نموذج ثقافي جديد للغد: علم تعدد أخلاق

العالم يتحول بسرعة في مختلف المجالات مما يساهم في بلورة نماذج ثقافية متجددة تواكب تطورات العصر وتستجيب لتحدياته. فهل يتمكن العرب من إبداع نموذج ثقافي جديد يعبر عن أصالتهم ويستوعب التجارب العالمية الراهنة؟

إنها عملية مركبة تتطلب معرفة علمية وإرادة باتخاذ القرارات التاريخية من أجل تغيير المفاهيم والأدوات والمناهج.

إن السمة الرئيسية للتطورات والتحولات أدت إلى تجاوز فرضية النموذج الأوحد، وغلبت حالة عدم اليقين. ولم يعد ميزان القوى العسكري والسياسي والاقتصادي هو المتغير الوحيد القادر على التأثير وتحديد النموذج الثقافي.

يشهد العالم حالة غير مسبوقة من انتشار القوة وانتقالها من القوى التقليدية الى القوى الصاعدة من دول ومن غير الدول، كما يشهد تعدداً في أشكالها. لذلك لم تعد قوانين القوة القديمة تصلح لفهم ميزان القوة بين الفاعلين. بالإضافة الى تحول المجتمع الصناعي المتمركز الى مجتمع المعلومات المنتشر بكل متطلباته من الشمول إلى الشبكات العنكبوتية.

وكشفت حالة الثورة المستمرة في العلم والمجتمع عن ديناميكيات معقدة لم تهتم بها أنماط التفكير التقليدية إما لنزوعها لتبسيط الصورة واختزالها للفاعل أو نتيجة عدم توافر معلومات دقيقة حول ما يجري في الواقع وما يحتوي على “مكونات موحدة” وتماهي الحدود بين القطاعات والمناطق خاصة بين ما هو دولي (من دولة) واقليمي وعالمي.

إن انهيار النظام العربي وتفكك المجتمعات وقلق الانسان زاد من دخول العالم العربي في حالة عدم اليقين وغياب النموذج الثقافي الجامع. خاصة وأن حالة عدم اليقين هي حالة عامة في العالم وسمة في النظام الدولي وتشمل مختلف القضايا والقطاعات. وهذه الحالة ولّدت نماذج تفكير جديدة منها السير العشوائي ومفهوم الفوضى الخلاقة ونهج التفكير خارج الصندوق وغيرها من النظريات التحليلية التي يمكن أن تساعد في تفسير حالة عدم اليقين وتكوين نموذج ثقافي متحرك.

مع عصر النهضة عرف العرب عدة نماذج ثقافية، تستلهم الغرب وتنبهر به أبرزها النموذج الإسلامي بتفرعاته والنموذج القومي بمدارسه المختلفة والنموذج الغربي بتياراته المتنوعة الليبرالية والاشتراكية والوجودية. هذه النماذج كانت أحياناً تتداخل بصيغ توافقية وثنائية متناقضة. لكن مع مرور الوقت هذه النماذج فشلت، ووصل الفكر العربي إلى طريق مسدود نتيجة لما يشهده العالم اليوم من تحولات سريعة على كافة الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية والفكرية والقيمية والفلسفية والتكنولوجية الرقمية. وبما أن العرب معنيّون مباشرة بهذه التحولات والتحديات، بدأ التفتيش عن نموذج ثقافي جديد يخرجهم من حالة الاغتراب والحيرة، يجمع الأصولية مع الحداثة حتى يحضن هويتهم الخاصة ويدخلهم في مسار العولمة. خاصة وأننا نعيش في زمن ما بعد الحداثة ونشهد فيه تحولات متسارعة، محكومة بسرعتين متناقضتين واحدة باتجاه الماضي والثانية نحو المستقبل.

والآن داهمتنا تغيرات معاصرة  متطورة جداً في العلوم لكننا نلحظ مفارقة جوهرية هو أن هذه التحولات متفاوتة في المكان والزمان. فهي تغيرات متباينة في المكان، فالمناطق والأقطار العربية تشهد انعكاساتها بشكل متعارض ومتباين. كما أن هذه المتغيرات مازالت في صيرورة لا يربطها زمن واحد ولا يحدها استقرار أو ثوابت واضحة المعالم والتأثير.

