منيرة مصباح
تمر الأيام والسنوات مع مجيء شهر أيار لتذكرنا بولادة الشاعر اليوناني يانيس رتسوس الذي تحمل سيرة وعيه لأخرين هو واحد منهم. ريتسوس الذي حمل تاريخه تاريخ بلاده العريقة بفلسفتها وعلومها كما حمل فنونها ليأتي شعره متكئا على الشرط الأساسي للابداع مع موهبته الخلاقة، مع المعرفة المكتسبة، مع الاخلاق بمفهومها الفلسفي المطلق، فذلك يعني ان هذا الجوهر في الابداع الذي يمتلكه هو البحث الدائم عن قيم الحياة الانسانية في الكون.
وهذا الشرط بالطبع لا ينفصل عن القيم الفنية والفكرية الحقيقية المرتبطة بالواقع الانساني في المجتمعات البشرية، وبالتلاحم الروحي للانسان. لذلك نجد ان هناك دائما سؤال ملح يطرح نفسه، انه ذلك المتصل بالعلائق بين الابداع كفن والفلسفة كفكر وبين الحياة المأساوية للانسان. فالذين يعزلون هذا الابداع عن جوهره وعن رباطه الاجتماعي لجعله كيانا ميتافيزقيا فقط يؤدي الى تعقيد المنطق الجوهري للفعل الابداعي، انما يفرغونه من مضمونه وشكله الفني. فالفن في اي عمل ذهني ابداعي يتمثل في التعبير عن رؤية خاصة للعالم من خلال وقائع لا تنفصل عن هذه الرؤية الخاصة لدى المبدع، فهي من ناحية اظهار وجهة نظر ملتحمة بالعالم، وما يجعلها مختلفة هو فكر المبدع وطريقة احساسه الذي خضع بالتالي لتأثيرات كثيرة ومختلفة.
واذا ذهبنا الى شعر ريتسوس، ذلك اليوناني المتأهب دائما في شعره، نرى جذوره ضاربة في التاريخ اليوناني، وهوالذي لم تغره شهادات التقويم الحقيقية، رغم لغو المجرحين، انما نراه قد حمل ابداعه موقفا شعريا تجاه الانسان في كل مكان، معتبرا ما جرى في الماضي اثناء حياته وما يجري الان للفلسطيني ولغيره من مآسي هذا العالم، جزء من قصيدة عامة حركته دائما نحو الغوص في مآسي البشر الدامية وما زال شعره هذا رغم موته وغيابه الجسدي يعبر عن محنة حضارية منتشرة في هذا العصر الذي ترتكب فيه المجازر الوحشية والابادة الجماعية للبشر في غزة وغيرها على هذه الكرة الارضية.
شعر رتسوس تأملي عميق، ملون بالغموض المنبعث من الداخل. لكنه حين كتب عن مآسي الشعوب المعذبة ومنها الشعب الفلسطيني، جاءت كلماته وشعره ليكونا افضل شهادة للعالم وللتاريخ وأكبر وصمة عار في جبين الانسانية والزمن . ان قصائد ريتسوس التي بعثت وتبعث فينا ذلك الألم الحنون على كشف المعاناة البشرية، كانت في الوقت نفسه قد تمكنت منا دراميا، فمعه لم يجدِ ولا يجدي الهروب والاختباء خلف الاصابع لأن قصائده ليست كلمات ومقاطع عرضية او وصفية، انما هي تجسيد فني يدفعنا لان نتكامل في وعينا بجرأة حتى لا نترك مجالا لعباراتنا بالتنازل عن مهمة الاضاءة والكشف والتحدي.
يقول في قصيدة له:
أنهى أباريقه يوما.. أنيات الورد.. شيخ من الطين الخزفي
بقى وعيناه تحترقان.. يمكنك سماعه وهو يغني.. والكلّ حوله
الأباريق الفارغة.. آنيات الورد الفارغة
والألوان الناطقة فوق المساحات البيضاء.
