أ.د. ربيعة أبي فاضل
(أديب وروائي وشاعر وباحث- لبنان)
القراءة الأولى
في كتاب لم يلد ذكرًا لم يلِد أنثى. 2014
لا تبحث عَن ملامحِهِ، فلا وَجْهَ يُحدِّدُهُ، ولا قامة تَحرسُه، ولا صوت يُشيرُ إليه،إنَّهُ شَبَحٌ في حدادٍ دائم،ولا من يعزّيه.
لا تبكِ معهُ، ولا تَضحَكْ في ساحاتهِ، ولا تطفئ غضبه، إنه وحيدٌ، شاردٌ،صامتٌ،يصفّقُ العابرون طريقَ بيته، ويصفّرون، ويُرنّحون الرؤوس!
ولا تصرخ معه حتّى الاختناق، ولا تصلِّ صلاة اليأس الجارح، فهو غريب يعبرُ الوعر والقمم من أجل مزاميره الضائعة، ونسوره المنازعة كشجر لبنان!
ولا تفتحْ عينيكَ على المقابر حيثُ ينوح، وعلى الشوارع حيثُ يجوع، وعلى عنكبوت الذاكرة حيثُ تداعبهُ حبال الهواء، إنّه يحصد من المرارات الحنان، ومن الإبحار الإيمان، ومن الفاوستية الحكمة.
ولا تضع أصبعكَ فوق جرحِهِ فهو عميق، وخفيّ، وغزير، وكلُّ شيء من حوله موحشٌ، أو مظلمٌ، أو مسوّرٌ، ولا سراجَ يُضيءُ ولا باب يُفتَح، في غابةٍ آدميوها ينهشون طراوة الأطفال، ونقاوة القمح، ونداوة البراءة!
ولا تفسّروه، وهو يُمَثِّلُ دورَهُ، بين الجموع، بقراءاتٍ باهتة، وتأويلاتٍ باردة، فهو حالة انتظار وانكسار، وإصرار على تليين التناقضات كي تُزهِّرَ، ودراما الخارج كي تُخصِّبَ، في القلب، حدائقَ من ورد، وزنبقٍ، وطمأنينة!
ولا تتساءلوا إلى أين، ولماذا، فهو الحالم بجنّتينِ مُدْهامّتينِ في أعماق ذاتِه، يحاول الريّ بالدّمعِ، ومزج الأخضر بالأسود، ونسجِ أسطورتِهِ الخاصة بأشعة شمسِ عينيهِ، محاولاً، كما جاره حليم جرداق، الفنان الراقي، بعث الإله الراقد فيه، منذُ تفتّحت في الكيان براعم الرؤية.. وشرعتِ السماءُ تُناديه!
أمَّا رسوم مروان مجاعص، فأنغامها راقية، وهيكلها لطيف، وروحها عميقة، وفيها مهابة الإلهام، ورهافة الفن، وعذوبة التآخي مع الجمال. وصاحبها إنسان ماهر، وأيقونة مباركة، وصمت يناديك لتصغي إلى همسهِ البعيد!
القراءة الثانية :
في الكتاب الذي صدر بلا عنوان مع دار نلسن (2010)
الشَّاعر هذا يريد إيجاز الوجود: الطَّريق والزَّمان والمكان والرِّحلة، لكأنَّهُ يسعى في حياةٍ واحدة، إلى إنجاز الحياة والقصيدة، الذَّات والآخر، السَّماء والأرض، وهو في حركة لا يتعبُ ليلها، ولا يضجرُ نهارها، يتنقَّلُ من شارعٍ إلى عبارة، ومن سجن إلى قمّة جبل، ومن حلمٍ إلى واقع، يحدّق إلى الدُّنيا، يعيد تشكيلها، وإلى اللُّغة يأكلُ وهرتها، وإلى إيقاع المجتمع فيغضب كالمجانين، يريد الأشياء في نقائها الأوّل وهي موحلة، يريدها كاملة وهي تئنُّ من غربةِ نقصها، يصرخُ بلا استكانة، لهُ خطابه، وفهمه الخاص، ورؤيته. وتراه لا يحصّل الثَّقافات، إلا لتكون خادمة على باب موهبتهِ، يُظَلِّلها بمهابة قامتهِ، ولو قدّر له أن يعايش الجاحظ أو التَّوحيدي أو بديع الزَّمان، لجعلوهُ بطلاً من أبطالهم، غريب المزاج، غنيّ التطلّع، مَهضوم الحق، كما فقير البصرةِ في “المقامة البصريَّة”.
