يتنفّس الصعداء تعبيراً عن فرحه بالانتصار…

غادر جون هدسون إلى أستراليا بعد ثلاث سنوات من السجن، فقد أصبح الحديد ضيّقاً على ساكنيه… وكانت تلك بداية جديدة.

استقلّ أصغر المنفيّين، مع ما يقرب من ٥٠ طفلاً آخرين، وبعض المدانين من رجال ونساء، الأسطول الأوّل، ووصلوا إلى المستعمرة الأستراليّة في عام ١٧٨٨. وكان هدسون في ذلك الوقت يبلغ من العمر ١٢ عامًا.

وبموجب تقسيم المدانين بين البرّ والجُزر القريبة، نُقل الطفل إلى جزيرة نورفولك، قبالة الساحل الشرقيّ لأستراليا. وكان المنفيّون إلى الجزيرة من أصحاب السوابق في الاغتصاب، وإساءة معاملة الأطفال.

ومن هناك، لم يتمكّن المؤرّخون من معرفة أيّ شيء عنه. ما عدا أنّه تلقّى خمسين جلدة، ذات مرّة، بسبب وجوده خارج خيمته بعد الساعة التاسعة ليلاً. ثمّ انتقل إلى بورت جاكسون، واختفت أخباره… وأغلب الظنّ أنّه لا يزال إلى الآن ينظّف المداخن، ويرفع الدخان الأسود عن كلمة “عدالة”.

 

 

 

 

الفرار من المستعمرة

 

ماذا يستطيع المؤرّخ أن يضيف إلى الحدث، ما عدا بعض الشكليّات اللفظيّة التي لا تغني ، ولا تسمن؟

هذا ما فكّر به الكاتب، وهو يحاول تقصّي الأخبار الأولى عن أوّل محاولة للهرب من المستعمرة. وكان لديه هاجس، أن يظنّ القارئون أنّه ينقل فقط من كتب قديمة، ولا يضع في نصوصه أيّ شيء من براعته في الصياغة.

وهذا ما قاله لتلميذ له، يساعده في جمع المعلومات، لضمّها في كتاب روائيّ، يعتمد على التأريخ، لكن في صياغة فنّيّة.

-هل تعتقد يا معلّمي أنّ الإنسان الذي لا وطن له، يكون عدائيّاً؟

-ماذا تعني بأنْ ليس له وطن؟

-أقصد الذين يبتعدون من أوطانهم الأصليّة لظروف قاهرة، وينتمون إلى بلاد ليست لهم…

-فهمت… تعني أولئك المنفيّين إلى تيرا أوستراليس… نعم… نعم… هؤلاء يشعرون بالوحشة، لكنّ ما يتصرّفون به، تفرضه شخصيّاتهم الخاصّة، فلكلّ امرئ سلوك مختلف. بعضهم ينجحون في التجارة والمال والأدب، وبعضهم يجنحون إلى ارتكاب أعمال مخالفة للقوانين. وهكذا ينقسم المجتمع إلى فئتين متناقضتين، وتنشأ أزمات صعبة…

-لقد أنجزتُ ما طلبته منّي عن أوّل محاولة للفرار في المحيط… قصّة ماري برود – بريانت.

-عظيم. هات ما تعرفه عنها لأضمّه إلى كتابي…

-ربّما تكون هذه المرأة رائدة في التمرّد على الحياة في سيدني كوف… جاءت من كورنويل في بريطانيا، كان والدها مزارعاً نشيطاً، يعتمد على ساعديه المفتولين في تحصيل لقمة العيش. وفوجئ ذات يوم بأنّ ابنته البالغة عشرين عاماً من العمر، قد مثلت أمام المحكمة بتهمة قطع طريق، وسطو مسلّح على عمدة بليموث، حيث كانت تعيش أخت لها. وكان معها شريكتان في الجرم، كاثرين فراير، وماري هايدن. وقد استولت النساء الثلاث على قبّعة من الحرير ثمنها 12 قرشاً، وأشياء أخرى تتراوح قيمتها بين جنيه واحد وأحد عشر شلناً. واستبدل القاضي حكم الإعدام، بترحيلهنّ لمدّة سبع سنوات إلى أستراليا.

-معلومات رائعة فعلاً… وهل تعرف اسم السفينة التي رحلت ماري عليها، ضمن الأسطول الأوّل للمدانين؟

-نعم… السفينة شارلوت.