ومن هنا يبرز التحدي الكبير: كيف نبني نموذجاً ثقافياً يكون قدوة للزمن الآتي في ظروف اقتصادية وسياسية واجتماعية متداخلة ومتغيرة؟

مما لاشك فيه أن الهويَّة الثقافيَّة تشكل لأيِّ مجتمعٍ الإطارَ النفسي والفِكري العام الذي يعبِّر عن وجوده الاجتماعي؛ فلكلِّ أمَّة من الأمم ثوابت تمثِّل القاعدةَ الأساسيَّة لبنائها، وفي طليعة هذه الثوابت تَأتي الهويَّة باعتبارها المحور الذي تتمركَز حوله بقيَّة الثوابت، وهي نتيجة للتفاعُل بين مجموعةٍ من العوامل الفكريَّة والمعرفيَّة، التي تحكم سلوكَ أعضائه، وتوجِّه حرَكتهم، وتحدِّد لهم مساراتهم المتعدِّدة في الحياة، ووعيَهم، وطبائعهم وأمزجتهم، وتصوراتِهم عن الكون والوجود، ومعايير السُّلوك، ونظامَ القِيَم واجبَ الاتِّباع .

يواجه العالم العربي أزمات وانقسام، وتدمير ذاتي على المستويات كافة، مما يدعو إلى الرثاء والتشاؤم، ولا سيما وأن الآفاق تبدو مسدودة، وكل الحلول المحتملة بعيدة عن التحقيق. وهذه الحالة السوداوية تنعكس فيما نشاهده من صور في شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام.

ولعل أهم الأسئلة هي كيف يمكننا تحويل الوضع المتردي إلى وضع أحسن، وفي أقرب الآجال، وبخسائر محدودة، وبنتائج مضمونة. هذا هو الإشكال الذي نفكر فيه، ونحن نعيش بلا بوصلة ولا نموذج معرفي أو ثقافي نهتدي به في واقعنا ومآلنا.

بداية ما هو النموذج الثقافي في عصر تجاوز فكرة التخصص ويتجه الى تكوين الصورة الشاملة.

الثقافة أضحت جزءاً من النماذج الفكرية، وما يحويه العقل، ويعيه بعض الناس في فترة من الزمن وفي مكان محدد. يرتبط النموذج الثقافي بسؤال حول كيف يمكن تحديد هؤلاء الناس المعنيين الذين يشتركون في مجموعة من الأفكار المترابطة والمتفاعلة مع قطاعات الحياة المتطورة باستمرار فتشكل بتميزها على أساس الحالة التعليمية والطبقية، والديموجرافية المرتبطة بمستوى الوعي والالتزام والانتشار والتي تنطلق من فئات متمايزة وصولاً الى الثقافة الوطنية المتكاملة الجامعة على قاعدة نموذج ثقافي معبر عن تنوعها واختلافاتها. النموذج الثقافي يرتبط بالدولة والمجتمع والإنسان وهذه المستويات غير موحدة وغير متفق على مفاهيمها بعد.

سوف نستعرض بعض التحولات في العلم والمعرفة ومدى تأثيرها على تكوين البنية الفوقية ولاسيما النموذج الثقافي الجديد:

1-    حالة الفوضى  والعشوائية

يطرح علماء اليوم كيفية درس السلوك المدهش والمعقد للنماذج التي تبدو بسيطة. وتبشر بعالم جديد رسمته العلوم الحديثة بأشكال (متعرجة ومتداخلة ومترابطة ومتفككة وملتوية ومُكسرة ومتكررة ومتغيرة) وهي تُعبر عن مبدأ سائد في الطبيعة مثل “الأشكال التكرارية المتغيرة” Fractal.

وعندما تقصى علماء الفوضى أصول نظريتهم، وجدوا أنها تتصل بأعمال فكرية عدة في تاريخ العلم والثقافة. وظلت مقولة “أثر جناح الثقافة” أفضل نقطة انطلاق لهذه الثورة العلمية الجديدة.

