الطاهر بن جلّون و”العقاب”

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

جذبتني إلى كتاب الطاهر بن جلّون” العقاب” جملتان وضعهما على صفحة الغلاف هما: كان العقاب رهيبًا. إنتظرت خمسين عامًا لأتمكّن من تأليف هذا الكتاب.

ظننت، للوهلة الأولى، أنّه يشبه كتابه الرائع” تلك العتمة الباهرة” الذي خصّصه لنقل معاناة السجناء في سجن تزمامارت الشهير، والذي استقبل المتآمرين على ملك المغرب بقيادة الجنرال أوفقير وقد كان يده اليمنى.

ولمّا كانت صور المعاناة المؤثّرة، التي نقلها بن جلّون ببراعة الروائيّ المبدع، وعرّبها الراحل القدير بسّام حجّار، مازالت عالقة في ذاكرتي عصيّة على النسيان، وتثير فيّ ليس الاشمئزاز والنفور فحسب، وإنّما الغضب الساطع وإرادة الثورة ورفض أيّ شكل من أشكال التسلّط والإرهاب، وتدفعني إلى تقديس الحرّيّة التي لا تفصل عن الكرامة الإنسانيّة، لكلّ هذه الأسباب، لم أتحمّس لتكرار تجربة القراءة التي قد لا تضيف شيئا إلى ما أعرفه عن سجون المغرب وظلم السلطات غير الديمقراطيّة الموصوف.

.jpg

ولكن، لمّا قرأت أنّ الكتاب ” سيرة روائيّة”، أقدمت على قراءته لاعتقادي أنّه سيكون مختلفًا.

لا أستطيع أن أكون قارئًا حياديًّا عندما يتعلّق الأمر بانتهاك حقوق الإنسان، لذا، قرأت الكتاب بمزيج من الرغبة في معرفة السيرة، والنفور من الظلم والتعذيب والاستبداد.

تحكي السيرة قصّة أربعة وتسعين طالبًا، الكاتب واحد منهم، سُجنوا مدّة تسعة عشر شهرًا، تحت حكم الحسن الثاني، عقابًا على التظاهر سلميًّا في آذار من العام 1965. لقد كانوا مسجونين داخل ثكنات، بدعوى الخدمة العسكريّة، تحت نير ضبّاط مكلّفين ب “إعادة تربيتهم” بأسوإ الأساليب، وأعنف الطرائق، وأذلّ أنواع المعاملة.

خرج الكاتب من السجن مدمّرًا جسديًّا ونفسيًّا، فليس من السهل التخلّص من آثار التعذيب وانتهاك الكرامة الإنسانيّة. لذلك نراه يكتب ” إسترجعت حرّيّتي، بعد أن كنت قد فقدت الأمل في ذلك… غير أنّ كتابة العقاب، والجرأة على الرجوع إلى تلك الحكاية، والعثور على كلماتها، تطلّب(ت) منّي ما يناهز الخمسين عامًا”.

الحكاية مقزّزة بقدر ما هي مشوّقة. أسلوبها أسلوب بن جلّون المعهود. لكنّ الندم يعتري قارئها بالعربيّة لأنّ المترجم” مصطفى الورياغلي” ركيك العبارة، يقع تحت تأثير اللغة الفرنسيّة، ويترجم حرفيًّا، ويخلط العامّيّة بالفصحى، والأمثلة كثيرة “لأنّ والديّ وقعا مريضين” و”يؤمّن السائق على كلامه بحركة من رأسه” و” أشكره لمرافقتي إلى غاية الباب” و” يمارس الضابط عليه الجنس” و” إنّه معسكر حيث يجب أن نتلقّى الضربات، فيزيقيّة ونفسيّة” وقس على ذلك.

al taher ben jalloun

الطاهر بن جلون

لا أحد يتوقّع أن يعامل السجناء كما لو كانوا نزلاء فنادق، لكنّنا نعلم أنّ أخطر السجناء الإرهابيّين يعاملون في الدول الراقية معاملة تأخذ بعين الاعتبار، إلى حدّ بعيد، مراعاة حقوق الإنسان. لذلك تجرى لهم بصورة منتظمة فحوصات طبّيّة، وتؤمّن لهم مستلزمات العيش الضروريّة، ويعطون إمكانيّة الدفاع عن أنفسهم أمام المحاكم و…

أمّا عندنا في لبنان، فللمسألة أكثر من وجه. هنالك تأخّر في المحاكمات، واكتظاظ في السجون، ونقص في العناية الطبّيّة و… لكنّ طبيعة نظامنا السياسيّ، مع كلّ ما يشوبه من نواقص، وطبيعة تركيبتنا الديمغرافيّة، لا تسمحان للقيمين عليه بالاستبداد الذي يسود في دول العالم الثالث، حيث يزجّ بالشباب في غياهب وغياهب لمجرّد كونهم معارضين.

ولا يعني هذا الكلام أنّني أغضّ النظر عمّا جرى بالأمس القريب، إبّان الحقبة السابقة التي تلت نهاية الحرب ووقع فيها نظامنا تحت تأثير نظام أمنيّ بغيض كانت له ممارسات مشينة أدّت إلى اقتراف جرائم بشعة وإخفاءات قسريّة، وأسهمت في دفع الكثيرين من الشبّان إلى الهجرة، وستظلّ عارًا على ممارسيها، عبّرعنه العديد من المؤلّفات التي أرّخت تلك الحقبة.

ما أشدّ حاجتنا إلى زرع مفاهيم حقوق الإنسان في نفوس أجيالنا الجديدة، وإلى كتابة التاريخ بتجرّد!

11/3/2019

 

اترك رد