-علمت أنّ طفلاً كان معها أثناء صعودها إلى السفينة… هل هذا صحيح؟

-ربّما… يقال إنّها وضعت طفلها الأوّل في السجن في بريطانيا، ثّم أنجبت طفلاً آخر أثناء الإبحار… اسم الزوج لا أعرفه…

-لكنّها تزوّجت في أستراليا… من ويليام بريانت، المنفيّ الآخر بتهمة انتحال صفة بهدف الحصول على معاش بحّار.

-أهو بحّار أيضاً؟

-لا… ليس إلى هذا الحدّ. يمكن القول إنّه ينتمي إلى البحر. وفي نيو ساوث ويلز كان مسؤولاً عن الصيد. وعندما اكتشفت السلطات أنّه كان يبيع السمك إلى جانب وظيفته، حكمت عليه بالجلد مئة جلدة. وفي العام 1791، خطّط مع زوجته ومجموعة من الرجال للهرب من المستعمرة.

-قصّة جاذبة… وتدلّ على مقدار الخيبة والضيق الذي كان يشعر به الرجل، وزوجته بالطبع، إلى جانب سبعة من المنفيّين الآخرين… إنّ قسوة الحياة، والفظاعة التي صبغت تلك الحقبة، والحكم العسكريّ العنيف، وغيرها من عوامل نفسيّة، كالشعور بالتغرّب والقنوط والفقر… دفعت بهؤلاء إلى اختيار الطريق الأصعب… طريق الهرب.

المركب الصغير يتهادى على مياه قليلة العمق، وعليه الزوجان ويليام وماري بريانت، وبضعة أطفال صغار، والمنفيّون ويليام ألن، جايمس مارتن، صامويل بيرد، صامويل بروم الملقّب بالجزّار، جايمس كوكس، ناثانيال ليلي، وويليام مورتون… ومعهم كمّيّة من الطعام والماء، وشبكة للصيد.

قالت ماري لزوجها بعد إقلاع المركب بقليل:

الحمد لله. لقد نجحت خطتنا للهرب. وسنكون بمنأى عن النظام الصارم، والعمل الإجباريّ… لقد سئمت حياتي التي تشبه حياة عبدة.

نظر إليها الزوج، وهو يجذّف مع الرجال الآخرين:

أجل. هذا ما نريده. الخلاص… لكن لا تعتقدي أنّ هذه الرحلة ستكون سهلة.

تدخّل صامويل بروم الجزّار في الحديث، وخاطب ويليام قائلاً:

لا شكّ في أنّ السلطات ستكتشف أمرنا بين ليلة وضحاها، وسنكون في خطر شديد. ولكنّ البحر هائج وخطير أيضاً، فعلينا أن نبقى في محاذاة الشاطئ، خوفاً على الأطفال.

-حسناً… هذا ما سنفعله. ولن ننزل إلى الشاطئ إلاّ للحصول على الماء والطعام… فكونوا حذرين.

تسعة وستّون يومًا مضت منذ الإبحار من شاطئ بوتاني. والمركب المتهالك وصل بشقّ الأنفس إلى كوبانغ، في جزيرة تيمور الشرقيّة اليوم، التي كانت تخضع لسلطة الهولنديّين.

أحاط خفر السواحل بالمركب الواصل للتوّ من تيرا أوستراليس، ورفعوا بنادقهم، وسألوا الركّاب عن رحلتهم ووصولهم إلى هنا، فادّعى ويليام وزوجته ماري والرفاق، بأنّهم نجَوا من سفينة غرقت وتحطّمت، وساقتهم الأقدار إلى هذا المكان الذي لا يعرفونه…

وسرعان من انكشف كذب الهاربين، عندما وصلت السفينة البريطانيّة “باندورا” إلى كوبانغ، وسأل قائدها أدوارد إدواردز الهولنديّين عن مجموعة من الفارّين من تيرا أوستراليس، فأجابه الهولنديّون بأنّهم في السجن لديهم.

نُقل الفارّون إلى بريطانيا في رحلة طويلة ومرهقة، فقدت خلالها ماري زوجها ويليام، وطفليها أيمانويل وويليام، ثمّ ماتت طفلتها شارلوت، ويقال إنّ طفلين آخرين هما مورتون وبيرد قد فارقا الحياة أيضاً. أمّا طفلها كوكس فقد نجا.