جايمس غليك في كتابه “نظرية الفوضى”  يرى أن نظرية الفوضى (كايوس) تبتدىء من الحدود التي يتوقف عندها العلم التقليدي ويعجز. فمنذ شرع العلم في حلّ ألغاز الكون، عانى دوماً من الجهل بشأن ظاهرة الاضطراب، والتقلبات في الأنواع الحيّة، والتذبذب في عمل القلب والدماغ. إن الجانب غير المنظم من الطبيعة، غير المنسجم والمفاجىء والانقلابي، لم يجد له العلم حلاً مادام في فوضى عبثية غير متناسقة.

لكن هذه الصورة شرعت في التغير تدريجياً في سبيعنات القرن العشرين، عندما همت كوكبة من علماء في الفيزياء والرياضيات والبيولوجيا والكيمياء، سعوا للإمساك بالخيوط التي تجمع ظواهر الفوضى وتداعياتها.

تجاوزت نظرية الكايوس الحدود الفاصلة بين الاختصاصات العلمية. واستطاعت أن تجمع مُفكرين من حقول علمية اعتبرت متباعدة تقليدياً. فقد هيمنت أزمة على العلم بسبب توزعه إلى اختصاصات تتفرع منها اختصاصات أخرى.غيّر الكايوس تلك الصورة جذرياً، بحيث سار بالعلم في الاتجاه المعاكس للتوزع على الاختصاصات المجزأة إلى الطبيعة الكلية للنظم. تتميز الكايوس بأنها تتناول العالم المُباشر الذي نراه ونحسه، وتنظر إلى الأشياء على مقياس الانسان.

يقول جون فون نيومان : “لا ترمي العلوم إلى الشرح، ولا تحاول التفسير، بل تُركز على صنع النماذج. ويتألف النموذج من بناء رياضي يتحدد بقدرته على العمل”.

لم يعد باستطاعة الباحثين في مجال الوعي الإنساني، استعمال نماذج ساكنة لوصف تركيب العقل. لقد باتوا يدركون وجود تراتبية للأبعاد، على أساس الديناميكيات المعقدة.

2-    حضارات جمعية وتعددية

يمكن للحضارة أن تزدهر من جذور كثيرة، يمكن للآلهة أن تحمل أسماء كثيرة…لا أحد منها يملك المفتاح. ليس ثمة أي شعب مختار”. فوسكو مارايني (مقتبس في آيزنشتادت 5:1996).

كان مفهوم الحضارة، بالمفرد، اختراعاً أوروبياً ينتمي إلى القرن الثامن. وقد وفر هذا المفهوم أساساً لنقاش عن “معيار حضاري” عُدّ حالة “لا سيرورة”، فمركزية أوروبا وأميركا أدت إلى تجاهل وإلغاء الحضارات الأخرى.

فثمة عالم حضارات جمعية متجذر في نسق أوسع لم يعد قابلاً لأن يتحدد بمعيار أو نموذج واحد معبر عن تراتبية أخلاقية – معنوية صارمة. إن التعددية الداخلية للحضارات، وتعايش الحضارات وصراعها أحياناً هو سمة العصر.

فالحضارات تتطور تدريجياً متجاوبة مع تعدديتها الداخلية من ناحية وتفاعلاتها الخارجية المتجاورة (كوكس:220،217). وهي تعبر عن أنماط مختلفة من الفكر تقوم على دمج عناصر منفصلة، متداخلة وأمكنة مختلفة؛ وتصورات متغايرة للعلاقات بين الفرد والجماعة؛ و فيما بين البشر والطبيعة والسماء (الآلهة)، والكون.

3-    عصر التعقيد العالمي

لكل قرن، فيما يبدو، عصره الخاص به. فقد أُطلق على عصر النهضة، اسم عصر المغامرة. وجاء عصر المنطق في القرن السابع عشر، تلاه عصر التنوير. وكان القرنان التاسع عشر والعشرون عصري الأيدلوجيات والتحليلات، على التوالي. أما القرن الحادي والعشرون، فهو عصر التعقيد. معظم البشر تحاصرهم مشاعر اليأس والإحباط، بسب التحديات التي نبدو عاجزين عن مواجهتها، بدءاً من التلوث والتغير المناخي والراديكالية والإرهاب والتفاوت الاقتصادي والسلطة السياسية المدمرة مما زاد الإحساس بالعجز.