ان المفهوم الابداعي للنشاط الانساني كما نرى في شعر ريتسوس، يرتبط بالشكل والمضمون للفعل المبدع، ويكون المنطق الجدلي هنا هو الأساس، فمن غير الممكن ان يكمن الفن في شكل مستقل عن المضمون، ويكون فاقدا للكثير من قوته وخلقه واقترابه من الحياة العامة للبشر ايضا. كما ان الفنان لاينسخ الواقع ولا يلقن حقائق، انما يبدع كائنات وأشياء تؤلف عالما واسعا وموحدا.
لذلك نرى “لوسيان غولدمن” يقول: “انه قد يوجد ماركسيون ورومانسيون في نفس الوقت يحبون تراجيديات راسين، كما يوجد ديموقراطيون لهم أحكام عنصرية مسبقة، لكنه لا توجد فلسفة حقيقية او فن حقيقي يكون كلاسيكيا ورومنسيا معا، او انسانيا وعنصريا معا”.
وما دام العمل الابداعي عبارة عن عالم من الاشياء والكائنات الملموسة والملتقطة عبر منظور ورؤية معينة، فان ذلك الابداع يصبح متفردا في عالم يُرى لأول مرة بأصالة متجذرة واستثنائية قادرة على التأثير في التطور الفكري والحساسية الوجدانية والروحية التي تُكَوِّن أسساً للانسان المبدع، وهذا ما نجده في شعر ريتسوس، يقول في قصيدة:
اختفى في آخر الطريق.. كان القمر عاليا.. عصفور على الشجر غرّد
قصة عادية بسيطة.. ولم ينتبه أحد أو يلتفت أحد
بين قنديل شارعين.. كانت بقعة دم كبيرة
هكذا يرى الشاعر الدم المنتشر على مساحة العالم، والمتصاعد مع عذابات البشر وصراعهم ضد المجازر التي ترتكب في هذا الكون وفي كل زمن. هنا أرى تساؤلا كبيرا يرتسم أمامي فأقول هل لحظة الكتابة الابداعية هي لحظة المأساة ؟ ام لحظة الفرح الاعزل؟ أو ما بينهما؟
ان الكتابة في لحظة المأساة تفتح اللغة على دروبها السرية فتسير في نشيد يخترق الفعل الإبداعي ليصبح زمن الكتابة تعبيرا أوليا ينفتح أمام احتمال أخر يقود للتناسق نحو أقاسي تخوم التجربة، آتيا من الاحتراق بقضية إنسانية. أما في لحظة الفرح تغيب الحدود الواقعية لتمنح المبدع لغته المعادة في تركيب ساحر، فنتعرف على عوالم لا وجود لها. هنا تبرز سلطة المعرفة، هل هي معرفة مطلقة كبقية مطلقات الحياة منذ النشأة الأولى؟ وهل الأنسان اليوم موجود فيما هو أنساني في عالم يضجّ بالمآسي! تساؤلات كثيرة تنتابي وانا أرى ما يسمى بالحضارة البشرية تنظر الى الإبادة الجماعية لشعب من الشعوب بنظرة بعيدة عن مفهوم الانسان والإنسانية. لكن سيرة ريتسوس التي لم يكتبها لم تنته، والتي يعرف بعض المثقفين ملامحها وهو منهم، حيث يستجمعون خيوطا أخرى لتاريخ يتداخل مع حاضر لا يعترف بحقوق الانسان في العيش على أرضه.
ربما الكتابة الابداعية هي الجواب الاحتمالي من حيث محافظتها على مطلق حريتها في التعبير الملتزم بالهم الانساني لواقع العالم وبالهم الفني للكتابة، حيث يتحتم عليه التوغل في خلايا التجربة الفنية المعاشة كما فعل ريتسوس، وان يتعاطف مع التجربة الواقعية المقروءة منذ ازمان لكي يصبح النتاج الابداعي قادرا على خلق الامل ولو بالحلم المجسد فنيا والذي يقابل كل اشكال الدمار الذي يعيشه الانسان من اجل تجاوز الواقع لمستقبل حياة نريدها ان تكون.