وصلت ماري بريانت، والهاربون الآخرون ويليام ألين، وصمويل بروم الجزّار، وناثانيال ليلي، وجايمس مارتن إلى بريطانيا في 18 حزيران 1792. وكانت عقوبة الهروب من النفي هي الموت بشكل عامّ، ولكن بعد جلسات المحاكمة في لندن، أُمروا جميعاً “بالبقاء على حالهم السابقة”، أي في السجن. وكانت المفاجأة تبرئة ماري بعد أيّام، وإطلاق سراحها من سجن “نيوغايت” المشؤوم. كما أطلق سراح الرجال الآخرين بعد مدّة قصيرة. وعادت ماري إلى مسقط رأسها في كورنويل، وظلّت هناك حتّى وفاتها في العام 1795.

الساعة الثانية عشرة منتصف الليل. والكاتب ساهر على كتابه، وقد مضى التلميذ للتوّ إلى منزله، بعد أن قدّم له قصّة من التاريخ، تصلح موضوعاً للنشر. داهمه نعاس فتغالب معه. وقلّب صفحة في مجلّد قديم، لعلّه يجد حكاية أخرى عن التغرّب والانسلاخ، يكتبها في الغد. ومتى كان الحبر قادراً على نقل المشاعر والهواجس كلّها، فيقدّمها صورة حيّة، ويُقنع الناس بأنّها الواقع الذي يسير أمامهم على الأرض، أو يبحر على مركب متداعٍ، في الخضمّ الهائل؟

 

 

 

 

 أرابانو… الأسير الأوّل

 

 

هل يمكن الحديث عن الأسير الأوّل من الشعب الأصليّ، أرابانو، بغضّ النظر عن وباء الجدريّ الذي انتشر بين قومه، في بداية عهد الاستيطان؟

إنّ الارتباط بين الحالتين يفرض نفسه، فنحن في حدود العام 1789، ونتذكّر اللحظات الأخيرة من حياة الرجل الذي عاش إحدى وثلاثين سنة فقط. فبينما كان عند خليج بوتاني، يبحث عن أهله وأصدقائه، نظر حوله بقلق، فلم يجد أثراً على الرمال لأقدام بشريّة… ولم يكن هناك أيّ حركة تدلّ على إنسان حيّ من السكّان الأصليّين، فخطر له أنّهم فرّوا من المكان تجنّباً للعدوى، أو أنّهم مضوا لكي يدفنوا موتاهم. فرفع يديه وعينيه في عذاب صامت، قبل أن يصرخ: “كلّهم ماتوا! كلّهم ماتوا!”، ولم يمض وقت طويل، حتّى أطرق في حزن ورهبة، وكأنّه يرى الموت أمام ناظريه.

لحق أرابانوا بأهله في السنة ذاتها، إلى عالم الأرواح، وكأنّه لم يطق الحياة في انتظار عودتهم، وقد أصبح وحيداً ومهملاً في أصقاع كانت ملكاً لأجداده، فصارت ملكاً للمستوطنين الجدد.

بدأت الصدامات بين الطرفين، عندما أخذ المنفيّون البريطانيّون إلى سيدني كوف يضايقون الأبورجينيّين، فيصادرون شباك صيدهم وزوارقهم الصغيرة. فغضبت أمّة “إيورا” قليلة العدد، وحدثت مشاجرات طفيفة.

وكان المستوطنون الجدد قلقين بشأن الخلافات المستقبليّة مع السكّان الأصليّين. وتلك الخلافات أدّت فيما بعد إلى معارك دامية وحروب، كحرب نهر هاوكسبري التي امتدّت من العام 1794 إلى العام 1816. وعلى الرغم من تفوّق البريطانيّين، فإنّ السكّان الأصليّين تحالفوا، واعتمدوا على حرب العصابات، لكنّهم خسروا في النهاية، ونزحوا من المنطقة.

ولمع من بين الأبورجينيّين قادة أفذاذ، مثل “ويندراداين” الذي قاد المقاومة الباسلة لشعب “ويرادجوري” ضدّ الإنكليز في وسط نيو ساوث ويلز. وبيمولوي الذي قاد الهجمات في باراماتا.

وامتدّت القلاقل إلى أبين قرب كامبلتاون، ففي عام 1816، شنّ البيض غارة انتقامية ضدّ السكّان الأصليّين، فقتلوا أكثر من أربعة عشر من الرجال والنساء والأطفال. وهذه المذبحة هي تتمّة لمعارك نهر هاوكسبري. ووصلت المواجهات إلى تاسمانيا، فوقعت “الحرب السوداء” بين 1820 و1832، التي سقط فيها حوالي 900 أبورجيني و200 من المستوطنين.