من ناحية، تقدمت العلوم والتكنولوجيا إلى الحد الذي يستطيع فيه الإنسان خلق حياة من خلال تقنيات التعديل الجيني، وتصميم أنواع جديدة. يتوقع عالم المستقبليات يوفال نوح هراري الظهور الوشيك “للهومو ديوس”: وهو نوع من البشر يستطيع أن “يلعب دور الإله” عن طريق التحكم في الطبيعة بوسائل لا حصر لها، بما في ذلك تأخير الموت وقهره في نهاية المطاف.

تصرفت البشرية لفترة طويلة في إطار نموذج الحتمية والقوانين الصارمة. بيد أننا لم نكتشف أي قوانين أو معادلات طبيعية تفسر كيف تطورت الحياة لتصبح على وضعها الحالي،  ناهيك عن التنبؤ بكيفية تطورها في المستقبل. لقد بلغت الحتمية منتهاها، ليحل محلها نموذج يكون الشك فيه مقبولا بوصفه حقيقة لا يمكن التقليل من شأنها في الحياة.

وفي العلوم الطبيعية، يحدث هذا بالفعل. حيث قُبلت نظريات ميكانيكا الكم والنسبية العامة والشك بوصفها طريق المضي قدما في الفيزياء والرياضيات. أما في علم الأحياء وعلم الأعصاب، يتزايد استحسان النظرية القائلة بعدم وجود “صيرورة محددة مسبقا” كما يقول عالم الأحياء ستيوارت كوفمان.

ولكن في العلوم الاجتماعية – من الاقتصاد إلى السياسة – لم يحدث هذا الانتقال بعد. لا يزال الاقتصاد يسير في مسار خطي على نطاق واسع، مسترشدا بالإطار الحتمي لنيوتن في القرن الثامن عشر. ولكن النظريات الآلية لا يمكنها التعامل مع النظم الحية والمعقدة والكمية غالبا. في الواقع، يعد المنطق الاختزالي القائم على الافتراضات التبسيطية، التي تتحكم في الاقتصاد هذه الأيام منطقا منقوصا في أحسن الأحوال، ومن المحتمل أن يكون مغلوطا في جوهره.

وبالمثل، في السياسة، نستمر في صراعاتنا حتى نصل إلى حلول منهجية، لا سيما أننا لا نستطيع في الغالب الاتفاق بشأن طبيعة المشكلة المعقدة التي نواجهها. يعكس هذا التصرف جزئيا الطبيعة العالمية للتحديات الحالية وتنوع وجهات النظر التي يجب التوفيق فيما بينها. والأكثر أهمية من ذلك، يعكس الحقيقة القائلة بأن البشر ليسوا عقلاء طوال الوقت – وهي حقيقة سيسعى “اقتصاد عصر التعقيد” الجديد إلى بذل المزيد من الجهد للاعتراف بها.

ومن أجل وضع رؤية عالمية جديدة لنوجه مستقبلنا، يحتاج العالم إلى وجهات نظر أكثر شمولية تقبل التعددية والتنوع وتعكس تعقيدات الاتجاهات العالمية الحالية وتعززها.

إن السلوك الإنساني ينبثق من كل شئ بدءاً من السياسة والاقتصاد وحتى الزراعة وعلم النفس – وحتى من التكنولوجيا ذاتها. ففي عصر التعقيدات، تتطلب المؤسسات التي نبنيها وندعمها نهجاً منظماً ينبثق جنباً إلى جنب مع العلوم الطبيعية التي تتقدم بسرعة.

يستحيل بناء النموذج الثقافي بدون مشاركة الجميع في فهم ما جرى وما يجري وتفسيره بالشكل الملائم الذي ينجم عنه التغيير. إن النهضات والتحولات الاجتماعية الكبرى خرجت من رحم تجارب مريرة عاشتها الشعوب والأمم، عن طريق بناء نماذج ثقافية تشارك فيها كل الفعاليات الاجتماعية والسياسية والثقافية والعلمية.