الموت لا يختاره صاحبه، وهو يريد، شاهدًا وشهيدًا، تحدّي طريقة الناس في العيش، وأساليبهم في التفكير، وعلاقتهم بعضهم ببعض، وأنماط حياتهم، والموت. ويأتيكَ بصفاتٍ تعكسُ عمقهُ، وسخريتهُ، وثورته، ونباهة موقفه: من الضحكةِ العارفة، إلى البسمةِ البعيدة إلى الأنوثة المحطَّمة إلى الشَّوارع الحافية، إلى الوطن الدّاعر والبكاء العاقل. وتثيرك التجربة بحرارتها، فالناس يعبرون الطرقات، في حين “فوق أكتاف المتسوّلين تعبرُ الطرقات والجسور”، ويكرِّر السؤال، من ابن البشر، في هذا الفضاء الكوني النائي:”لمن أرفعُ وجه السَّنابل/لمن أرفعُ تحيَّة العصافير/والسماءُ مبتورة” وفي الضحايا، ينهى عن المبتورة، ما يوحي ليس وحسب بانقطاع الذَّنب بل بانكسار الرَّجاء.
وتَجِدنَّ قلب “الدِّمشقي” يرنُّ كالمزمار، ويَئنُّ كالنَّاي، كائنًا متوقِّدًا يغدو، يعودُ إلى الأرض بعدَ تعبٍ، فيرى أنَّهُ في أمَّةٍ لا تخلص، كما قالت مراثي إرميا. وإلى متى الصراخ، والأزليّ بعيد، وما يقدِّمهُ الزَّمان للإنسان، لا رحمة فيهِ ولا عدل، وهذهِ الآلهة التي تفتحُ أعينها كلّما أشرقت شمسٌ، إنَّما تحيا بالزّور، وتلعن النور.
أدهم الدِّمشقي، أصبحتَ الآنَ صديقي، لأنَّكَ لستَ مجرَّد طالب بارد، يعبر أروقة الجامعة، ويظلُّ طوال حياتِهِ سجين الشَّهادة-الورقة.
القراءة الثالثة:
في كتاب ” لو أني اللّه” 2009
أيّ دُهم الله هو هذا الطّالب،يدخل الصف في كلية الآداب،شالٌ أحمر، قبعة سوداء، قامة جديدة غريبة، تُذكِّرُ بالحدائق التي تُنشد وهي صامتة، وبالربيع الذي ينشر الفرح وهو على وداعة وهدوء؟
أيُّ كائن هو هذا الآتي من ينابيع الحكمة، لهُ جناحان: اللون والكلمة، يطير بهما في الليالي الباردات، لا ينام كي لا يعبر العمر خلسةً، لا يستسلم للسكون كي لا ينأى عن الحركة، يحث الحياة على المزيد من الدفء والخلق؟
أي إطلالة تقبل من المجهول،فيها عمق الحكمة،بلاغة القرآن، بهاء المسيح، فضاءُ سعادة، ترقّ كالزيتون، تتجدَّد كالصنوبر، تحمل ألوان السّنونوات من الجبل لتلوّن هموم الساحل، وتوزّع الأحلام على الأيام الرّتيبة؟
أي ريشة تصطادُ في الجبال أنوارَ الروح، وفي المدن تحنو على حرائق الجسد؟ أيّ قلمٍ يطير وراء الجمال، يحطّ في أمكنةٍ القهرِ حيث المعاناة تهز الذات؟ أي طائرٍ هذا ينطلقُ من فضاء خليل حاوي عند السّحر؟
أدهم الدمشقي:وجهٌ لا يهدأ،لسانٌ يعشق السموّ،حوارٌ يشعل كل ما حولهُ، تجربةٌ تضيق اللغة بإزاء حرارتها، يتحرَّر من حدودها، يخلق لها مساحات.
يخترق الواقع والمتخيَّل، يقتحم الآتي، والمدهش، وغير المتوقَّع، يغامر ويبدأ دائمًا لكونه لا يعرف نهاية.