كان الحاكم الأوّل أرثر فيليب يخشى أن تتطوّر المواجهات إلى هذا الحدّ من الدمويّة والخراب. ومع اقتراب عام 1788 من نهايته، كانت الإمدادات الغذائيّة البريطانيّة تتضاءل. وعلى الرغم من بدء تطهير الأراضي في باراماتا، لم يكن المستعمرون متأكّدين ممّا إذا كانوا قادرين على زراعة المحاصيل، بسبب غارات السكّان الأصليّين على المعسكرات هناك. ففكّر الحاكم في طريقة تمكّنه من إخضاع الأبورجينيّين من غير مواجهة مسلّحة.

نادى فيليب إلى الضابطين هنري بول وجورج جونستون، فحضرا على الفور، وقال لهما بلهجة حازمة:

خذا مجموعة من الرجال الأشدّاء، وجذّفوا إلى شاطئ مانلي، حيث يتجمّع السكّان الأصليّون… ووزّعوا الهدايا عليهم. وبينما هم يأخذون الهدايا منكم، اعتقِلوا شابّاً منهم، واختطفوه إلى هنا.

نفّذ الضابطان الأمر، وما هي إلاّ ساعات قليلة، حتّى كان الشابّ أرابانو، في خيمة الحاكم، والأصفاد في معصميه.

ثارت ثائرة الأبورجينيّين من اللعبة الخادعة التي نفّذها أرثر فيليب ورجاله. ولم يقتصر الأذى على الاختطاف الشائن فقط، بل تبعه بعد أسابيع قليلة انتشار مرض غامض، هو الجدري، أو بلغة الأصليّين “غالغاللا”. ولا يزال غير معروف إلى الآن، لماذا بعد تقديم الهدايا، واختطاف أرابانو انتشر ذلك الوباء القاتل؟

ويتساءل المتعاطفون مع قضيّة السكّان الأصليّين: هل انتقل الجدريّ عن طريق الهدايا؟ وهل جيء به من بريطانيا على متن إحدى البواخر، بغرض القضاء على السكّان؟ ولماذا لم ينتشر بين البيض على متن البواخر الأولى إذا كان هو عدوى فقط؟

“أيّها المحامي دايفيد كولينز. خذ معك طبيباً آخر، وأرابانو إلى بورت جاكسون. وعاينوا الوضع هناك، وإليّ بتقرير عنه فور عودتكم.”

قال الحاكم أرثر فيليب، فأظهر كولينز بعض التردّد، وكان بريق في عينيه تعبيراً عن خشيته من انتقال العدوى إليه…

-ولكن يا سيّدي…

-ولكن ماذا؟ نفّذ ثمّ اعترض…ولا تضيّع وقتي هباء!

خرج المحامي مرتبكاً، ومضى في مهمّته التي استغرقت ساعات قليلة، لم يجد خلالها سوى جثث في جميع أنحاء المرفأ. وكان أرابانو دامع العينين، لا يجرؤ على الكلام، فبين الراحلين أناس يعرفهم وأحباب له. وقد مضت ثلاثة أشهر منذ اختطفه البيض من بينهم، وها هو يعود إليهم ليجدهم في عداد الأموات. فما أتعس المقارنة بين الأمس واليوم!

سمع أرابانو من بعض الجنود البريطانيّين، أثناء أسره، أنّهم حاربوا من قبل في أميركا الشماليّة، وقد سمعوا بانتشار الجدري بين أعدائهم هناك، فأبحر في أفكاره، وتساءل عن السرّ الذي قد يكون خفيّاً ولا يجرؤ أحد على البوح به.

… تكرّ سبحة الأيّام، وأرابانو في الأسر. لم يكن بطلاً في الحرب، ولا مجاهداً في سبيل الحرّيّة. فالتاريخ لا يقول عنه سوى أنّه مواطن بريء ومسالم، لم يرفع حربة في وجه معتد، ولا خاض حرباً مع المحاربين. شابّ في مقتبل العمر، رمت به الأقدار، ليكون ضحيّة من الضحايا الكثيرين الذين ضاقت بهم الأرض والسماء.

كان المستشفى في المستوطنة، عبارة عن خيمة، فيها طبيب وممرّض. وقد حضر للتوّ رجلان من السكّان الأصليّين وطفلان، يعانون من الجدريّ. ولم يفلح الطبيب في إنقاذ الرجلين. لكنّ الطفلين، وهما فتاة تدعى “أبارو” وصبيّ يدعى “نانباري” حاربا الوباء بضرارة، وكان أرابانو يسهر عليهما، ويرعاهما حتّى نجيا، لكنّه أصيب بالجدري، وبعد أيّام قليلة أسلم الروح وهو ينظر إليهما بعطف ورحمة.