4-    الوحدة والتعدد في الفكر العلمي الحديث:

يشكل العلم ركيزة المجتمعات الحديثة المتطورة والذي تجب دراسته لفهم أساس هذه المجتمعات. الغرب حاضر فينا إلى حد التبعية والتقليد، وبالتالي، اهتماماتنا الفكرية تأتينا من الخارج أكثر مما تنبع من الداخل، أي من المشكلات الواقعية التي تطرحها مجتمعاتنا العربية. ومن أجل جعل الحضور العلمي فينا حضوراً واعياً يجب العمل على استيعاب المشكلات التي يطرحها العلم والعمل على أساسها.

إن حاضر الفكر العلمي الحديث في الغرب هو حاضر كل البشرية، ولا يمكن أن نهرب منه إلا إلى احتضانه بأشكال مقنعة. إن الفكر العربي المعاصر يعيش ما يسمى بأزمة العجز عن إنتاج المعرفة والإمساك الذهني بواقعه.

ونعتقد أن هذه الأزمة لا يمكن تجاوزها إلا بتبني أربعة مواقف متكاملة:

1-    الدراسة النقدية لا الانفعالية، للفكر الغربي.

2-    الدراسة الموضوعية، لا الانبهارية، للتراث العربي.

3-    فتح سجال واسع وعميق حول عوائق الفكر العربي المعاصر وآليات عمله الراهنة.

4-    ربط الفكر بالواقع المتخلف وجعله في خدمة التنمية والمعرفة المستدامة.

إن الفكر العلمي وتجلياته الثقافية لا يمكن إلا أن تكون متعددة، فما يعطي الحياة والقوة للنموذج الثقافي هو التعددية ذاتها، وليس الوحدة النمطية الساكنة.

من هنا نفهم لماذا يرفض المفكرون والمبدعون عموماً من علماء وفنانين وأدباء، أن يوصفوا في الغالب بهذا المذهب أو ذاك، ذلك أن مثل هذا التصنيف دائماً تعسفي، لأنه يهمل كل عناصر التعدد أي عناصر الغنى، ويجعل منهم لافتات باهتة أو شخصيات محنطة داخل خانات بلا حياة تسمى المذاهب أو المدارس. إن كل فكر مبدع، سواء في مجال العلم أو الفلسفة او الفن او الأدب، يبقى على الداوم أغنى وأوسع من كل تصنيف من هذا النوع.

ولهذا السبب فإن الفكر المتتبع للتعدد من خلال علاقته الجدلية بوحدته، وليس المتتبع للتعدد ولعاً بالتعدد وحده، هو أقدر أنواع الفكر على إدراك ما في كل إبداع فني أو فكري، وفي الحياة كلها، من غنى وحيوية. كما أن الأصالة أو التميز، ليست سوى الطريقة التي تنتظم بها عناصر التعدد في مواجهة المشكلات المطروحة، وما ينتج، عن طريقة الانتظام تلك وعن هذه المواجهة، من جديد.

فكر الوحدة التعسفي عاجز إذن عن إدراك أصالة الابداع الفكري والفني، وكل ما هو جوهري وجديد في كل موضوع من مواضيع الحياة ولاسيما الثقافة.

فقدان النموذج الثقافي في العالم العربي

هذه التحولات والتغيرات تفرض نفسها على حركة الفكر وتطرح سؤالاً ملحاً: هل في العالم العربي نموذج ثقافي للغد وما هي التحديات التي يواجهها والقواعد التي ينطلق منها؟

كثيرة هي الملتقيات الثقافية التي تقيمها عواصم ومدن عربية، ولكن في المقابل قليلة نتائجها العملية على أرض الواقع، وهذا يعكس ثقافة سلوكية شاعت ولا تزال تزدهر في العالم العربي، وهي كثرة الأقوال مقابل قلّة الأفعال، لذلك كانت هناك حاجة للبحث عن النموذج الثقافي وتجديد الخطاب.

في الحقيقة هناك طموح لتأسيس خطاب ثقافي جديد، ولكن هناك عقبات كبيرة، لم يتم التصدي لها بجدية، بل تسود الشكلية والسطحية في معالجة مثل هذه المشكلات، من أجل “وضع استراتيجية لخطاب ثقافي عربي يكرس أنماطا ثقافية يفتقدها مجتمعنا في الوقت الحالي وصياغة رؤية متقدمة لسياسات ثقافية تكرس قيم الاستنارة والانفتاح على ثقافات العالم وسط بيئة ثقافية تعاني من افتقاد التنمية وانتشار ثقافة العنف والجنس وإدمان المخدرات. لذلك علينا أن نضع خطوطا عريضة لسياسات ثقافية متجددة ونقاطا لبرامج عمل لنشاط ثقافي يتوافق مع مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي”.