اقرأ لهُ يتأمَّل المصلوب:
” إنزل عن الصّليب
لا تكملْ
دعهم يموتون
هؤلاءِ لا يُحبّون الخلاص”
اقرأ لهُ يلوّن عالمهُ الآخر:
“سأمنعُ هجرةَ الطيور
لن يرحلوا
لن يرحلوا
في يدي الفضاء
والأرض اتساع عروقي”
شاعرٌ وفنَّان يتحلّى بالجدّ، يبحث عن لغةٍ جديدة، ومشاهد مختلفة.يصدمهُ الواقع،لكنَّهُ لا يستسلم..فقد شرَّع أبوابًا على المطلق،وقرَّر أن يكون لرحلتهِ على الأرض معنى.أن يكون لجهدهِ الفردي بُعد إنساني.أن ينتمي إلى هذه الأمَّة التي أعطت الأنبياء والشّعراء وأبناء الحياة.
القراءة الرّابعة:
عندما فقد جبران أباه في السجن، وفي حضن المنية، ارتمى في رحمين عميقين، رحم الأم كاملة ورحم الغربة.. رحم اللون ورحم الكلمة…
وعندما فقد بودلير أباه، حاول أن يقهر الموت بجسده، فأحيا كل أنواع اللذات، ومات، وتحدّى أمّه والرجل الذي نافسه على قلبها. وتقاليد الأيام!
وعندما فقد أبو شبكة أباه، تبعثرت نفسُهُ كالزجاج، وراح يجمع الكِسَرَ بأصابعه المدناة، وبروحه الدامعة، التائبة الشاعرة.
وعندما فقد أدهم، صاحبنا أباه، انتظر الشمس متى تُشرق، كي يتذوق الدفء وانتظر القمر متى يورق كي يرقص له، ويقطف من ثماره، لكن الشمس والقمر باردان! وكل ولادة موت، وكل موت ولادة.
هذا الغريب لا يتسع لهُ رحم امرأة، ولا يكفيه عمر قليل، وهو يعبر فوق جسده مكتفيا بظلّه، يحاور بصمت روحه الهاربة من كل شيء، مكتفيًا بألحان الألم في طريق المغامرة والسفر، مكتفيا بهجاء الكواكب النائية، يتحدى القدر وهو يخرج من سيارة أرسلها الشيطان ليؤدب شاعرا يهوى الجمال…
ولا يملك الشاعر بعد فُقدِ الأب، سوى سلطة أن يولد من جديد، بالكلمة أو باللون، أو بالإيقاع أو بالحب، كي ينسج أبًا آخر من الدّهشة، وأبًا من الفقر، وأبًا من التمرّد، وأبًا يتغنّى ببهاء المعاناة ونورها. هذا الشاعر أُعطيَ نعمة المعاناة، أعطي أن يبني بيتهُ فوق الكلمة واللون.
وأدهم لا يقتُلُ أباه لأن الحياة قتلتهُ، وجَدَه مقتولا، وهو لا يجرح شجرة أمه بظُفر بل يحيطها بمياه عطفه، ويستعين بملامح حزنها كي يحيي ملاحمه، إنها حزينة، وذلك سر ثروتها وثروته، وهذا الشاب يتلفتُ إلى زمانه بحذر وإلى المكان بضجر، يتعالى على البيئة ساخرًا، ساهرًا، محيطًا المرارات، مرددًا أناشيد الطفر والظفر، إنه يحب لأن في كلماته الشعرية نبض قلب فارغ وحرارة حياة لا تحيا، وحركة وسط الضباب، فلا النقطة تستريح، ولا الفاصلة تصل، ولا النقطتان تستكينان..فهذا الناهض فوق علامات الوقف، والوقت يأتي من غابات ذاته عاصفة، أو ريحًا أو زوبعة راعبة، يُداعب اللغة بنحوها الجديد الطالع من فجر الذات، وليس من عتمة اللغات، يُداعبها بحلاوة الفوضى، بنقاوة الحرية، ببياض الليل، بسحر الحروف!
أدهم فقد أباه لذلك حلَمَ بأن يولد من آخر لا يموت، وارتمى… معلقًا على صليب الدنيا في انتظار قيامة الحياة.