 

 

 

البطل ياغان

 

لو لم يكن ياغان بطلاً مشرّفاً لدى قومه، شعب نونجار، لما طالبوا باسترداد هامته المدفونة في مدينة ليفربول الإنكليزيّة.

القصّة بدأت في منطقة نهر سوان، في أستراليا الغربية. وكانت قبيلة ياغان لا تتعدّى ستّين فرداً. وقد أبصر هو النور بعد سنوات قليلة من بدء الاستيطان الأبيض. وترعرع في البيئة ذاتها التي احتضنت آباءه وأجداده، وتمتّع ببنية قويّة، وكان دقيق الإصابة بالرمح.

كانت العلاقات بين المستوطنين والقبيلة ودّيّة في البداية، لكن مع مرور الوقت، اعتقد المستوطنون أنّ شعب نونجار من البدو الرحّل الذين لا يحقّ لهم أن يطالبوا بالأرض التي يقيمون عليها. وعمد المستعمرون إلى تسييج الأراضي، فوقعت القسمة والخلاف. ووصل حرص البيض على الانفصال عن جيرانهم، إلى حدّ منعهم من الوصول إلى الصيد والأماكن المقدّسة.

اجتمعت القبيلة ذات ليلة صيفيّة، بينما كان ضوء القمر يستحمّ في النهر، وتشاوروا في ما يمكن أن يفعلوه، للحصول على الموارد والطعام.

قال شيخ: لقد صعبت الحياة علينا، فإمّا ننتقل من هنا، أو نواجه بالسلاح.

قال رجل آخر: لنقاتل ونطردهم من بلادنا.

-لكنّهم أكثر عدداً، وأقوى سلاحاً. ونحن ليس لدينا سوى رماح من الخشب، والبومرانغ التي قد تعجز عن قتل حيوان ضعيف…

انتفض شابّ أمرد، وقال بصوت عتيّ: نغير عليهم ونسرق المحاصيل في الليل.

وافقه شبّان في مثل سنّه. وانفضّ الاجتماع دون الوصول إلى قرار يتّفق عليه الجميع. بيد أنّ الشبّان عزموا أن يهاجموا المزارع القريبة، ويقتلوا المواشي. وكان زعيم أولئك الثائرين ياغان.

وبينما كانوا يتهيّأوان للهجوم في هزيع الليل، سمعوا وراءهم حركة، فتملّكهم الحذر والريبة. كان والد ياغان، ميدجيغورو، ما يزال ساهراً، فعلم بخطّة أبناء القبيلة. ولمّا جاء إليهم اعتقدوا أنّه سيحاول منعهم من مواجهة البيض، لكنّهم فوجئوا بطلبه الانضمام إليهم، والقتال إلى جانب ابنه، بل وقيادة التمرّد بنفسه.

كان الهجوم الأوّل على مزرعة يملكها الثريّ أرشيبالد باتلر، فتصدّى لهم عامل في المزرعة يدعى توماس سميدلي، فقتل واحداً من المهاجمين.

وبعد بضعة أيام، اقتحم ياغان ووالده ميدجيغورو وآخرون بيت المزرعة، فوجدوا الباب مغلقًا، وبدأوا بتحطيم الجدران. وكان في الداخل الخادم إرين إنتويستل وولداه، فأخفى الولدين تحت السرير، قبل أن يُطبق عليه المغيرون ويقتلوه.

ثارت ثائرة البيض، وأرسلوا قوّة لاعتقال ياغان وجماعته، لكن دون جدوى. وتكرّرت هجماته، فقتل رجلاً أبيض آخر قرب نهر كانينغ. وأعلن المستوطنون أنّه خارج على القانون، وعرضوا مكافأة للقبض عليه.

هل تغري مكافأة عشرين جنيهاً لاعتقال ياغان؟

سأل صيّاد أبيض رفاقه، بينما كانوا يرمون شباكهم. فأجابه آخر:

نحن نعرف أنّهم يأتون إلى هنا، فتظاهروا بأنّكم تعملون. وعندما ترونهم، اعرضوا عليهم المساعدة بأن يصعدوا إلى القارب…

-فكرة حسنة… هه… إنّهم قادمون…

نجحت خطّة الصيّادين البيض، المتلهّفين للحصول على المكافأة. وما إن صعد ياغان ورفيقان له إلى المركب، حتّى سارع البيض بالتجذيف إلى البحر العميق، وتمكّنوا من تقييد الثلاثة، ونقلوهم إلى فريمانتل، للمحاكمة.