يقول وزير الثقافة الجزائري عز الدين ميهوبي: “إن أول ما يستوقفنا عندما نحاول صياغة دقيقة للمآلات التي انتهت لها مشاريع التجديد التي بدأت منذ رواد النهضة وزعماء التجديد هو أن هذه الخطابات كانت دوما ردة فعل على محرك خارجي وعدو أجنبي أي فوبيا عكسية بمعنى أنها لم تكن نابعة من رغبة داخلية بضرورة التغيير والتحول ولم تنطلق من روح المبادرة والاستشراف. لذا فإن الخروج من هذه الحالة يحتاج إلى إعادة بناء علاقاتنا مع الواقع والعالم وتغيير أدوات خطابنا بحيث لا يكون هناك انفصام بين العالمين عالم الوقائع والأشياء وعالم النظريات والتصورات. وبناء على ذلك فإن تجديد الخطاب الثقافي لا يجب أن يتم فقط على مستوى المفردات والمصطلحات والمفاهيم المستهلكة، ولكنه تجديد في الممارسة “.

من جهة أخرى يقول الروائي الجزائري الأعرج واسيني حول غياب النموذج الذي يحتذى به في العالم العربي:” إن كل قارات العالم تقريباً بها نموذج يحتذى به في تجديد الخطاب الروائي وتطويره إلا أن الدول العربية تفتقد لمثل هذا النموذج … فالنموذج العربي العام الذي كان موجوداً من حيث الفاعلية الثقافية والحضارية أعتقد أنه توقف منذ قرون.. وقد أستطيع أن أحدد هذا التوقف الأول عند لحظة الهزيمة الأندلسية.. ما جاء بعد ذلك جهود لا يمكن بالطبع نكرانها لكن في ظل التمزق وظل التيه وظل الأحاديات التي نشأت سواء الاجتماعية أو الدينية أو السياسية لم تسمح بالقفز بهذه الثقافة”.

وتابع قائلاً: “تنشأ الرواية العربية اليوم داخل نسق من الخوف واليأس بعد الانكسارات المتواترة بما فيها انكسار الثورات العربية التي كان يمكن أن تنشئ شيئا جديداً أو توفر على الأقل معطيات جديدة لكن للأسف هذه المعطيات ظلت غائبة لأن هذه الثورات.. وهذا رأيي الشخصي.. أجهضت قبل أن تنتج شيئاً جديداً”.

وضرب مثلاً بأحد هذه التحديات قائلاً: “كيف تواجه الرواية العربية مشكلة تفجر الهويات.. عندنا مشاكل عرقية ومشاكل طائفية ومختلف المشاكل والمزالق فيها كثيرة.” وتابع متسائلاً: “ما هو الدور الذي يجب أن يلعبه الفعل التخييلي كدور تجديدي.. في الدفع بهذه الأشياء إلى الأمام.. لذلك أقول إن المسؤوليات كبيرة والمزالق كثيرة”.

في جميع الأحوال هناك حاجة فعلية لتجديد الخطاب الثقافي في العالم العربي، ولكن يبقى المختبر الحقيقي لنتائج مثل هذه الملتقيات هو الواقع الفعلي وليس الكلام النظري والبحوث والبيانات التي لا علاقة لها بالواقع العربي الفعلي.

رغم هذا المأزق، جرت محاولات عديدة معاصرة من أجل استنباط نموذج ثقافي جديد. وسأكتفي هنا بالإشارة الى حالة الخليج نموذجاً:

ظل النموذج الثقافي الذي تطرحه دول الخليج مُحيراً لكثير من الكُتَّاب الأوروبيين، فمجتمعات الخليج تجمع في طياتها بين الأصالة والمعاصرة، وبين الزيّ العربي المُعبِّر عن الثقافة البدوية القديمة، وبين البنايات الشاهقة المُصممة على النمط الأوروبي؛ الأمر الذي دفع إلى البحث في تلك النماذج الثقافية للتعرف على طبيعتها وكيفية تحقيقها لهذه السمة على أرض الواقع.