حُكم على ياغان بالإعدام، لكنّ المستوطن النبيل روبرت ليون، انتفض أمام قوس العدالة:

سيّدي القاضي… هذا الرجل كان يدافع عن أرضه ضدّ الغزو، ولا ينبغي اعتباره مجرماً.

-نعتبره ماذا في رأيك؟

-أسير حرب… واقترح معاملته على هذا النحو.

فكّر القاضي قليلاً، ثمّ ضرب بمطرقته، وجأر:

إذن، نعتبره أسير حرب، وبدلاً من الإعدام، نحكم عليه بالنفي إلى جزيرة كارناك..

لمعت عينا روبرت بسحر، تعبيراً عن غبطته. لكنّ القاضي أردف:

وأنت يا سيّد ليون، ستصحبه مع جنديّين آخرين إلى الجزيرة. وتأكّد بنفسك أنّه لن يفرّ من هناك.

لماذا أنقذتني؟

سأل ياغان، فأجاب ليون:

إنّ التسامح من قيم المسيحيّة. وكم أرغب في أن تقتنع بهذه القيم، وتعتنق دين المسيح.

ضحك ياغان ضحكة صفراء، وقال:

أنت تريدني أن أكون مسيحيّاً، وتتحوّل قبيلتي كلّها إلى الدين. ثمّ تهون عليكم السيطرة علينا وإخضاعنا. هذا الأمر لن يحدث.

انكفأ ليون عن فكرته… وسلّم جدلاً بأنّ المحارب الأبورجينيّ عصيّ على المحاولة. وكم كانت دهشته عظيمة، عندما تمكّن ياغان ورفيقاه من الاستيلاء على مركب مهجور، والفرار على متنه إلى شاطئ أستراليا الغربيّة.

طلب القاضي حضور ليون إلى منزله، وعاتبه بالقول:

هل رأيت؟ لقد فشلنا بسببك… فكيف تريدنا أن نتصرّف الآن؟

-لا أعرف يا سيّدي. أعتذر إن بدر منّي ما ليس لي طاقة عليه…

حكّ القاضي رأسه، وتابع:

على كلّ حال، سنكفّ عن ملاحقتهم. يبدو لي أنّهم نالوا عقوبة كافية… لكن إذا ارتكبوا أيّة حماقة من جديد، فالإعدام سيكون مصيرهم… فلا تتدخّل مرّة أخرى.

انقضت فترة من الهدوء بين الجانبين، لم يتخلّلها سوى قليل من الاحتكاكات. لكن في أواخر نيسان من العام 1833، اقتحمت مجموعة من عشيرة نونجار متجرًا في فريمانتل لسرقة الدقيق، فأطلق عليهم الحارس بيتر تشيدلو النار. وأصيب شقيق ياغان، دومجوم بجروح بالغة، وتوفّى في السجن بعد أيام قليلة. وتعهّد ياغان بالانتقام لموته.

تجمع ما بين 50 و 60 مقاتلاً من نونجار قرب أحد الجداول، حيث كان نفر من المستوطنين يحمّلون عرباتهم بالمؤن. فأطلقوا النار عليهم، وقتلوا اثنين منهم.

إثر ذلك، أعلن الحاكم فريدريك إروين، أنّ ياغان ووالده ميدجيغورو، ورفيقهما مونداي، خارجون على القانون، وعرض مكافأة بقيمة 20 جنيهًا إسترلينيًا لكل من يتمكن من اعتقال ميدجيغورو ومونداي، ومكافأة قدرها 30 جنيهًا لإحضار ياغان حيّاً أو ميتاً.

استأنف مونداي ضدّ قرار الحاكم، وأثبت أنّه بريء من أيّ جنحة، فأعفي عنه. وفرّ الآخران شمالاً. وبعد أيّام ألقي القبض على ميدجيغورو، وأعدم رمياً بالرصاص. وظل ياغان طليقاً لأكثر من شهرين.