في هذا الصدد، يأتي كتاب “ميريام كوك”  Miriam Cooke، الباحثة المتخصصة في دراسات الشرق الأوسط بجامعة ديوك الأمريكية، تحت عنوان: “الحداثة القبلية.. صناعة نماذج جديدة لدول الخليج العربي”، ليسلط الضوء على النموذج الثقافي لدول الخليج ومدى تفرده، متتبعاً كيف انتقل هذا النموذج من القبلية إلى الدولة المعاصرة، وكيف استطاع في نفس الوقت الحفاظ على ثقافة القبيلة وعاداتها، بما جعله يخلق هُوية خاصة به، ميَّزته عن سائر المجتمعات الأخرى.

ما يواجه النموذج الثقافي الخليجي يواجه النماذج العربية السائدة والمازومة .

النموذج الثقافي لم يعد حالة نظرية افتراضية بل ينظر إليه من خلال الممارسة والتطبيق العملي وهو موجود داخل عدة دوائر تغذيه وتعطله نتيجة تعقد العالم وحالة الغموض العالية. وكل حدث يولد سلسلة متتالية من الأحداث ليس بالضرورة داخل الدولة في ذاتها بل في الأقليم والعالم فتتولد كرات الثلج، وبالتالي بات التطور نتاج قفزات متتابعة ومرتبطة ومتفاعلة عبر وسائل الاعلام والتواصل والوعي المتشابك في ثورة المعلوماتية والتكنولوجية والعلوم على انواعها فأضحى العالم أكثر تعقيداً ولم يعد من السهل فهمه أو استيعابه، مما ولد حاجة إلى وجود نموذج يراعي العشوائية التي تتجاوز الحتمية والنمطية والتفكير الكلاسيكي.

النماذج الثقافية التقليدية رأت أن العالم يتألف من دول باعتبارها الفاعل الوحيد المؤثر فيه وهي تسعى إلى أنظمة راشدة لضبط سلوكها وقدراتها وفق قوانين محددة وهي تنزع إلى التوازن واستبعدت تأثير الأخلاق والقيم وأغفلت أهمية دور فاعلين من غير الدول المؤثرين في العالم، بينما التطورات أبرزت دور منظمات وكيانات تمتلك القدرة العسكرية  والتأثير الإيدلوجي مثل حزب الله والاخوان المسلمين والشركات العابرة للقارات والمنظمات على أنواعها.

هذه الأوضاع ولدت حالة عن كيفية عمل النظم المعقدة من حالة التوازن الى حالة الأزمة لأن كل نظام يحتوي على سلوك منظم وأخر فوضوي. مما يؤدي إلى بروز نماذج ثقافية على قياس هذه المكونات الفاعلة لذا غدا تجاوز النماذج والإنماط المعروفة أمراً ضرورياً.

النماذج الثقافية التقليدية افترضت أن العالم يتألف من هياكل اجتماعية منظمة وفق قوانين الحتمية بينما التحولات المعاصرة أدت إلى ضرورة بناء نماذج ثقافية جديدة تفتقد أي معنى بدون الهوية والقيم.

قواعد والتحديات بناء نموذج ثقافي جديد

من التحديات التي تواجه بناء نموذج ثقافي عملي هو أن الدولة لم تعد الفاعل الوحيد خاصة مع تفكك الدولة في العالم العربي وبروز كيانات عابرة للحدود ولها تأثيرها ودورها على الدولة، كما أن مكونات المجتمع من أحزاب وجماعات سياسية ودينية  واقتصادية واتنية لها فعلها وأهميتها، بالاضافة الى حضور الانسان بما يملك من طاقات خلاّقة وقدرة على التمرد والتجدد والإبداع وإمكانيات على الفعل والتأثير.

ومن التحديات التي تواجه رسم معالم هذا النموذج وجود أشياء نعرفها وأخرى لا نعرفها، وكيف نتعامل مع حالة عدم القدرة على التنبؤ بمسار التطور والتغيير في عالم لا يعرف الاستقرار والثبات.

من التحديات التي تواجه النموذج الثقافي الجديد هي أن المعرفة أضحت مكوناً أساسياً من مكونات “السلطة” إلى جانب العنف والثروة. وذلك في ظل تزامن ثلاث ثورات هي ثوة المعرفة وثورة البيوتكنولوجي وثورة  النانوتكنولوجي، ولكل منها تأثيرها المباشر في الانسان ودوره في المجتمع وفي علاقات الانتاج والقيم التي تحكمها، وهو ما تجسد بالفعل في ظهور مفاهيم جديدة. لذلك النموذج الثقافي الجديد يأخذ بالاعتبار الخصوصية الثقافية وتحملها معنى انساني بأبعاده الاخلاقية والقيمية.

والنموذج الثقافي الذي نريد أن نستلهمه له قواعد منها تعدد المناهج، على أن يأخذ بالاعتبار كل هذه التبدلات التي تخضع لحركة دائمة مشدودة إلى نهضة جديدة لم تتبلور صيغها وأبعادها بشكل واضح بعد.

النموذج الثقافي الجديد ينطلق من وعي اتجاه عام للتطور يتضمن تعدد المناهج القطاعية ويأخذ يالإعتبار تفكك الدولة وتشتت المجتمع وقلق الإنسان الفرد وهو منهج يعتمد على ابتكار الأساليب التطبيقية من أجل الوصول إلى دولة وطنية ذات ثقافة جامعة توفر الشروط العملية لوحدة المجتمع وبناء الإنسان الجديد المبدع والحر.

وبما أن العرب معنيون بكل هذه التحولات، لذلك عليهم العمل على إيجاد نموذج ثقافي جديد، يحتوي كل هذه التغيرات الراهنة والمستقبلية ويواكب تحولاتها المتسارعة ويستوعبها ويستجيب لتحدياتها. وبالوقت نفسه يوّفق بين مقتضيات انخراطهم في تيّار العولمة مع ضرورة تحصين هويتهم الخاصة، وهذا يستلزم منهم وعياً ومنهجاً وفكراً جديداً.

النموذج الثقافي الوطني يتفاعل مع الجماعات المكونة للمجتمع وارتباطه بتطور مختلف القطاعات في المجتمع. هذا النموذج يبقى افتراضياً قبل أن يتحول إلى وعي وسلوك المواطن. وهو أحياناً كثيرة متداخل مع ثقافات الدول المجاورة.

النموذج الأحادي يؤدي الى الالغاء وهذا ما نراه في مدارس متناقضة من مذاهب التكفير إلى النموذج الغربي الأحادي وبالتالي هذه المدارس تُلغي كل ما هو مختلف عنها. العالم العربي بحاجة الى نموذج يؤكد على هويته وتراثه وخصوصيته ويكون بالتالي معاصراً. لايستلهم الغرب الراسمالي فقط  كمركزية لمفاهيمه ، بل يسعى الى ابداع  نموذج ثقافي يحاكي كل ثقافات وحضارات العالم ومنفتح بالتالي على الآخر في الداخل والخارج.

ولكوننا من بلاد عرفت الديانات السماوية والحضارات القديمة، فالعالم العربي هو الاقدرعلى تقديم نموذج يكون نهضة جديدة وقدوة وخلاصا للبشرية. خاصة وأن العالم الغربي غارق بماديته واستعلائه وعنصريته وتجاهله للآخر. وإذا استمر في هذا الاتجاه سيؤدي الى إلغاء غيره المختلف وإلى تدمير نفسه.

لذلك النموذج الثقافي الجديد تعددي بذاته وطبيعته، وهو علمي يستوعب الفكرة الدينية وما تعنيه من قيم وأخلاق بالإضافة إلى التزامه بمعطيات الحداثة والتطور على أنواعها.

النموذج الثقافي الجديد يتجه نحو الغد وهو يتجاوز النموذج الثقافي الواحد الأحد الذي يؤدي تطبيقه إلى إلغاء الآخر المختلف مما يؤدي إلى منطق التكفير والإعدام كما يؤسس إلى ديكتاتورية تفرض منطقها بشكل تعسفي.

****

(*) مقالة صدرت ضمن كتاب أفق السنوي “نحو نموذج ثقافي عربي جديد في عالم متحوّل”  الصادر عن مؤسسة الفكر العربي  24- 4- 2018.

 

اترك رد