وبينما كان المزارع جورج فليتشر مور، يعمل في أرضه، شاهد ياغان في ممتلكاته. ارتعد المزارع وتراجع إلى الوراء، فيما اقترب منه الأبورجينيّ بهدوء، ووضع يده على كتفه بمودّة، وهو يقول:

“لقد أتيتم إلى بلدنا، وأخرجتمونا من مساكننا، وأزعجتمونا في احتلال أرضنا. وبينما نحن نسير في ديارنا، يطلق البيض النار علينا… فلماذا يعاملوننا بهذه الطريقة؟”

وسأل ياغان الرجل الأبيض عمّا إذا كان ميدجيغورو حيّاً أم ميتاً… فلم يجب مور، لكنّ أحد الخدم تجرّأ وزعم أن ميدجيغورو سجين في جزيرة كارناك.

في شهر تمّوز من ذلك العام، كان الشقيقان المراهقان ويليام وجايمس كيتس، يرعيان الماشية على طول نهر سوان، عندما اقتربت منهما مجموعة من الرجال يقودهم ياغان.

كان اللقاء سلميّاً في البداية، واقترح الأخوان كيتس أن يبقى ياغان معهما لتجنّب الاعتقال. وأثناء إقامته في منزلهما، قرّر الأخوان قتله للحصول على المكافأة. وبينما كان الرجال الأصليّون يستعدّون للمغادرة في الصباح، أطلق ويليام كيتس النار على ياغان، وأطلق شقيقه جايمس النار على الآخرين.

هرب الأخوان كيتس، لكنّ الأبورجينيّين طاردوهما، وتمكّنوا من القبض على ويليام، فطعنوه بالرماح حتى الموت. ونجا جايمس عن طريق السباحة في النهر. وبعد ذلك بقليل عاد مع مجموعة من المستوطنين المسلّحين، فوجدوا ياغان ميتاً، ورفيقاً له يحتضر، فصوّب رجل أبيض مسدّساً إلى رأسه، وأجهز عليه برصاصة.

حصل جايمس كيتس على المكافأة، إلاّ أنّ سلوكه تعرّض لانتقادات واسعة. وأشارت جريدة “بيرث غازيت”، بعد تلك الخيانة، إلى مقتل ياغان على أنّه “عمل وحشيّ وخائن، ومن المثير للاشمئزاز أن نسمع أنّ هذا العمل جدير بالتقدير”.

وغادر كيتس المستعمرة في الشهر التالي، ومن المحتمل أنّه فرّ خوفًا من انتقام العشيرة الأبورجينيّة. أمّا هامة ياغان، فقد نقلت إلى انكلترا، ودفنت في ليفربول. وأعيدت إلى أستراليا عام 1964، لدفنها بطريقة لائقة.

 

 

 

 

قرصان أميركيّ في محيط هادئ

 

عندما رست إحدى السفن الصغيرة المبحرة من تاسمانيا، على ساحل أستراليا الغربيّة، نزل منها مواطنون بيض، وهم يرتعدون ويثرثرون بأصوت خفيضة.

اقترب منهم رجل شرطة، وسألهم عمّا حدث لهم، فأخبروه بأنّ القراصنة هاجموهم في البحر، وسلبوهم ما معهم من أموال ومجوهرات.

كان الشرطيّ يسمع لأوّل مرّة عن قراصنة غاضبين في محيط هادئ.

“هل تمزحون؟”

-نقسم لك بالله أنّ قراصنة عتاة، يقودهم رجل أسود البشرة، قد اعتدوا علينا.

تفرّق الجمع مكفهرّين، وممتعضين ممّا جرى لهم أثناء الرحلة العاصفة. ولم يتوقّعوا أن تتمكّن السلطات من ملاحقة الأشقياء في البحار الواسعة، من أجل استعادة الحقوق المسلوبة.

شاع الخبر كالنار في الهشيم. وبدأ الناس يتناقلون الرواية، وكأنّهم غير مصدّقين.

أكّد أحد الركّاب أنّ عمليّة السطو قد حدثت بالقرب من أرخبيل ريتشرش، وهو مجموعة من الجزر الصغيرة، قبالة الساحل الجنوبيّ لأستراليا الغربيّة. وبينما كان يصرّح بالمعلومات للشرطة، كان زعيم القراصنة، جون بلاك جاك أندرسون، يتقاسم مع رفاقه الغنائم التي ظفروا بها في يوم عمل اعتياديّ.

كانت الشمس قد مالت إلى الغروب وبدت جزيرة ميدل آيلاند، كحبّة في عقد من اللؤلوْ، وأضفت عليها الشمس الغائبة صبغة حمراء بديعة، فقعد القراصنة تحت شجرة عجوز، نحتت جذعها الرياح البحريّة المالحة، وبدأوا يشربون ويتجاذبون أطراف الحديث. وكان بينهم قرصان شابّ قد انتسب حديثاً إلى المجموعة، فسأل زعيمه أندرسون:

هل حقّاً أنت أميركيّ؟

-نعم… نعم… ألا يبدو ذلك من لهجتي؟ أنتم أهل البلاد، لكم لهجة غريبة عنّا، ولديكم ألفاظ لا نفهمها…

-وكيف وصلت إلى هنا؟

كنت أعمل في سفينة أميركيّة للصيد تدعى “فيجيلانت”، في العام 1826، وبينما كنّا على الشاطئ الأستراليّ، وقع شجار عنيف بين البحّارة، وقُتل رجل منهم، فاتّهموني بالجريمة التي لا ناقة لي فيها ولا جمل… هل فهمت؟ أحياناً تسوق الأقدار الواحد منّا إلى خارج الزمان والمكان. ولذلك هربت مع زملاء لي يحبّونني، إلى الأرخبيل، وأنشأنا مخيّماً على هذه الجزيرة، فهي الوحيدة التي فيها مصدر للمياه العذبة.

-ألاحظ أنّكم أغنياء، على الرغم من الإنعزال الذي تعيشونه في وسط المحيط…

-صحيح… صحيح. فقد كانت هذه الجزر مكتظّة بأُسُود البحر وفقمات الفراء. وكنّا نبيع الفراء إلى السكّان عند الشاطئ. ثمّ نعود بسرعة إلى معسكرنا… وكما ترى أيّها الشابّ الوسيم، فنحن نهاجم السفن العابرة أيضاً، فكيف لا نكون أثرياء؟

-هل صحيح أنّكم اختلفتم مع الأبورجينيّين؟

-أنت تعرف يا بنيّ أنّ هذه المهنة فيها كثير من المتاعب، فليس أحد هنا ملاكاً، ولا أحد معصوماً من الخطأ… نعم… لقد قتلنا رجالاً من السكّان الأصليّين، واختطفنا نساءً…

-ولماذا لم يكتشف أحد مكان اختبائكم؟

كانت هذه الجزر التي يربو عددها على المئة غير مأهولة، فوجدنا فيها ملجأ مثاليّاً.

في تلك الحظة، ظهرت امرأة سمراء من خيمة قريبة، فانتبه أندرسون، وقام من مكانه إليها.

لقد رأى القرصان الشابّ هذه المرأة من قبل، وسأل عنها، فقيل له إنّها امرأة من السكّان الأصليّين أختطفها أندرسون وصديقه جون باثرست، وأصبحت زوجة لأندرسون. كما كانت له زوجة أخرى اختطفها من الأبورجينيّين أيضاً.

ذات ليلة، سمع القرصان الشابّ من رفاق أندرسون أنّهم باتوا ممتعضين من الحال التي وصلوا إليها. وعبّروا عن اشمئزازهم من المعاملة القاسية التي يعاملهم بها زعيمهم الآتي من ماساتشوستس في أميركا. وكانوا لا يعرفون شيئاً عن الكهوف والأنفاق التي حفرها مقرّبون من زعيمهم، وخبّأوا فيها كنوزاً. ولم تمض أيّام قليلة على ذلك الحديث، حتّى نشب عراك بين أندرسون وقلّة من المقرّبين إليه من جهة، وبين الثائرين على حكمه الجائر من جهة ثانية. وعلى الرغم من المسدّسات التي كانت على وسطه، وقد أفرغها جميعاً، فإنّ الكثرة غلبت الشجاعة، وسقط الأميركيّ مضرّجاً بدمائه، وانتهت واحدة من أساطير التاريخ الحديث لأستراليا، لكنّها أسطورة من عالم الحقيقة لا الخيال. ولا تزال جزيرة ميدل أيلاند حتّى الآن تستذكر تلك الفترة من الزمان، وتجوب فيها أرواح القراصنة الذين قضوا هناك، وهدير السفن العابرة، وأصوات ركّابها الذين يُظهرون السخط من فقدان ممتلكاتهم على أيدي الأشقياء.

ويعتقد العديد من الناس الآن، أنّ هناك كنوزاً مدفونة في أرض الجزيرة وكهوفها، ولا يعلم إلاّ الله كيفيّة الوصول إليها.

***

*يصدر الكتاب قريباً، وينشر على موقع النهضة الاغترابيّة الثانية jamildoaihi.com

اترك رد